الفتوحات المكية لابن عربي في تحقيق جديد

إذا كان الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي هو «بوابة الإسلام الموشَّاة بسجوف الحكمة والحبِّ» في ما يؤكد شاعر ألمانيا الأكبر جوته؛ فإن نصَّ «الفتوحات المكية» يظل الباب الرئيس لعالم ابن عربي الذي يتم استدعاؤه اليوم في ربوع الأرض كافة بوصفه نموذجاً للفكر الراقي المتسامح القابل للتعدد.

الفتوحات المكية لابن عربي في تحقيق جديد

إذا كان الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي هو «بوابة الإسلام الموشَّاة بسجوف الحكمة والحبِّ» في ما يؤكد شاعر ألمانيا الأكبر جوته؛ فإن نصَّ «الفتوحات المكية» يظل الباب الرئيس لعالم ابن عربي الذي يتم استدعاؤه اليوم في ربوع الأرض كافة بوصفه نموذجاً للفكر الراقي المتسامح القابل للتعدد.

ومع هذا، فقد طال كتاب «الفتوحات المكية» الكثير من الظلم، ليس فقط في ما يتعلق بتكفير صاحبه؛ وإنما أيضا بسبب نشره من دون تصحيح، وبسبب عدم فهم الكثيرين للغته المجازية التي كانت تكتفي بالإشارة بعد أن ضاقت العبارة عن نقل ما في الروح الصافية من مكنونات، ناهيك عن اتسامه بالغموض في كثير من المواضع. ونضيف إلى ما سبق، عدم صدور طبعة معتمدة على النسخة الأصلية التي كتبها الشيخ الأكبر بنفسه ومقارنتها بالنسخ الأخرى!

الغريب في الأمر، في ما يشير مقدم الكتاب الدكتور عبد العزيز المقالح، أن بعض المستشرقين الأوروبيين الذين نقلوا كتابات ابن عربي إلى لغاتهم كانوا أكثر دقة وحرصاً على التثبت من مقاصد الشيخ وأسلوبه، فكانوا يُفرقون بين «فائض المعرفة» لديه و «فائض الجهل» لدى الناسخين، ما دفع جوته إلى القول: «إذا كان هذا الشيخ محيي الدين بن عربي قد عاش بيننا على الأرض يوماً من الأيام، وكان بهذا العقل والحكمة والرؤية، فإنني أعترف بأن كل من لن يُصب فطرة الإسلام على يديه فإنه قد خسر كثيراً، ولكان ابن عربي أحق بأن يكون بوابة الإسلام الموشّاة بسجوف الحكمة والحب».

ونظراً لذلك كله؛ قام الأستاذ عبد العزيز سلطان المنصوب بإعادة تحقيق نصّ «الفتوحات المكية» (ضمن مطبوعات المجلس الأعلى للثقافة بمصر) وتفنيد جملة الافتراءات المتعددة التي أطلقها الخصوم بحق الشيخ ابن عربي، وفي مقدمتها: اتهامه بتقديم الولاية على النبوة استناداً لبيت شعري له في «الفصوص» يقول فيه: مقامُ النبوَّة في برزخٍ، فُويْقَ الرَّسُولِ ودُونَ الولي!، فيما أصلُ البيت غير موجود في «الفصوص»، وإنما في «لطائف الأسرار» ونصُّه: سماءُ النبوةِ في برزخٍ، دُوَيْنَ الولي وفوْقَ الرَّسُول! فضلاً عن أنه تكفل بشرح هذا البيت حين أوضح أنَّ الولاية بمثابة الدائرة الكبرى التي تنتظم فيها: الرسالة، والنبوة؛ فكلُّ رسول لا بدَّ أن يكون نبياً، وكل نبيٍّ لا بدَّ أن يكون ولياً، ومن ثمَّ كلُّ رسولٍ لا بدَّ أن يكون ولياً، فالرسالة خصوص مقام في الولاية.

أيضا من أكثر الاتهامات التي وُجِهتْ  للشيخ الأكبر، استناداً للنسخ المغلوطة، اتهامه بتصويب العقائد كلها!

يقول ابن تيمية: وكما يقول أصحاب وحدة الوجود، كابن عربي ونحوه، بأن كل من اعتقد في الله عقيدة فهو مصيبٌ فيها، حتّى قال: عقَد الخلائقُ في الإله عقائدا، وأنا اعتقدتُ جميع ما عقدوه! والواقع أن الشيخ الأكبر لم يقل البيت كهذا؛ بل كتبه بخط يده في «الفتوحات المكية» هكذا: وأنا شهِدتُ جميع ما اعتقدوه! والفارقُ كبيرٌ بين الكلمتين.

وينتهي المحقق في مقدمته إلى ترجيح إمكانية التدليس على نصَّ الشيخ الأكبر، كما حدث مع أبرز حالات التحريف المتعلقة ببيتيه: الرَّبُ حقٌ والعبدُ حقٌ، يا ليتَ شِعري مَنْ المُكَلِّف؟ إنْ قلتُ عبدٌ فذاك ميتٌ، أو قلتُ ربٌ أنّى يُكلَّفْ؟! فقد قيل أنه ذكرها في أربعة من كتبه، وهي: مواقع النجوم، والتنزلات الموصلية، وكتاب المسائل، وفي الصفحة الأولى من «الفتوحات المكية»، ونصُّها: العبدُ ربٌ والرَّبُ عبدٌ، يا ليتَ شِعْري مَنْ المُكَلِّفْ؟، إنْ قلتُ عبدٌ فذاكَ ربٌ، أو قلت ربٌ أنَّى يُكلَّف؟، بينما لم ترد الأبيات في كتاب المسائل، ونصها في الكتب الثلاثة الأخرى وفق الرواية الأولى وليس الثانية!

ومع ذلك يؤكد ابن تيمية أنه وجد نصّ الشطر الأول من البيت الثاني بخط الشيخ الأكبر أوّل «الفتوحات المكية» بلفظ: «إنْ قلتُ عبدٌ فذاكَ ربٌ»! وفي موضع آخر يذكر أنه رآه بخطه هكذا: «إنْ قلتُ عبدٌ فذاكَ نفيٌ»، وهاتان الشهادتان تسقطان أمام النص المكتوب بخط الشيخ الأكبر في الصفحة رقم 3 من «الفتوحات المكية»!

ولهذا فإن الاتهامات الموجهة للشيخ الأكبر مبنية، بحسب المحقِّق، على عبارات له جرى تغييرها أولاً لكي يسهل انتقاده وهي في حلتها التي صارت إليها من قِبلهم! ويتساءل نتيجة لذلك: إذا قَبِلَتْ هذه العبارات النقد أو الحكم بالتكفير؛ فإلى من ينبغي أن يوجَّه هذا النقد أو ذاك التكفير: للشيخ الأكبر الذي لم يقلها؟ أم لمن غيّرها؟

على أن أقوال ومواقف ابن تيمية من الشيخ الأكبر لم تصل به إلى ما وصل إليه أصحابه في ما بعد، مما يفتح الباب أمام افتراض آخر يقضي بإمكانية تعرُّض كتب ابن تيمية أيضاً للتحريف من قِبل بعض أتباعه في العصور المتأخرة بهدف النيل من الصوفية، ولكن بلسان ابن تيمية!

فوفقاً لتلميذه الحميم شمس الدين الذهبي؛ فإن قناعة شيخ الإسلام قد انتهت إلى عدم تكفير أحد من الأمة، فكان في أواخر أيامه يقول: «أنا لا أكفر أحداً من الأمة».

وأيضا فإنه لم يُخفِ إعجابه أول الأمر بالشيخ الأكبر، يقول في مجموع الفتاوى: «وإنما كنت قديماً ممن يُحسن الظنَّ بابن عربي ويُعظمه لما رأيتُ في كتبه من الفوائد: مثل كلامه في الفتوحات، والكُنْه، والمحكم المربوط، والدرة الفاخرة، ومطالع النجوم».

أخيراً تأتي الطبعة الجديدة من «الفتوحات المكية» بعد مرور ثمانية قرون منذ أن بدأ الشيخ الأكبر إعادة صياغتها، فنسخ آلاف الصفحات بخط يده. وقد ظهرت نسختها الأولى المطبوعة في العام 1329هـ بعد مرور سبعة قرون بالتمام من انتهاء مؤلفها من مسودته الأولى عام 629هـ. وقد ذكر الشيخ عن إتمامه: «هذا هو الأصل بخطي، فإني لا أعمل لتصنيف من تصانيفي مسودة أصلاً». وتستغرق النسخة الثانية 10544 صفحة بخط يده، قسمها إلى 37 سفراً، وضمنها 560 باباً، بعدد السنوات من العام الأول للهجرة حتى عام مولد الشيخ الأكبر.

وفي الصفحة الأخيرة بقلم ابن عربي: «انتهى الباب بحمد الله بانتهاء الكتاب على أمكن ما يكون من الإيجاز والاختصار على يدي منشئه. وكان الفراغ من هذا الباب، الذي هو خاتمة الكتاب، بكرة يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وثلاث مئة». وجدير بالذكير أن الشيخ الأكبر قد أهدى هذه النسخة قبل وفاته إلى تلميذه صدر الدين القونوي، ففي الصفحة الأولى بخط الشيخ الأكبر: «رواية مالك هذه المجلدة محمد بن إسحاق القونوي عنه» مما يشي بانتقالها فعلاً إليه، وبالقرب منها يحدد القونوي موعد ذلك الانتقال بقوله: «انتقل هذا السفر وسائر الكتاب من منشئه شيخ الإسلام، أيده الله تعالى، بحكم الإنعام إلى خادمه وربيب نظره محمد بن إسحاق ... في شهور سنة سبع وثلاثين وست مئة».

وختاماً؛ إن التحقيق الجديد للفتوحات المكية لا يدفع تهماً عديدة فقط عن مؤلفه، بل يتيح النص كما هو بخط مؤلفه. وكانت الطبعة الأولى للكتاب، وهي المعروفة بطبعة بولاق، قد صدرت عام 1274هـ= 1858م في عهد الخديوي محمد سعيد باشا وذيلها أشهر محققي مصر آنذاك، محمد قطة العدوي، بنبذة مختصرة تتضمن ترجمة صاحبه وذكر شيء من مآثره ومناقبه ملخصاً ذلك من كتاب نفح الطيب. ونظراً للأخطاء العديدة التي شابتها فقد أوعز الأمير عبد القادر الجزائري إلى اثنين من العلماء هما: الطيب بن الشيخ محمد المبارك، والشيخ محمد بن مصطفى الطنطاوي بالتوجه إلى قونية على نفقته الخاصة ومقابلة النسخة المطبوعة مع النسخة المكتوبة بخط ابن عربي.

ورغم تقلص الأخطاء في النسخة الثانية؛ تم تكليف الدكتور عثمان يحيى من قبل جامعة السوربون ومنظمة اليونسكو بتحقيق الكتاب، وقد استغرق قرابة 18 عاماً في الأعمال التمهيدية وظهر السفر الأول 1972 وتوالى ظهور باقي الأسفار حتى السفر 14 عام 1992 وتبقى 23 سفراً لم تحقق بسبب وفاة عثمان يحيى.

التعليقات