الاحتلال و"الكذب الإسرائيلي المتفق عليه"!/ أنطـوان شلحـت

تعريف: صدر حديثا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- "مدار" العدد 65 من سلسلة "أوراق إسرائيلية". وفيما يلي التقديم الكامل له

الاحتلال و

 [تعريف: صدر حديثا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- "مدار" العدد 65 من سلسلة "أوراق إسرائيلية". وفيما يلي التقديم الكامل له]:

يضم العدد رقم 65 من 'أوراق إسرائيلية' ترجمة لتقريرين جديدين صدرا في إسرائيل أخيراً حول موضوع رعاية مؤسسات الدولة الإسرائيلية الرسمية للمشروعات والممارسات الاستيطانية المتعدّدة في المناطق الفلسطينية:

الأول، تقرير هو عبارة عن تحقيق أجراه 'مولاد - المركز لتجديد الديمقراطية في إسرائيل'، حول نشاطات 'وحدة الاستيطان' العاملة في إطار 'الهستدروت الصهيونية العالمية' التي تعتمد ميزانيتها على أموال عامة، يثبت بالاستناد إلى أحدث المعطيات والوقائع أن هذه 'الوحدة' أضحت بمثابة 'الخزينة الخاصة والسرية لليمين الاستيطاني' التي تستخدمها الأحزاب المتماثلة مع المشروع الاستيطاني في المناطق الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، وفي مقدمها حزبا 'البيت اليهودي' و'يسرائيل بيتينو (إسرائيل بيتنا)'، بهدف دفع وتعزيز مشاريع الاستيطان والتوسّع في أراضي الضفة الغربية، وتوطيد القاعدة السياسية والأيديولوجية لهذا اليمين الاستيطاني في سائر أنحاء الدولة.
الثاني، تقرير يلقي أضواء كاشفة على المدلولات الحقيقية للمنطقة الصناعية 'نيتساني شالوم' ('براعم السلام') التي أنشئت العام 1985 على خط التماس في شمالي الضفة الغربية بمحاذاة مدينة طولكرم، وتضافرت فيها عدة شرور مستطيرة لدولة إسرائيل أنتجت توليفة سامة وبغيضة بشكل خاص هي عبارة عن سيادة يهودية فظة ممزوجة بجشع جامح واستغلال بشع للعمال وتلويث للبيئة والهواء والماء بعديد من المواد الكيميائية السامة، وكل ذلك وسط انتهاك لكل القوانين الدولية وحتى الإسرائيلية. ونتج عن هذه المنطقة وما يزال ينتج طوال الوقت، ما يسميه الكاتب 'الفطر السام للاحتلال والاستغلال'.

إن الخيط المشترك الذي يربط بين التقريرين، فضلاً عن كمّ المعلومات الدامغة المُتضمّن فيهما، يكمن في إشارتهما إلى أن الحقائق التي يوردانها واضحة لكل من في رأسه عينان على نحو جليّ للغاية، ومع ذلك ثمة حاجة في إسرائيل إلى جهد كبير من أجل ملاحظتها.

ولئن كانت هذه الإشارة تتوخّى قول شيء محدّد، فهو أن مثل هذه الرعاية التي تحظى بها المشروعات والممارسات الاستيطانية في المناطق الفلسطينية من جانب خزينة الدولة الإسرائيلية والجهات الحكومية المعنية ما كانت لتمرّ مرور الكرام لولا وجود رأي عام يؤيدها، ولولا تجند وسائل إعلام تتغاضى عنها بالمطلق إلى درجة التواطؤ معها بالصمت لصرف الأنظار عنها.

وبحسب ما يؤكد كاتب التقرير حول 'نيتساني شالوم' الأستاذ الجامعي الإسرائيلي عيدان لاندو في تقرير آخر له حول الموضوع ذاته، فإن أحد 'الإنجازات' المثيرة للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي (في الضفة الغربية) يتمثل في رسوخ صورة كاذبة للواقع في وعي معظم الإسرائيليين. 

ووفقاً لهذه الصورة الكاذبـة، فقد قادت هذا المشروع الاستيطاني في البداية أقلية مسيانية هزيلة، كبرت وازدادت بمرور الأعوام، لكنها ما زالت أقلية. وقد نجحت هذه الأقلية في خداع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، واحدة تلو الأخرى، ومن ضمنها حكومات 'معتدلة'، وفي جرّ إسرائيل بصورة أعمق إلى مستنقع الاحتلال الآسن، خلافاً لرغبة ومصلحة غالبية المواطنين الإسرائيليين. وبحسب تلك الصورة الكاذبة ذاتها، فقد باتت الدولة بأكملها على اختلاف أذرعها السلطوية رهينة في يدي أقلية قومية متطرفة تتصرّف بها على هواها.

غير أن هذه الصورة، التي رسخت حتى في أذهان 'اليسار' الإسرائيلي، هي صورة خادعة ولا أساس لها، وهناك كم هائل من الدلائل يثبت أن الدولة ذاتها تستسلم طوعاً لتلك 'الأقلية'، بل وتحدّد لها أحياناً أهدافها، نظراً إلى أن النظام السياسي لهذه الدولة له ثلاث أذرع: السلطة الحاكمة والمستوطنون والجمهور اليهودي، ولكل واحد منها أسبابه المخصوصة لمواصلة تنمية وترسيخ تلك الصورة الكاذبة التي تدعّي أن 'أقلية متطرفة تجرّ دولة بأكملها'!.

وقد تزامن صدور هذين التقريرين مع تأديـة تفاقم جرائم 'جباية (تدفيع) الثمن' التي ترتكبها جماعات استيطانية يهودية ضد الفلسطينيين وأملاكهم في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر في الآونة الأخيرة، إلى إعادة استعمال آلية الكذب هذه المتفق عليها إسرائيلياً بشأن المستوطنين، والتي تدعي من ضمن أمور أخرى أن هذه الجماعات لا تعدو كونها 'أعشاباً ضارة'، ولا تعكس 'المشهد الحقيقي' لمشروع الاستيطان الصهيوني، وأنها- كقول وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه آرنس- عبارة عن عصابات رعاع يهود غايتها مماثلة لغاية السياسيين العرب في إسرائيل، وهي دقّ إسفين بين المواطنين اليهود والعرب في الدولة، والحؤول دون اندماج العرب في المجتمع الإسرائيلي.

وكان ثمة من فضح هذه الآلية وإن بصورة مواربة، وفي مقدمهم الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز الذي أكد أن تعابير مثل 'جباية الثمن' و'شبيبة التلال' التي تطلق على هذه الجماعات هي تعابير تزويقية، وأنه حان الوقت كي تتم مواجهة المسخ وتسميته باسمه الحقيقي، معتبراً أنها جماعات نازية جديدة عبرية، وأنه ليس هناك أي شيء يفعله النازيون الجدد في عصرنا ولا تفعله هذه الجماعات هنا. وأضاف أن الفارق الوحيد قد يكون كامناً في أن الجماعات النازية الجديدة هنا تحظى بدعم عدد غير قليل من المشرّعين القوميين وربما العنصريين، وكذلك بدعم عدة حاخامين يقدمون لهم فتاوى تُعتبر برأيه زائفة دينياً.

وعلى ذكر جرائم 'جباية الثمن' لا بُدّ من التنويه بحقيقة أن رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي بنيامين نتنياهو ما انفك يرفض توصية تقدّم بها قبل عدة أعوام وزيرا الأمن الداخلي والعدل وتنص على اعتبار جماعة 'شبيبة التلال' الاستيطانية التي تنفذ هذه الجرائم مجموعة إرهابية، ما يشف عن جوهر تعامل المؤسسة السياسية والأجهزة الأمنية مع هذه الجماعة.

وفقط بعد قيام هذه الجماعة بارتكاب اعتداءات على ضباط الجيش الإسرائيلي وجنوده في المناطق المحتلة، أعلن الناطق بلسان الجيش أن هذه الاعتداءات تشكل تجاوزاً للخطوط الحمر، ما حمـل القاضي الإسرائيلي المتقاعد بوعز أوكون، محلل الشؤون القانونية في صحيفة 'يديعوت أحرونوت'، إلى التأكيد أن هؤلاء الضباط والجنود وقادة الجيش يملكون وسائل كافية لحماية أنفسهم، بينما الاعتداءات الأخطر هي تلك التي يرتكبها المستوطنون ضد السكان العرب، وهؤلاء لا يوجد من يوفر الحماية لهم على الإطلاق.

وأضاف أنه بناء على ذلك، يتعيّن على كل من أعرب عن صدمته الكبيرة إزاء اعتداءات ناشطي اليمين على الجيش أن يدرك أن مثل هذه الاعتداءات يتعرض لها الفلسطينيون يومياً في جميع أنحاء المناطق المحتلة. ولعلم الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي فإن الخطوط الحمر تم تجاوزها منذ فترة طويلة، والراية السوداء باتت مرفوعة في المناطق المحتلة منذ أعوام كثيرة، وما يسود في هذه المناطق هو نظام أبارتهايد بكل ما في هذه الكلمة من معنى.

بالإضافة إلى ذلك فإن العنف الذي يُمارس ضد الفلسطينيين تحول برأي أوكون إلى آفة مُعدية، وكل من يعتقد أن المشكلة كامنة فقط في عدم تطبيق القانون يرتكب خطأ فادحاً، ذلك بأن القانون الإسرائيلي الذي يُطبّق في المناطق الفلسطينية هو قانون سيّء وغير عادل من أساسه. ويجب ألاّ ننسى أن المنظمات المتعددة التي تحاول أن تقف في وجه هذا القانون، على غرار 'جمعية حقوق المواطن'، و'يش دين' ('يوجد قانون')، و'بتسيلم'، تتعرض منذ عدّة أعوام لحملة شرسة من جانب الحكومة الإسرائيلية تهدف إلى كم أفواهها. صحيح أن العنف في المناطق المحتلة تحوّل إلى عادة روتينية، لكن سبب ذلك يعود أساساً إلى حقيقة أن السلطات المسؤولة عن تطبيق القانون تغض الطرف بصورة منهجية عن ممارسات الاحتلال والمستوطنين إزاء السكان الفلسطينيين وأملاكهم. ومن الطبيعي ألاّ يبقى خطر هذا العنف منحصراً في الفلسطينيين فقط. وبرأيه على جميع الذين اعتبروا أن الاعتداء على جنود الجيش الإسرائيلي عمل خطر للغاية أن يدركوا أن الاعتداءات على الفلسطينيين لا تقل خطراً عنه إن لم تكن أشد وأدهى لأنها تجري تحت سمع وبصر الجهات المسؤولة عن تطبيق القانون.

كما استنتج محلل الشؤون الاستخباراتية يوسي ميلمان أن جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) لا يتعامل مع المتطرفين اليهود المشتبه بهم بارتكاب أعمال إرهابية مثلما يتعامل مع المشتبه بهم العرب، وإنما يغض الطرف عن اليهود، مؤكداً أن هذا المسلك يشكل إخفاقاً مقلقاً لهذا الجهاز من شأنه أن يعرّض النظام في إسرائيل للخطر. وفي المقابل يحظى المعتدون بتسامح القضاة الذين يقللون من قدر أعمالهم ويفرجون عنهم أو يحكمون عليهم بعقوبات طفيفة، ويحظون بعجز الشرطة والجيش الإسرائيلي المتعمد على ما يبدو. وتساهم الصحف اليهودية الإسرائيلية أيضاً بأن تتبنى مغسلة كلام المستوطنين الذين يسمون هذه الأعمال 'جباية الثمن'، كما لو أن الحديث يدور حول مادة استهلاكية في حانوت، بينما يجب أن نقول الحقيقة وهي أن ما يفعله المستوطنون بجيرانهم الفلسطينيين هو إرهاب بكل ما في الكلمة من معنى.

وقد أثبتت هذا كله تصريحات الرئيس السابق لجهاز الشاباك كرمي غيلون أن بإمكان هذا الجهاز في غضون فترة وجيزة وضع حدّ لجرائم 'جباية الثمن' في حال اتخاذ المؤسسة السياسية الإسرائيلية قراراً يقضي بمكافحة هذه الجرائم أسوة بأي جرائم أخرى ذات طابع إرهابي. وأكد أن مكافحة هذه الجرائم لم تنجح حتى الآن بسبب عدم وجود نية حقيقية لمكافحتها. وقال إنه لا يعقل ألا يكون بوسع جهاز الشاباك مواجهة هذه الجرائم، لكن يبدو أنه لا توجد رغبة كافية في خوض مواجهة كهذه لدى الجهات الأمنية المختصة.

وكان يوسي ميلمان قد عقب على تقاعس المؤسسة الأمنية الإسرائيلية عن وضع حدّ لهذه الجرائم قائلاً: إن الأشخاص الثلاثة الذين تولوا رئاسة جهاز الشاباك خلال العقد الأخير - وهم الرئيسان السابقان آفي ديختر ويوفال ديسكين، والرئيس الحالي يورام كوهين- خريجو فرقة هيئة الأركان العامة النخبوية (سييرت متكـال)، ومن المؤكد أنهم لم ينسوا العبارة القائلة: 'ليس هناك لا أستطيع، وإنما لا أريد'!.

في سياق آخر، يتطرّق التقريران إلى دور جهاز القضاء الإسرائيلي وعلى رأسه المحكمة العليا في تطبيع حالة الاحتلال، ما يحيل إلى استنتاج إضافيّ سبق أن استخلصه أستاذ جامعي إسرائيلي آخر (أفيعاد كلاينبرغ) من إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون، أخيراً، أن نحو ألف دونم من الأراضي الفلسطينية في منطقة الخليل وبيت لحم أراضي دولة من أجل توسيع المستوطنات، وفحواه أنه تطوّرت في إسرائيل صناعة كاملة من 'اللاقانون الذي يظهر بمظهر القانون'. وأشار إلى أنه ظاهرياً توجد في المناطق الفلسطينية الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي إجراءات قانونية، لكن ما يحدث في واقع الأمر هو عمليات سلب وضم ضخمة تشترك فيها المحاكم، وبناء على ذلك يمكن القول إن جهاز القضاء الإسرائيلي هو وسيلة مهمة لإضفاء الشرعية على ضم الأرض الفلسطينية.

هناك جانب آخر مهم في التقرير الأول يتعلق بسعي اليمين الاستيطاني لنقل نشاطه إلى منطقة 'غوش دان' في وسط إسرائيل باعتبارها المنطقة التي تقطن فيها غالبية الشعب الإسرائيلي، وتشكل في الوقت ذاته مركز اتخاذ القرارات. وعلى الرغم من أن الهدف المعلن لهذا النشاط هو 'إعادة روح التوراة واليهودية إلى شعب إسرائيل في منطقة الوسط'، إلا إن نشاطات هذا اليمين من حيث الجوهر تصبّ في غاية ترويج الرؤى الأيديولوجية والسياسية لليمين الديني - الاستيطاني. ووفقا لرؤية عدد من زعماء هذا اليمين، فإن السبيل الوحيد للاستيطان حقاً في قلوب الجمهور الإسرائيلي والتأثير عليه أيديولوجياً وسياسياً هو التواصل الدائم مع أفراد هذا الجمهور.

ومن نافل القول إنه مسعى ينسجم في العمق مع ما قام به بنيامين نتنياهو منذ عودته إلى سدّة الحكم من أعمال كثيرة على صعيد تغيير إسرائيل كلياً، ضمن مسار لا يكل لإعادة تركيب البنية السياسية والإعلامية والقانونية في إسرائيل بما يخدم مشروعه الأيديولوجي اليميني المتشدّد.

التعليقات