"كل هذا الهراء"... حكايات مصر ما بعد الثورة

يلتقط فشير أحداثا مثل قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني ومذبحة استاد بورسعيد وفض اعتصام ميدان رابعة العدوية لينسج منها سلسلة تبدو منفصلة السياق والملابسات إلا أنه يربطها جميعا بخيط واحد هو بطل الرواية "عمر فخر الدين"

"كل هذا الهراء"... حكايات مصر ما بعد الثورة

(أ.ف.ب)

بعدما حلق بعيدا بخياله في روايته السابقة 'باب الخروج' وتصور سيناريوهات ما بعد انتفاضة 25 يناير 2011 في مصر، يعود الكاتب عز الدين شكري فشير إلى أرض الواقع في أحدث أعماله 'كل هذا الهراء'، ليسرد أحداثا واقعية جرت على مدى السنوات الست التالية لهذه الانتفاضة ولكن... من وجهتي نظر مختلفتين.

والرواية الصادرة عن دار الكرمة بالقاهرة في 324 صفحة من القطع المتوسط، هي السابعة للدبلوماسي السابق والكاتب والأكاديمي المصري بعد 'مقتل فخر الدين' و'أسفار الفراعين' و'غرفة العناية المركزة' و'أبو عمر المصري' و'عناق عند جسر بروكلين' و'باب الخروج'.

يلتقط فشير أحداثا مثل قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني ومذبحة استاد بورسعيد وفض اعتصام ميدان رابعة العدوية لينسج منها سلسلة تبدو منفصلة السياق والملابسات إلا أنه يربطها جميعا بخيط واحد هو بطل الرواية 'عمر فخر الدين'، ذلك الشاب المثقل بحكايات بائسة أنهكته وغمرته بأحزان تفوق تحمل قلبه الصغير.

ذات مساء تجمع الظروف عمر (22 عاما)، الذي يعمل سائق سيارة أجرة مع أمل مفيد (29 عاما)، المحامية المصرية-الأميركية المفرج عنها للتو بعد عام كامل قضته خلف القضبان على ذمة قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني، وينتهي بهما الأمر في شقتها بالزمالك.

تبدأ الحكايات جميعها وتنتهي فوق فراش داخل شقة أمل التي تقرر أن تقضي ليلتها الأخيرة في مصر قبل العودة إلى الولايات المتحدة مع عمر بعيدا عن كل من تعرفهم ويعرفونها.

الحكايات التي يسردها عمر لأمل عن زملاء وأصدقاء تختلط جميعها بفواصل من المضاجعة بين الشاب والمرأة المتزوجة التي تكبره بسبع سنوات وهو ما قد يمثل حاجزا خلقيا أو يثير تحفظات لدى بعض القراء على مسرح الأحداث رغم أن جميع الحكايات القادمة جادة جدا ومأساوية.

ولأن مؤلف الرواية دبلوماسي سابق ويدرك هذا تماما إضافة إلى حساسية القضايا التي يخوض فيها اجتماعيا وسياسيا فقد وضع في البداية فصلا بعنوان 'تمهيد وتهديد' يعرب فيه عن عدم ارتياحه للأجواء التي باتت تسود عالم الكتابة في مصر من تضييق على المؤلفين ومقاضاتهم بسبب أعمالهم الإبداعية.

يقول 'بعد تفكير طويل قررت التوكل على الله ونشر حكايات أمل وعمر كما هي مع توجيه نداء حار إلى أصحاب القلوب الضعيفة والأحاسيس الخلقية والدينية والوطنية المرهفة أن يحلوا عن سمائي ولا يقرأوا هذه الرواية.'

يمهد المؤلف للحكايات المتتالية بحكايتي بطليه أمل وعمر ومن أين جاءا. تروي أمل كيف تحولت من محامية إلى ناشطة بمجال العمل الأهلي وكيفية قدومها إلى مصر وما شهدته في السنوات القليلة الماضية وصولا إلى القضية التي وجدت نفسها متورطة بها رغم أنفها وأودعت على إثرها السجن.

وعلى أرض الواقع كانت السلطات في مصر قد أحالت أكثر من 40 مصريا وأجنبيا إلى المحاكمة في فبراير شباط 2012 بتهمة العمل دون ترخيص بالمخالفة للقانون وتمويل جمعيات ومؤسسات أهلية مصرية لكن الأزمة الدبلوماسية التي تسببت فيها القضية بين القاهرة وواشنطن أدت في نهاية الأمر إلى السماح بمغادرة بعض الناشطين الغربيين لمصر.

أما عمر فيقول إنه نشأ في معسكر لجماعة الجهاد في السودان بعد تركه والده هناك في رعاية الجماعة وسافر للجهاد في أفغانستان قبل أن يعود ويأخذه إلى مصر ويستقرا بها.

ورغم الخلفيات المدهشة والمفاجآت التي تحملها قصة كل منهما فإن الحكايات التالية جميعها من وحي الواقع لحوادث مشهودة مرت بها مصر لكنها تروى بين الحين والآخر بروايات مختلفة وهو ما يتلاعب به المؤلف... حادث واحد وروايات متعددة.

الحكاية الأولى لثلاثة شبان التقوا وتعارفوا قبل انتفاضة 2011 وانخرطوا فيها بشكل أو بآخر وبدوافع مختلفة إلا أن الحال انتهى بمقتل اثنين منهم في حادث استاد بورسعيد عام 2012 من بين 72 مشجعا قتلوا في أعمال شغب عقب مباراة كرة قدم بين ناديي الأهلي والمصري فيما تحطم الثالث معنويا وصاحبته عاهة مستديمة في قدمه.

والحكاية الثانية لفتاة نشطت بعد الانتفاضة لمناهضة التحرش الجنسي سواء الفردي أو الجماعي والذي تكرر قبل انتفاضة 2011 وبعدها وقال حقوقيون إنه استخدم كسلاح معنوي ضد الناشطات السياسات.

وتتعرض (هند) لحادث اعتداء جنسي وتنكيل على أيدي ملثمين في الطريق العام لتتحول إلى ضحية بعد أن ظلت على مدى سنوات تقدم الدعم والمساندة لضحايا التحرش. يمتد أثر الحادث إلى باسم حبيبها الذي يحاول الوقوف بجانبها واستعادة حقها لكنه في النهاية يدفع حياته ثمنا لذلك.

والحكاية الثالثة من ميدان رابعة العدوية الذي ارتبط اسمه باعتصام جماعة الإخوان المسلمين عقب الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي ومن داخله يروي المؤلف يوميات شاب وفتاة تحابا قبل ذلك بفترة. الخلفيات الفكرية لأسرة الفتاة تشدها شدا للمشاركة في الاعتصام فيلحق بها الحبيب حتى يكون بجانبها لكن ينتهي بها الحال جثة في المشرحة.

والحكاية الرابعة والأخيرة هي لشابين مثليين جنسيا بدأت علاقتهما قبل الانتفاضة في الظلام وظنا أنه مع الإطاحة بالنظام الحاكم القديم ستزول الأفكار والقيود الاجتماعية الراسخة من سنين إلا أنه عندما يجاهرا بميولهما تنقلب الدنيا عليهما وتتبرأ أسرتيهما منهما وينتهي بهما الحال إلى منبوذين في الولايات المتحدة.

ورغم 'سوداوية' الحكايات التي يسردها عمر ونهاياتها المأساوية ينجح المؤلف ببراعة في عرض الرأي والرأي الآخر. الرأي هنا يمثله عمر بحكاياته التي عاصرها وأبطالها الذين عرفهم وكانوا إما أقاربه أو أصدقاءه أما الرأي الآخر فتمثله أمل التي تطرح دوما رؤى مختلفة للأحداث وتساؤلات وسيناريوهات محتملة لما يعتقد عمر أنها حقائق ثابتة وهو ما يشعل لعبة ذهنية تتقد منذ بداية الحكايات وحتى نهايتها.

ويمتد هذا التأرجح من حكايات الماضي إلى حكاية أمل وعمر نفسهما وتصل ذروتها مع لحظة الفراق وانتهاء مغامرة الفراش واستعادة كل منهما لدوره الأساسي في الحياة بعد ساعات طويلة من الحكي.

وتحاول أمل فتح الأفق أمام عمر وتخليصه من أثقال الماضي وتبديد أحزانه بينما يظل هو على اعتقاده بأن ما آل إليه حاله هو قدره المحتوم الذي لا مفر منه ولا سبيل إلى تغييره... وتبقى النهاية مفتوحة.

وتحتاج الرواية إلى قراءة موضوعية وعدم التسرع في إصدار الأحكام بعد فصل أو فصلين والخوض فيها بعقل مفتوح حتى لا يقع القارئ في فخ التحيز ويحرم نفسه متعة تبادل الأفكار والأدوار بين اثنين عاشا في نفس المكان والزمان لكنهما عرفا الأحداث من وجهتي نظر مختلفتين.

التعليقات