06/06/2005 - 11:18

فيلم "تحت الاحتلال": ساعة ونصف هزت الدنمرك!

-

فيلم
لابد وان العالم فقد جزءا كبيرا من عقله وضميره، ليرضى أن تتكرر جرائم النازية أمامه مرة أخرى، ولا يملك حيال ذلك سوى العجز واللامبالاة.

بهذه الكلمات استهل الإعلامي الدنمركي الشهير يون بيدرسن حديثه معي في بداية الحوار الذي أجريته في منزله بمدينة أودنسة، بمناسبة عرض فيلمه " تحت الاحتلال " الذي أنتجه التلفزيون الدنمركي وتناول القضية الفلسطينية والانتفاضة المجيدة من خلال رؤية جديدة.

تم عرض الفيلم على شاشة التلفزيون الدنمركي وفي بعض دور السينما، وأثار ضجة غير مسبوقة في تاريخ الدنمرك، على الصعيد الإعلامي والسياسي والثقافي، ويعود ذلك إلى عاملين أولهما أن الذي أنجز الفيلم أهم شخصية إعلامية في هذا البلد الصغير واقدم صحافي، والأهم أنه كان من أهم الموالين لإسرائيل ومن أشد المدافعين عنها، وبتحوله هذا من صديق لإسرائيل إلى نصير للشعب الفلسطيني وجه صفعة قاتلة للغيتو اليهودي الفاعل والمؤثر في هذا البلد الشمالي.
السبب الثاني أن بيدرسن مخرج الفيلم أصدر خلال فترة تصوير الفيلم والتي استمرت عاما ونصف سافر خلالها تسعة مرات، كتب واصدر كتابا بعنوان " عرس في رام الله " فضح فيه زيف الأساطير اليهودية وادعاءاتهم الكاذبة في كسب ود تعاطف الرأي العام الأوروبي والدنمركي، وهو بذلك يكون قد وضع مفارقات الرأي العام الدنمركي فيما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية في مأزق شديد الحرج، ومازالت تفاعلات عرض الفيلم تظهر بالأفعال وردود الأفعال والتباين في المواقف.

في الفيلم أربعة شخصيات رئيسية، " وفاء جميل " تعيش في غزة، طالبة في معهد السينما، اصلها من مدينة عكا، جهدت لإنجاز فيلم عن بلدتها الأصلية، سافرت إلى مدينة عكا ولم تستطيع التعرف على منزل عائلتها ." أحمد أبو علاء" مدير مدرسة، قتل الإسرائيليون سبعة اخوة له عام 1948 , يمتلك أوراق ملكية مائة دونم من الأراضي لعائلته استولى عليها الإسرائيليون. يقول هذا المربي : "أعيدوا لي دونما واحدا من أرضي فقط"! . " صلاح عثمان " رجل متدين، يعاني من عجز جسدي نتيجة إصابته بثلاث رصاصات أطلقها عليه جنود الجيش الإسرائيلي. " منال عوض " فلسطينية مسيحية من مدينة اللد، فنانة وممثلة في مسرح محلي، متسامحة تتمنى وقف سفك الدماء. " إبراهيم الحصري " مصور صحفي في أحد التلفزيونات المحلية، عضو سابق في أحد التنظيمات الفلسطينية اليسارية، يقول أنه بالرغم من كل هذا الخراب والدمار الذي يحيط بنا، لابد أن نضحك، لابد أن نعيش، لا أن نموت ونحن أحياء.

خلال الفيلم، الذي يبدأ بتصوير القصف الصاروخي الذي تقوم به الطائرات الحربية الإسرائيلية على المدن والقرى الفلسطينية، وينتهي بالخراب وصور الدمار والدم الذي تخلفه الوحشية الإسرائيلية، وخلال الفيلم الذي يستمر عرضه لمدة ساعة ونصف، ينسج المخرج خطا دقيقا من الحياة اليومية للفلسطينيين، وعن حرمانهم حقوقهم في المعيشة والانتقال، وانعكاس الاحتلال في اضطراب حياتهم. إذ ترابض الدبابات الإسرائيلية في الطرقات، بينما يجوب جنود الاحتلال في الشوارع والطرقات يمنعون الأهالي من الخروج من منازلهم وقضاء حوائجهم.

الملفت أن الفيلم خلا من الخطابات الأيديولوجية، وقدم رسالة واضحة التأثير وبلغة يفهمها المشاهد الأوروبي، إذ إضافة إلى الحوار الذي يدور باللغة الإنجليزية، فقد تم وضع شخصيات الفيلم على منضدة التشريح النفسي والفكري والاجتماعي والوجداني، ويكشف المخرج في معالجته الأسباب التي تحول شباب في عمر الزهور إلى قنابل بشرية متحركة، أظن انه يجب التوقف هنا والتوقف مليا بهذا الأمر، إذ اقترب الفيلم كثيرا من دوافع الإقدام على موت إرادي عند الشعب الفلسطيني، وأوضح كيف يتحول الشهيد إلى قيمة بواسطة تجذر ثقافة الاستشهاد والتضحية في ضمير الشعب الفلسطينيي، وتحدث بيدرسن في كتابه الذي أصدره في هذه الفترة أنه بدأ يعي الآن جيدا لماذا يقدم الفلسطينيون على ذلك، وأضاف أنه لو كان هو نفسه فلسطينيا لأقدم على نفس الفعل.

فيما يلي نص الحوار الذي دار مع مخرج الفيلم:

- ما الذي دفعك لإنجاز فيلم إشكالي وكتاب عن القضية الفلسطينية، وأنت المعروف بولائك لإسرائيل ؟

بيدرسن: الغاية من هذا العمل هو إيصال الحقيقة أو جزء منها إلى الرأي العام الأوروبي المضلل عموما وإلى الشعب الدنمركي خاصة، حقيقة أن وعد بلفور الذي تعهد بوطن قومي لليهود، قد تم دمجه في صلب الانتداب البريطاني لتصبح بوابة فلسطين مفتوحة على مصراعيها أمام الهجرة اليهودية، وبذلك فقد الفلسطينيون أراضيهم وحرموا من حق تقرير المصير. هذه عواقب السياسة البريطانية، وتركتها البغيضة من التضليل وازدواجية المعايير الأوروبية وما ترتب عليها من شلالات الدم وإرث البؤس والمعاناة التي لا يزال شبحها يلاحق الفلسطينيون حتى اللحظة.
ومنذ العام 1948 أغلقنا أعيننا عن القضية الفلسطينية، ومنذ العام 1970 ولغاية بداية الثمانينيات اعتبرنا أن الفلسطيني هو الإرهابي، لقد أخذنا وقتا طويلا حتى نفهم القضية الفلسطينية جيدا ونفهم الشعور عند الفلسطينيون، ومازال جزء من هذا العالم لا يرى الظلم الذي يقع على الفلسطينيون، هذا الفيلم مع الكتاب هو محاولة مني كي ألفت انتباه المجتمع الدنمركي الموالي رسميا لإسرائيل إلى حقائق يجهلها.

-وكيف استقبل الرأي العام الدنمركي هذا الفيلم ؟

• بيدرسن : لا شك أنكم تابعتم الضجة التي أثارها عرض الفيلم في القناة الأولى من التلفزيون الدنمركي، ومن ثم في بعض دور السينما، وقد تلقينا تهديدات بتفجير دار السينما التي تقوم بعرض الفيلم، وتمت مهاجمة الفيلم والكتاب من قبل عدد من الكتَاب الموالين لإسرائيل، ووصل الأمر إلى حد الإساءة لي شخصيا في بعض الصحف، وقد حاولت بعض العائلات اليهودية المتنفذة ممارسة ضغوط على الجهات المعنية لمنع عرض الفيلم، لكنها لم تجد آذان صاغية، بينما شكل الفيلم حقيقة صدمة لشريحة واسعة من المجتمع الدنمركي الذي اعتاد أن يستقي معلوماته عن القضية الفلسطينية من وسائل الإعلام المحلية التي تتحكم بها أقلام صديقة لإسرائيل!

- من المعلوم أنك واحد من أهم الشخصيات الإعلامية المناصرة لإسرائيل، هل لك أن تشرح لنا أسباب هذا التحول في موقفك من القضية الفلسطينية ؟

• بيدرسن : السبب يعود إلى اقترابي من الحقيقة، فقد قمت بزيارة المناطق الفلسطينية تسعة مرات خلال عام ونصف لإتمام تصوير الفيلم، عشت بين الفلسطينيين، ورأيت بعيني أن الاحتلال الإسرائيلي طغيان وشر مطلق، وهو يطفو على السطح لا من خلال الجرائم المباشرة وعمليات القتل وحدها، بل في كل مظهر من مظاهر الحياة، أدهشني سر قوة الشعب الفلسطيني الذي يكتفي بالقليل ليدخر كل شيء للمقاومة، يرضى بشيء قليل من الخبز يبقيه على قيد الحياة لكنه لا يرضى أبدا بأقل من حقه كاملا عندما يتصل الأمر بالحرية، وأعتقد أن الحرية هي عند الفلسطينيين كالهواء لا يمكن القبض عليها. هالني أيضا منظر الأطفال الفلسطينيين في الضفة وغزة الذين يستيقظون ويتحركون وينامون على إيقاع عالم متوحش، هالني أيضا منظرهم وهم يودعون رفيقهم المسجى في باحة بيت مقتولا برصاص اسرائيلي، وقفوا تباعا يحملون حقائبهم المدرسية وبانتظام حيث انحنى كل واحد منهم وقبله قبلة الوداع الأخيرة، ثم انصرفوا بانضباط إلى مدارسهم، أنا أقول أن العنف الفلسطيني هو رد فعل طبيعي ودفاع عن النفس ضد الظلم والعنف الإسرائيلي، والطريق الوحيد للوصول إلى سلام حقيقي واستقرار في تلك المنطقة، يكمن في إزالة الأسباب الموجبة، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة تكون خالية من المستوطنات وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره بنفسه، وقلت أيضا أنني لو كنت فلسطينيا لقاتلت الإسرائيليين .

- ورغم كل هذا الظلم الذي يلحق بالشعب الفلسطيني، ألا ترى معي أن هناك ضعف بمستوى التضامن الأوروبي الرسمي والشعبي مع هذا الشعب وحقوقه المغتصبة ؟

• بيدرسن : نعم أوافقك الرأي، فإسرائيل مازالت ومنذ قيامها تمارس الابتزاز السياسي والمالي، وتواصل دور الوكالة اليهودية التي تهدف إلى محاصرة الوجود العربي والإسلامي في دول الشمال، وللأسف فإن آرييل شارون بات معفي تماما من أية محاسبة وهو يتخذ إجراءات ضد الفلسطينيين تتنافى مع القانون الدولي، والعالم يغض البصر عنه ويتعاطف مع الضحية الإسرائيلية وينسى الضحية الفلسطينية بل أنه يعتبرها إفرازا طبيعيا في حرب إسرائيل على الإرهاب، وكأن الاحتلال نزهة ممتعة للشعب الفلسطيني المقهور، وإسرائيل مازالت تكسب المعركة الإعلامية وتتحايل على العالم وتستغل بعض الأخطاء الفلسطينية، فشارون يقتل الأطفال بحجة أن الصواريخ وجهت ضد إرهابي قتل مدنيين إسرائيليين، لكن الخطأ أصاب أطفالا فلسطينيين نياما. أما الفلسطينييو فهم يتظاهرون علنا ويتوعدون بالانتقام من المدنيين الإسرائيليين علنا، هذه الصورة من الصعب فهمها بالنسبة للأوروبيين، وتراه الهيئات هنا مخالفا للقوانين الدولية، حتى لو كان صادرا عن إنسان مقهور من هول الاحتلال.


- أخيرا كيف ينظر بيدرسن إلى المبادرات الأمريكية التي تحتكر الحلول في معالجتها للمناطق الساخنة في هذا العالم وأهمها القضية الفلسطينية والمشكلة العراقية ؟

* بيدرسن : لقد دخل العالم في مرحلة جديدة لم يتسن له بعد أن يبصر حقيقة أبعادها على مستقبله. في حين أصبح العنف الأهوج وإرهاب الدولة مباحاً باسم مكافحة الإرهاب. إن ما ينقص المبادرات الأمريكية هو ارتباطها بالواقع، لأن معظمها يبدو أقرب إلى الثرثرة فرق أضرحة الفلسطينيين الذين يموتون يوميا وتهدم بيوتهم وتبطل حياتهم ، لامعنى للسلام بالتدخل الأمريكي المنحاز بالوصاية فتأصل الظلم وإنتاج الحقد يعني بالضرورة غياب الأمن وتأييد العنف في العلاقات الإنسانية، والحل يكون باعتناق نمط تفكير آخر يقوم على احترام حقوق الإنسان الفلسطيني الوطنية والإنسانية، هذا المفهوم هو المعبر الوحيد لوجود يهودي طبيعي في المنطقة لا يكون مستودعا لأسلحة العدوان إلا من منظار التفوق والهيمنة. إن المجتمع الدولي مطالب اليوم أن يتحمل مسؤولياته التاريخية لحماية مبادئ وأخلاقيات النظام العالمي من العبث. وأن نقف صفا واحدا لمنع وقوع العالم في هوة التردي الذي يهدد وجود التراث الإنساني والسياسي والحضاري الموروث من القرن الماضي.



حسن العاصي
صحفي وكاتب فلسطيني
مقيم في الدنمرك


التعليقات