31/10/2010 - 11:02

الترجمة وتفاعل الثقافات و"الالياذة" العربية

الترجمة وتفاعل الثقافات و
اجتمع حشد من المختصين في علوم الترجمة والمترجمين في القاهرة صباح السبت التاسع والعشرين من أيار (مايو) الماضي ليبدأوا مؤتمراً دولياً, أقامه المجلس الأعلى للثقافة عن "الترجمة وتفاعل الثقافات". وهو مؤتمر حرص المشاركون فيه على تأكيد قيم التنوع الإنساني الخلاق, وتأصيل عمليات الحوار الحضاري والتفاعل الثقافي بما يحرر الوعي الإنساني من قيود التعصب وكوارث الانغلاق. وكان واضحاً من كلمات الافتتاح أن تحقيق هذا الهدف مقرون بأمرين ارتبط بهما المؤتمر ارتباطاً مباشراً. أما أولهما فهو الاحتفال بمرور مئة عام على ترجمة سليمان البستاني لإلياذة هوميروس الخالدة. وهي الترجمة التي أكملها البستاني بعد حوالى عشرين عاماً من الجهد النادر, ونشرها في القاهرة سنة 1904. وأما ثانيهما فهو الاحتفاء بما أنجزته حركة الترجمة العربية على امتداد الأقطار العربية على رغم كل الصعاب والعقبات, وما تتطلع إلى إنجازه, إسهاماً منها في نهضة عربية جديدة.لم يكن من قبيل المصادفة أن تحتفل الرموز الثقافية للأمة العربية, منذ مئة عام, بصدور ترجمة البستاني لإلياذة هوميروس. فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يقوم فيها عربي بتقديم ترجمة كاملة, نظماً, لإحدى الملاحم الأوروبية الأساسية, ولا يكتفي بالترجمة المنظومة, وما صحبها من جهد مضنٍ في تطويع اللغة العربية لتأدية المعتقدات الأسطورية والمجازات اليونانية, بل يقدم للترجمة بدراسة موسوعية شاملة عن هوميروس وشعره, مع بحث عميق مقارن حول أوجه الاتفاق والاختلاف بين آداب العرب واليونان, مؤكداً أهمية الحوار المتصل بين تراثه العربي وتراث غيره من الأمم. وكان البستاني واعياً بدوره من حيث هو وسيط متميز يصل قرَّاءه العرب بالثقافة الإنسانية التي ينتمون إليها, والتي يضيف بها إلى وعيهم ما يزيده ثراء وتنوعاً, فاتحاً أمامهم أفقاً معرفياً وإبداعياً ظل مغلقاً لقرون عدة. ولذلك أسهم البستاني إسهاماً أصيلاً في تأسيس نهضة ثقافية, كانت - ولا تزال - سبيلاً إلى التقدم الذي يستبدل الانفتاح بالعزلة, والبراح الإنساني بالتضييق الاعتقادي والتعصب العرقي.

وكان من الطبيعى أن تحتفي الحياة الثقافية العربية كلها بصدور ترجمة البستاني للإلياذة في القاهرة, وأن تتبارى الجرائد والمجلات في الكتابة عنها, وأن يكتتب حوالى مئة من أعلام العصر للاحتفال بهذه الترجمة - الحدث. وتنضم "لجنة إحياء اللغة العربية" التي كان يترأسها الإمام محمد عبده إلى المكتتبين. ونرى احتفالاً قومياً مهيباً في مساء الثلثاء الموافق الرابع عشر من حزيران (يونيو) 1904 في فندق شبرد, ويحضره حشد كبير يضم أسماء بارزة في ذلك الزمان. مثل سعد زغلول, وعبدالخالق ثروت, ومحمد فريد, ومحمد عبده, ومحمد رشيد رضا, وإبراهيم اليازجي, وإبراهيم رمزي, وعشرات غيرهم من العرب والأجانب, المطربشين والمعمَّمين, رموز المجتمع المدني ورموز الطوائف الدينية. ويبدأ الاحتفال بكلمة يعقوب صروف المكلَّف تقديم الخطباء, والذي يستهل كلمته بعبارات تجمع ما بين الفرحة والأمل: الفرحة لأن الاحتفال كان الأول من نوعه في ديار المشرق, والأمل في أن يكون الاحتفال فاتحة احتفالات أخرى كثيرة تقام تحية للعلم وإجلالاً لقدر ذويه.

وها هو المجلس الأعلى للثقافة المصري - بعد مئة عام من الاحتفال في فندق شبرد - يقيم احـتفالاً جديداً في القاهرة نفسها, وذلك من خلال مؤتمر دولي استمر أربعة أيام. وابتدأ باسترجاع ذكرى الاحتفال الأول بإعادة طبع ترجمة البستاني للإلياذة في سلسلة جديدة تصدر عن المشروع القومي للترجمة بعنوان "ميراث الترجمة". وأضاف المؤتمر إلى هــذا الاسترجاع إنجازاً جديداً, يبدأ من حيث انتهى الروَّاد, منطلقاً إلى آفاق أبعد, وأرحب.

وتجسّد ذلك في إصدار ترجمة حديثة كاملة عن اللغة اليونانية مباشرة لإلياذة هوميروس, وهي ترجمة نهض بها فريق من المختصين على امتداد ست سنوات من العمل الدؤوب, بقيادة أستاذ الدراسات اليونانية واللاتينية في جامعة القاهرة أحمد عتمان. وإذا كان البستاني بدأ ترجمته من اللغات الأوروبية الحديثة التي عرفها, وسعى إلى تعلم اليونانية ليكمل معرفته بلغة الأصل وبلاغته, فإن الترجمة التي احتفل المجلس الأعلى للثقافة بإنجازها بدأت وانتهت من اللغة اليونانية, وبواسطة مختصين فيها وفي آدابها, وداخل تقاليد ترسّخت في حقل الدراسات اليونانية واللاتينية, منذ إنشاء الجامعة الحكومية سنة 1925. ولذلك وصف أحمد عتمان الإنجاز الذي نهض به زملاؤه بأنه يمثل المحاولة الأولى التي تعتمد على النص اليوناني تماماً, وبكل معاني التخصص الدقيق التي حمل أعباءها البحثية واللغوية مختصّون ثقات في اللغة اليونانية وآدابها. والفارق بين هذه الترجمة المعاصرة وترجمة البستاني هو الفارق التذي يتجسّد في مئة عام من حركة الترجمة العربية التي نمت بنمو الجامعات والمؤسسات الثقافية الممتدة عبر أقطار الوطن العربي. وهو الفارق الذي شهد مشروع الألف كتاب الذي نهض به جيل طه حسين, والذي شهد غيره من عشرات المشاريع العربية في الترجمة.

وليس من المصادفة - والأمر كذلك - أن تحمل الترجمة الجديدة للإلياذة رقم سبعمئة وخمسين في سلسلة المشروع القومي للترجمة الذي ينهض به المجلس الأعلى للثقافة. وهو المشروع الذي لا يقتصر على المترجمين المصريين وحدهم, بل يعتمد على الجهود العربية في كل مكان, وفي كل مجال معرفي. مبدأه الأول الترجمة عن اللغات الأصلية مباشرة, والخروج من أسر المركزية الأوروبية - الأميركية, وشمول المنظور الذي يصل العلوم بالفنون والإنسانيات, وتنوع المصادر التي تجمع ما بين أقدم وأحدث منجزات الفكر والإبداع الإنسانيين. وقد نجح المشروع القومي للترجمة في تشكيل جبهة عريضة من المترجمين الموزَّعين على الأقطار العربية, وفي رد الاعتبار مادياً ومعنوياً الى المترجم العربي, كما نجح - إلى الآن - في الترجمة عن أكثر من ثلاثين لغة من لغات العالم الحديث والقديم, واحتفى بترجمة "الإلياذة" عن اليونانية كما احتفى بترجــمة "مثــنوي" جلال الدين الرومي عن الفارسية, و"دون كيخوتة" سرفانتس عن الإسبانية, و"متون الأهرام" و"كتاب الموتى" من اللغة المصرية القديمة, ونقل عن اللغات الصينية والتركية واليابانية والأوردية وغيرها من اللغات الآسيوية والأفريقية - فضلاً عن اللغات الأوروبية - ما لم يسبق نشره. ولا يزال المشروع ماضياً في طريقه الصاعد, متطلعاً إلى الإسهام الجذري في النهوض بحركة الترجمة العربية وتطويرها بما يتـناسب وتحديات العصر الذي نعيش فيه. وعندما يكمل المشروع القومي للترجمة بنشره "إلياذة" هوميروس رقمه الخمسين بعد السبعمئة, فإنه يؤكد إصراره على الدوافع التي انطلق منها, وهي الدوافع التي تحثّ على الاهتمام بالترجمة بصفتها الخطوة الأولى في تحقيق النهضة, والعنصر الفاعل في استكمال الوعي الثقافي بالحضور في التاريخ, وداخل العالم المتقدم, وتحقيق التفاعل الخلاق بين الثقافات, والحوار المثمر بين الحضارات.

إن الترجمة هي الفعل المصاحب للنهضة التي تبدأ برغبة الأنا القومية في الخروج من عزلة التخلف المفروضة عليها من الآخرين, أو التي فرضتها هذه الأنا على نفسها لأسباب تتكرر عبر التاريخ. وتتحول هذه الرغبة إلى قوة حافزة على اكتشاف أسرار التقدم عند الأمم التي تغدو - في أعين هذه الأنا - نموذجاً للتقدم الصاعد, وتجسيداً لأحلامه. فالترجمة هي السبيل الأول إلى معرفة هذه الأسرار, وإلى امتلاكها بما يضع الأنا القومية على طريق التقدم, ويخايلها بإمكان التفوق فيه. ولذلك تغدو الترجمة جسراً يعبر سدود الزمان والمكان واللغة, وقوة دفع تلغي المسافة بين المتقدم والمتخلف, وتفتح أفقاً جديداً من التواصل والاتصال الإنساني, الأمر الذي يدفع إلى الإنجاز المستمر, وإلى مواصلة الصعود المستمر على سلّم التقدم الذي لا نهاية له.

والتاريخ الثقافي العام والخاص خير دليل على ذلك, فقد وصلت الحضارة العربية الإسلامية إلى ذرى نهضتها بواسطة حركة ناشطة في الترجمة, حتى من قبل أن ينشئ الخليفة المأمون "مدرسة الحكمة" في بغداد العباسيين. وقد بدأت هذه الحركة في العصر الأموي, موازية لاتساع حركة الفتوح الإسلامية التي أسهمت على نحو غير مباشر في الانفتاح بالحضارة العربية على ميراث العالم القديم حولها, خصوصاً بعد أن شعر العرب أنهم ورثوا الحضارات السابقة عليهم, وأن عليهم الإفادة منها, والبدء من حيث انتهت إليه هذه الحضارات. وقد بدأت النهضة الأوروبية من حيث انتهت الحضارة العربية, ومن حيث انقطع الخط العقلاني الصاعد الموازي لرغبة الاجتهاد والابتداع, فانطلقت أوروبا من حيث وقف العرب. وكانت البداية ترجمة تراث ابن سينا وابن رشد, والاندفاع في مدى التقاليد العقلانية التي ساعدت العلم الحديث على أن يحقق تطوره المذهل الذي لم يتوقف إلى اليوم. وعندما أفاق العالم العربي من سبات تخلّفه على مدافع نابليون, فإن وعيه بصدمة التخلف دفعه إلى الاجتهاد في معرفة أسرار تقدم أوروبا التي احتلت أراضيه بالسلاح المتقدم والعلم الجديد. وكانت البعثات إلى أوروبا المتقدمة موازية لجهود الترجمة المتتالية, حتى من قبل أن ينشئ محمد علي "مدرسة الألسن" التي رعاها رفاعة الطهطاوي في بدايتها التي كانت تأسيساً للنهضة التي حلم بها جيل الرواد في القرن التاسع عشر. وعندما تتلمذ سليمان البستاني على هذا الجيل, وأنجز ترجمته للإلياذة سنة 1904, فإنه كان خطوة متقدمة على الدرب نفسه, وبداية أثمرت غيرها من الجهود المتواصلة التي لا نزال نمضي فيها إلى اليوم.

لكن المؤكد أن العالم العربي لم يحقق - بعد - النهضة الكاملة التي لا يزال يتطلع إليها لأسباب, منها السبب الثقافي الذي يرتبط بعجز حركة الترجمة العربية عن الوصول إلى المستوى المأمول, إما لعوامل داخلية لا تزال تؤثر بالسلب, أو لعوامل خارجية تفرض التخلف المقرون بالاستبداد, أو لعوامل داخلية وخارجية في آن. وتظهر النتائج المحبطة لاجتماع هذه العوامل عندما نقارن بين المحصلة الإجمالية لناتج حركة الترجمة في الأقطار العربية مجتمعة وناتج حركة الترجمة في قطر واحد من أقطار العالم المتقدم. فناتج هذه المقارنة يبعث على الحزن الذي لا يخفف منه ذكر الخطوات الإيجابية التي تحققت إلى اليوم.
ويكفي أن نراجع بعض الإحصائيات الصادرة عن اليونسكو, حول الترجمة في السنوات الخمس الأولى من الثمانينات, حيث نجد أن العالم العربي كله كان ينتج أقل من كتاب واحد مترجم في السنة لكل مليون من السكان, بينما تنتج إسبانيا وحدها ما يقرب من 920 كتاباً لكل مليون من السكان. ولم يرتفع الرقم الذي ينتجه العالم العربي كله مع مطلع القرن الجديد إلا بما يؤكد تزايد اتساع المسافة بيننا وغيرنا من الأمم المتقدمة التي قرنت تقدمها المتصل بالازدهار المضاعف لحركة الترجمة فيها. ولذلك, فإننا مهما تخيلنا عدد الصفحات المترجمة من الكتب التي يصدرها العالم العربي كله - اليوم - فإنها ستظل أدنى بما يدعو إلى الحزن, وبما لا يقاس بما تفعله اليابان التي تترجم - وحدها - سنوياً 30 مليون صفحة.

هذا الوضع المحزن لا ينبغي أن يكون مبرراً لليأس, بل يجب أن يكون باعثاً على العمل الجاد وبذل المزيد من الجهود الصادقة والمتكاتفة, للقضاء على الصعاب والعقبات المادية والمعنوية التي لا تزال تعرقل مسار حركة الترجمة العربية. ومطلوب - في هذا الاتجاه - المضي قدماً في إنشاء المزيد من مؤسسات الترجمة ومعاهدها ومراكزها البحثية, وتشجيع مبادرات الترجمة والاحتفاء بالمترجمين المتميزين وتكريمهم. وهي مهمة لا ينبغي أن نقصرها على الحكومات وحدها, بل نمتد بها لنجعل منها شركة بين مؤسسات المجتمع المدني ومبادراته وأجهزة الحكومات ودعمها. وإذا كنا نسمع كثيراً - هذه الأيام - عن "مجتمع المعرفة" الذي لا تزال بيننا وبين تحققه الكامل أشواط بعيدة, فإن حركة ترجمة ناجحة, فاعلة كمّاً وكيفاً, هي شرط أساس من شروط تحقق هذا المجتمع.

وإذا كان غياب مجتمع المعرفة, في حضوره الإيجابي الفاعل, يقترن بانغلاق الأفق المعرفي للمجتمع ونفوره من الانفتاح على غيره, فإن هذا الغياب قرين تيارات التعصّب والتطرّف التي تفضي إلى الإرهاب الذي لا يزال العالم يكتوي بناره, والذي انتهى بنا إلى الوقوع في براثن اليمين المتعصب الذي يحكم إمبراطورية العالم الجديد. ولا سبيل إلى القضاء على تيارات التعصب والتطرف المقترنة بالإرهاب, شرقاً وغرباً, شمالاً وجنوباً, إلا بتدعيم ثقافة التنوع الخلاق, وما يقترن بها من حوار متكافئ الأطراف بين الشعوب, وتفاعل إيجابي بين الثقافات, وذلك تأكيداً للمبادئ الإنسانية العادلة التي لا تتناقض وخصوصية الثقافات أو الهويات الحضارية للشعوب. والترجمة هي الفعل الخلاق الذي يحقق ذلك كله, ولا يزدهر إلا بازدهار الحرية.

(عن "الحياة")

التعليقات