31/10/2010 - 11:02

المشروع الثقافى الغربى لا يعترف بأى "آخر حضاري" / حمد بوهرو*:

المشروع الثقافى الغربى لا يعترف بأى
إن السؤال الأكثر إلحاحا فى الأوساط الثقافية العربية، بعد الأحداث التى عرفتها بداية القرن الحالي، هو كيف ينظر الغرب، من خلال خطابه الإعلامى وإنتاجاته الفكرية والأدبية إلى العالم الإسلامي.

إلا أنه قليلا ما تهتم هذه الأوساط بمعرفة طبيعة تمثل الفكر العربى المعاصر للحضارة الغربية، وأظن أن هذا السؤال أهم بكثير من سابقه لأن الفكر العربى المعاصر يتناول "الآخر الحضاري" من خلال نماذج إدراكية ساهمت فى تكوينها التجارب القاسية التى عاشتها الحضارة العربية الإسلامية على طول خطوط التماس الجغرافى والتاريخى مع الحضارة الغربية.

وهذه النمادج الإدراكية تستبطن حالة من الإستلاب المركب الذى يعانى منه هذا الفكر، فهو من جهة استلاب تاريخى يمثله اتجاه نحو قراءة الحضارة الغربية قراءة تاريخية عبر إسقاط آليات نقدية أنتجتها الثقافة الإسلامية عبر العصور على حضارة لم تعد خاضعة لنفس المقاييس التقليدية، وهو من جهة أخرى استلاب جغرافى يمثله اتجاه نحو التماهى مع الآخر الحضارى كتعبير عن حالة الهزيمة والدونية أمام قوته التقنية والتنظيمية.

إن التحدى الكبير الذى يواجه الفكر العربى المعاصر هو التخلص من الانطباعات الوصفية ومن هذه القطبية المزدوجة كبداية لفهم علمى للاختيارات الكبرى للحضارة الغربية بعيدا عن تأثيرات صفة العلو الحضارى والإلحاق التى تسمها، وبعيدا كذلك عن خصيصة الهزيمة والدونية التى يعانى منها الفكر العربى المعاصر.

ولا شك أن غياب هذه القراءة المتوازنة يساهم فى تفاقم حالة الانبهار بهذه الحضارة والعجز أمامها، مما يفقدنا العديد من العناصر الجوهرية لفهم واستيعاب هذه التجربة التاريخية، ودراسة اعتلال الأساس المعرفى الذى قامت عليه، فالحوار الحقيقى مع الغرب يبدأ من خلال القراءة النقدية لتجربته ولاختياراته الحضارية الكبرى.

1 – البعد الثقافى فى مقاربة الحضارة الغربية
لقد تأسست موجة الكتابات النقدية المعاصرة على خلفية النقد الحضارى للتحولات الحضارية الراهنة، اعتبارا لكون "النقد الحضارى يشكل الشرط الأساسى لعملية التغيير الإجتماعي"1، وكذلك لكون استكشاف القوانين التى تؤطر عمل ثقافتنا وثقافة الآخر تمكن من خلق وعى ذاتى مستقل بالمحيط الحضارى الذى نعيش فيه.

ولذلك كان المدخل الأساسى لدراسة هذه الحضارة هو دراستها من منظور النقد الثقافياتى Culturaliste الذى يجعل من الثقافة أهم الأسس الفاعلة فى الأبنية الإجتماعية، حيث لا تنحصر دائرة الثقافى فى المستوى التوصيفى لمختلف الأشكال المعنوية فى معاشات الجماعات البشرية، بل تتعداه إلى دراسة طبيعة تأثير الفاعلين الثقافيين فى أنساقهم الإجتماعية، إذ تظهر المعتقدات والأفكار كأسباب وليس فقط كآثار للتطور الإجتماعي، مما يجعل المنتجات الثقافية، " تساهم فى صنع العالم ".

لقد أشار علماء الإجتماع إلى أن الحضارات تتطور وفق نواميس كونية، وقد تحدث ابن خلدون عن طبائع العمران البشرى وعن صعود وأفول الحضارات وفق حتميات تاريخية، فكل حضارة تؤسس تفوقها على اختيارات وقيم تشكل "عصبية" تعتبر قوام هذه الحضارة، إن إيمان الأفراد بهذه العصبية هو الذى يحدد استمرار هذه الحضارة وتطورها وفعلها فى التاريخ.

وإذا أردنا أن نستخلص من دراستنا للتاريخ القريب للحضارة الغربية بعض محددات تطورها يمكن أن نجزم بأن الإختيارات الحضارية الكبرى للمجتمعات الغربية مشكلة من "عصبية جديدة"، وخصيصة هذه العصبية تكمن فى كونها تسمح للقيم الجديدة أن تتكامل وتخدم بعضها البعض لإعادة إنتاج نفس المخرجات ودون المساس بالمسار العام لهذه الحضارة.

إن البناء المفاهيمى للمنظومة الحضارية للغرب لا يستعصى على الفهم باعتماد منهج يرتكز على بعض التوصيفات القرآنية للإجتماع البشري، كون هذه التوصيفات ذات دلالات عميقة باعتبارها علامات جامعة لظواهر اجتماعية وثقافية تسم الحضارة الغربية الراهنة، فقد أشار القرآن الكريم إلى سنن التطور الفاعلة فى الإنسان والتاريخ، كما أشار إلى بعض الظواهر الإجتماعية والفكرية إشارات دقيقة يمكن استكشاف معالمها فى دراستنا للإختيارات الحضارية الكبرى للغرب.

وقد اقتبسنا مفهومى "الإستغناء" و"التكاثر" من البناء المفاهيمى القرآنى لتوصيف نمطين ثقافيين فاعلين فى أسس الحضارة الغربية، اقتباسا يتجاوز الاستعمال المصطلحى إلى محاولة بناء تفسير علمى للإختيارات الكبرى للحضارة الغربية الراهنة.

إن مفهومى "الاستغناء" و"التكاثر" مفهومان يحيلان على اختيارين كبيرين جامعين لثوابث البناء المعرفى للحضارة الغربية، وهما مفهومان مفسران يجب التوقف عندهما.

فأما مفهوم الإستغناء فيحيل على أزمة الهوية فى الحضارة الغربية وهى أزمة تستبطن حالة من التناقض بين الطابع الكونى للوجود الإنسانى الفرد وانغلاق وعى هذا الفرد فى الأطر الذاتية والوطنية والقومية والحضارية، وأما مفهوم التكاثر فيحيل على أزمة مشروع الحداثة وهو المشروع التأسيسى للحضارة الغربية وهى أزمة تستبطن من جهتها تناقضا بين النموذج التنموى الأحادى البعد للحضارة الغربية ومعطيات هدا النموذج الاستلابية لطبيعة الإنسان.

الإستغناء
لقد جاء التوصيف القرآنى فريدا لطبائع الإجتماع البشري، حيث أشار فى مواضع كثيرة إلى الخصائص الإجتماعية والنفسية لفئات اجتماعية وبشرية فى عصر الرسالة وفى العصور التاريخية التى سبقتها.

ولم تكن التحولات الحضارية الكبيرة التى طرأت على المجتمعات منذ البعثة إلى الآن لتحول دون الاستعانة بهذه التوصيفات لتفكيك أسس الإختيارات الحضارية الكبرى للغرب.

إن مفهوم الإستغناء ينهل من معين البناء المفاهيمى القرآني، حيث يقول الله تعالى فى سورة الإنسان: " كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى" "الآية 8 من سورة العلق"، فكيف يفسر مفهوم "الاستغناء" الإختيارات الكبرى للحضارة الغربية ؟

لقد بنيت ثقافة عصر الأنوار على مناهج جديدة فى النظر إلى الإنسان ومآلاته، وركزت على البعد المادى فى الإنسان وأعرضت عن استكشاف عوالمه الروحية والقيمية، فأصبح كل شيء غير قابل للقياس والتناول العقلى غير ذى معنى، وتمت مقاربة الجوانب الروحية فى الإنسان من منظور سلوكى بحت.

كما أن تطور العلوم واحتلالها مكانة مركزية فى حياة الإنسان أدى إلى نوع من الإستغناء بالعلم عن أية قوة خارجية، كما أدى إلى الإحساس بالقوة والسيطرة على الحاضر والمستقبل، وأساس هذا الاستغناء الثقة المطلقة فى "العلم" الذى جعل منه الإنسان الغربى الإله الجديد الذى يعوض إله الكنيسة.

إن ميلاد مجتمع الإستغناء كان نتيجة غير مباشرة للتطور التاريخى لمناهج العلوم التى تأسست على التجريب وعلى مقاومة كل تفكير يخرج عن دائرة الحس المادي، وفى هذا المجال يقول ر. آرون "إننا مادمنا نفكر بشكل وضعى فى مادة علم الفلك أوالفيزياء لم يعد بإمكاننا أن نفكر بطريقة مغايرة فى مادة السياسة أو الدين، فالمنهج الوضعى الذى نجح فى علوم الطبيعة يجب أن يمتد إلى كل أبعاد التفكير" .

إن مشكلة مناهج العلوم فى الغرب هى أنها مؤسسة على مُسلّمة لا يمكن أن تقبل المراجعة دون إحداث قطيعة كبرى فى طريقة تفكير الإنسان الغربى وتناوله للظواهر.

إن العلوم التى أنتجتها الحضارة الغربية لا يمكن أن تكون إلا تجريبية ومن ثم كان الإتجاه إلى سد الطريق على كل تفكير لا يعتمد الحس والتجربة وكان اختزال الحياة والتجربة الإنسانية فى جانبها المادى هو نتيجة هذا التوجه، إذ لا تعترف هذه العلوم بأية خصوصية وجودية للتجربة الإنسانية وتختزلها فى جوانبها السلوكية القابلة للقياس والتجريب.

إن تقديس العلم قاعدة تاريخية ليست وليدة العصر، وأصل كل التحولات منذ ميلاد المجتمع الحديث كانت مسبوقة ببحث علمى أواكتشاف تكنولوجى وحتى على مستوى الإنتاج الفلسفى والإبداعى نلاحظ مدى الإرتباط بين التحولات فى العلوم والتحولات الفكرية العامة.

لقد ارتبطت المدرسة الوضعية مند أوغست كونت بالتجريبية وتأسست بعض مقولات الماركسية على نظرية التطور الداروينية التى وطنت مفهوم الصراع فى العلوم الإجتماعية الغربية، وإذا قمنا بعملية تحقيب Périodisation لتاريخ الغرب المعرفى نجد تمفصلا عجيبا يربط هذه الإبداعات مع النظريات العلمية.

لقد أثرت الاكتشافات العلمية على نظرة الناس للحياة وعلى رؤاهم، وبالتالى على إبداعاتهم فى كل المجالات، إذ نلاحظ كيف تم التحول من المسرح إلى السينما والصورة، وكيف ظهرت السيميولوجيا وعلوم الإعلام وكيف ظهرت فنون جديدة كفن الفوتوغرافيا وكيف أثرت تكنولوجيا الكمبيوتر على الفنون عموما وكيف ارتبط الإبداع الفنى والأدبى بقيم الثورة العلمية مند تصميمات دافنشى وروايات الأديب الفرنسى "جيل فرن" Jules Vernes .

إن تاريخ العلم يؤكد أن تطوره لم يكن قط محايدا، بل كان يتخذ مسارا يخدم توجهات حضارة الغرب، إلى أن أصبح العلم هو القيمة السامية التى حلت محل القيم الأخرى المنحطة .

لقد حول الإقتصاد العلم إلى أداة طيعة وظفها لأغراض الربح والشهرة، وعمل العلم على تعطيل التعريف الأصلى للإنسان ككائن حي- ثقافى واعتمد مقولة " الإنسان الطبيعي" كما قدمه له جان جاك روسو كمنطلق ووحدة القياس الأساسية فى الدراسات الإجتماعية، وأصبح تبادل التأثير بين العلم واقتصاد السوق جليا، ومولت الشركات الأبحاث العلمية إلى جانب المؤسسات العسكرية وكانت النتيجة هذا الانحياز الكبير للعلم، وتوجيه الأبحاث العلمية لخدمة الإقتصاد.

إذ لم يعد البحث العلمى بريئا ولم يعد جوابا على تساؤلات الإنسان وتلبية لحاجياته، بل أصبح أداة للتسويق والإشهار لبعض العلامات التجارية، - يشير موقع شركة منسانتو Monsanto إلى مساهمة الزراعة المعدلة وراثيا فى الحفاظ على التربة والبيئة.

علما أن ارتفاع نسبة الزراعة المعدلة وراثيا بلغ نسبة 200% سنة 2004-
إن عصرنا يعرف نهاية "العلم" وميلاد "الخبرة" وبنهايته يفقد العقل أية مرجعية يحتكم إليها ويصبح الحكم على "المقولات" ليس بمعقوليتها ولكن بمردوديتها الاقتصادية ويختل بذلك ميزان الصواب والخطأ وتحل نسبية شاملة بدل المطلقات.

التكـاثر
إن مفهوم "التكاثر" مفهوم قرآنى يشير إلى خصيصة من خصائص الحضارة الراهنة وهو جعل الوفرة أسمى غايات الفعل الإنساني، مهما تجاوزت هذه الوفرة حد الإشباع، ومهما توسعت على حساب قيم أخرى.

لقد أصبح الرفاه قيمة عليا وأصبحت الثروة المادية فوق آداب السلوك والاستنارة، وقد لخص وزير التجارة والصناعة فى حكومة حزب العمال الجديد فى المملكة المتحدة ستيفن بايرز سنة 1999 هذا الإتجاه بقوله " إن صنع الثروة الآن أهم من توزيع الثروة".

لقد بدأ التحول نحو مجتمع التكاثر فى الغرب بارتفاع الإنفاق على الخدمات الترفيهية واعتبار السوق الحرة قادرة بشكل أفضل من الدولة على توزيع البضائع والخدمات.

لقد ارتفع فى منتصف السبعينيات الإنفاق على خدمات الرفاه الرئيسية فى المملكة المتحدة من إجمالى الناتج المحلى من5 %إلى 20%، وتمت إعادة ترتيب رهيبة للقيم فى المجتمعات الغربية، إذ لأول مرة يعتبر الجشع من القيم الإيجابية.

وتزامن هذا التحول مع ميلاد اتجاه فكرى عام مواز لمقولة الإنسان الإقتصادى Homo économicus، أما على مستوى الإنتاج الفكرى فقد ظهرت مجموعة من الكتب لتمجيد هذه القيم الجديدة وتوطينها فى المتخيل الغربى ككتاب Wall street لاوليفر ستون وكتاب Bonfire of vanities لتوم وولف، وكتاب Money لمارتن أمس .

لقد عرف الإقتصاد العالمى تحولا نحو القطاع السياحي، وبعد النزوح الاستعمارى نحو الجنوب لجلب المواد الأولية واليد العاملة بدأ هذا النزوح يأخد أبعادا أخرى ذات طبيعة ترفيهية Ludique فانتعشت السياحة التى تحولت من الإغزوتيزم الى السياحة الجنسية، وتطور اقتصاد الألعاب والموضة، وبدأت هذه القطاعات تحقق أرباحا طائلة بالمقارنة مع باقى القطاعات الاقتصادية التقليدية، إذ بلغ رقم معاملات قطاع ألعاب الفيديو عالميا سنة 2006 حوالى 25 مليار أورو، وبلغ سنة 2005 فى الولايات المتحدة وحدها 10.5 مليار دولار.

وترتبط الأبحاث القائمة فى هذا المجال مع الصناعات العسكرية والطبية وتعتبر ذات طبيعة إستراتيجية ، إذ يظهر كل ست سنوات جيل جديد من هذه الألعاب، كما أن هذا القطاع من القطاعات الأكثر انتعاشا فى الإقتصاد العالمي.

لقد وصل رقم معاملات المجلات المصورة 298 مليون أرور فى نفس السنة، وفى فرنسا حققت الشركة الفرنسية للألعابLa Française des Jeux سنة 2005 رقم معاملات وصل إلى 8.93 مليار أورو، إذ أن ثلاثة من كل خمس فرنسيين تعاملوا مع شركات الألعاب ولو لمرة واحدة فى السنة .

أما فيما يخص الإقتصاديات المؤسسة على تجارة الجنس، فقد وصل رقم معاملات هذه الصناعة إلى 52 مليار اورو، حيث ارتفع عدد المواقع الإباحية فى الإنترنيت من 22 ألف موقع سنة 1997 إلى حوالى 280 الف موقع سنة 2000 وفى نقس السنة سجل حوالى 11 ألف شريط إباحى فى الولايات المتحدة وحدها .

وقد أضحت هذه الأشرطة المتاحة مجانا على الأنترنت تهدد صناعة وتسويق الأفلام الإباحية باعتراف حرفيى هذه الصناعة، ويتجلى خطر عولمة هذه الصناعة فى التشوية الكبير لمتخيل المتلقى وطريقة تمثله للجسد البشرى مما يطرح إشكالات أخلاقية عديدة.

إن هدف مجتمع التكاثر هو إفراغ الإنسان من كل محتوى ثقافى ليصبح فريسة سهلة لشبكة الإستهلاك، حيث أصبحت الحاجيات البشرية موجهة من طرف اقتصاد السوق وظهرت حاجيات غير طبيعية بظهور علوم تخصصت فى صناعة هذه الحاجيات.

فبعد إشباع الحاجات الأساسية للإنسان الغربى بفضل التقدم التكنولوجى وصناعة الغذاء "خلال ثلاث سنوات من 1995 كان 25 فى المائة من القمح المنتج فى الولايات المتحدة الأمريكية و37 فى المائة من حبوب الصويا 45 فى المائة من القطن معدلة وراثيا، وكانت جميع بذورها من شركة مانسانتو وقد عدلت هذه البذور لكى تصبح أكثر مقاومة للمبيدات الحشرية التى تنتجها نفس الشركة" بدأ الإتجاه نحو ما يمكن تسميته باقتصاد الوهم illusion\'d Economie وهو اقتصاد قائم على صناعة الموضة والسينما والتجميل والبورنوغرافيا، ويهدف هذا الإقتصاد إلى إشباع حاجات ثانوية بل حاجات مختلقة ووهمية.

إن المنتج الجديد والأكثر استهلاكا هو منتوج "لامادي"، لقد صارت الأسواق الكبرى هى الكنائس الجديدة للطبقة الوسطى فى بريطانيا وبإخراجه من منظومة الغرب القيمية يصبح دون قيمة بل ذو قيمة سلبية فى بعض الأحيان.

وقد بدأ الإنتباه فى الغرب إلى هذه الظاهرة ودشنت محاولات عديدة للأفراد والجمعيات الأهلية لمواجهة هذا المد، وعرفت نهاية التسعينيات حركة مناهضة للأغذية المعدلة وراثيا فى أوروبا وبعد ذلك فى الولايات المتحدة الأمريكية وقد أصبحت "الاستهلاكية فى حقبة عدم الإكثرات السياسى والتحلل من الإرتباط ... تحل محل المواطنة على اعتبار أنها الأداة التى يحصل بها الفرد العادى على هويته وعلى الإعتراف به فى الساحة العامة".

وقد أكد استطلاع للرأى أجراه معهد غالوب فى بريطانيا سنة 1995 أن ثلاثة من بين خمسة مستهلكين فى المملكة المتحدة مستعدين لمقاطعة المتاجر أو المنتوجات التى يتشككون فى معاييرها الأخلاقية وأن 75 فى المائة من الأمريكيين كذلك وقد أطلقت الصحافة البريطانية على الأطعمة المعدلة وراثيا اسم "أطعمة فرانكانشتاين" دلالة على درجة العبث التى وصلت إليه الشركات بالمنتوجات الطبيعية.

2- آثار التحولات الحضارية الغربية
إن الإنحراف الذى بدأ فى تاريخ الحضارة عن خط الاتزان بين المادى والقيمى جر العالم إلى ويلات وحروب ذهب ضحيتها ملايين القتلى فى مواجهات عالمية طاحنة، وأدى إلى زوال حضارات وشعوب بكاملها، وظهور تفاوتات قاتلة فى توزيع الثروة والمعرفة، ورهن مصير الأجيال القادمة لمئات السنين.

لقد كانت تكلفة مجتمع التكاثر والإستغناء الاجتماعية والمادية باهظة جدا بالنظر إلى المآلات التى آلت إليها هذه المجتمعات، ومصير البشرية الحضارى الآن رهين بتحديد هذه الاختلالات ومعالجتها.

ونظرا لكون مجتمعات التكاثر والاستغناء لا تخرج على أن تكون مجتمعات شمولية ومنغلقة فإن أهم تهديد ينتج عنها يمس التنوع الإنسانى فى كل مجالاته ويشمل هذا التهديد:
- تهديد التنوع الثقافي
إن تهديد التنوع الثقافى يتزامن مع تنامى نزعة التنميط Uniformisation الثقافى وعولمة قيم وسلوكات وأنماط حياة الإنسان الغربي.

فالمشروع الثقافى الغربى لا يخدم إلا ذاته وعالمه المغلق، كما أن الإنتاج الثقافى الموجه إلى الشرق عبر مؤسسات الإستشراق ثم عبر مؤسسات العولمة جعل من الشرق موضوعا للمعرفة وليس موضوعا للحوار، فالغرب يحاول أن يكون فى علاقته مع الشرق مرجعا وقانونا حضاريا مطلقا.

وبذلك تحولت حضارة الغرب إلى آلة عملاقة لمأسسة التبعية ولتسويق قيمها وفرضها على العالم، بحيث أصبحنا نعيش عصر القيم العابرة للقارات Valeurs transnationales بواسطة آليات مركزية تعتبر كل القيم المغايرة قيما دونية، مع ما يترتب عن هذه الرؤى من صدامات حضارية وحروب وأزمات يكون الخاسر فيها والرابح سيان.

وقد تجاوز التنميط القسرى الحياة الثقافية للإنسان إلى مستويات أعمق تمس الكيان الإنسانى فى أخص خصوصياته.

إن توحيد المخيال Imaginaire باستعمال صناعة السينما والمجلات والأزياء وتسويق هذه النماذج لخدمة الرأسمال ينحو بالعالم نحو كارثة معرفية بدأت ملامحها تتجلى منذ الآن.

إن عالم الغد سيكون عالما ميكانيكيا رتيبا دون اختلاف ولا تنوع، وسيبدو الإنسان كصورة طبق الأصل لغيره ما دامت كل القيم والخصوصيات ستختفى لتحل محلها قيم الاستهلاك واللذة وسيجد الإنسان نفسه مهددا فى خصوصياته النفسية والوجودية.

ويتنامى تهديد التنوع الوجودى فى حياة الإنسان المعاصر بتغييب البعد الروحى والقيمى وما ينتجه من شقاء وبؤس، وما يؤدى إليه من ظهور لطوائف دينية غريبة وسلوكات تعويضية مدمرة.

-تهديد التنوع البيولوجي
يحمل تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الانمائى لسنة 2007-2008 محاربة تغير المناخ: التضامن الانسانى فى عالم منقسم فى طياته كما هائلا من المعلومات الدقيقة عن الوضعية الكارثية للبيئة فى الدول المتقدمة والنامية على السواء.

وقد تنامى فى السنوات الأخيرة الحديث عن الكلفة البيئية للتنمية وعن التفاوتات الناتجة عن اتساع الهوة الإقتصادية بين الشمال والجنوب مما يؤثر سلبا على التوازن البيئى وعلى أمن واستقرار هذه الأقليات.

واعتمادا على أرقام تقارير التنمية البشرية الذى تصدرها الأمم المتحدة، والذى تحاول من خلالها لفت الانتباه إلى طبيعة هذا النمو وقياس مدى تحقيق الأهذاف المرسومة من طرف المجتمع الدولى خاصة أهداف الألفية فى مؤتمر كوبنهاغن والذى يوجد على رأسها القضاء على الفقر والأمية، فإن نسبة التفاوتات فى تصاعد مهول رغم وجود الإمكانيات العلمية والتقنية للحد منها.

وتقدم هذه التقارير، التى تحولت إلى محاكمات سنوية لسياسات الدول الكبرى، ملامح إحصائية لبعض التفاوتات الخطيرة فى توزيع الثروات والخدمات بين دول الشمال وباقى دول العالم حيث يستهلك 20% من سكان العالم المترفين 85% من مجموع السلع والخدمات فى العالم فى حين يحصل فيه 20% من الساكنة الأكثر فقرا فى العالم على 1% من هذه السلع والخدمات .

ويوجد الآن أقل من 100 شركة متعددة الجنسيات تتحكم فى نحو 20 % من الأصول المالية العالمية وتزيد مبيعات شركتى "جنرال موتورز" و"فورد" على إجمالى الناتج المحلى لجميع دول ما وراء الصحراء الإفريقية، كما تزيد الأصول المالية لشركات "أى بى آم" و "بى بي" و"جنرال إليكتريك" على المقدرات الإقتصادية لمعظم الأمم الصغيرة.

وتجدر الإشارة إلى أن معظم تقارير منظمة الأمم المتحدة للتنمية تؤكد بجلاء هذا التفاوت الحاصل بين دول الجنوب ودول الشمال من حيث الإستفادة من توزيع الخدمات وثروات الأرض.

وتشير إحدى هذه التقارير إلى أن مجموع ما هو ضرورى لضمان التربية الأساسية لكل فرد فى العالم يبلغ 6 مليار دولار، وثلاثة أرباع هذا المقدار يصرفه الأمريكيون وحدهم على منتجات التجميل والنيولوك، حيث ينفق الأمريكيون 8 ملايين دولار سنويا على مواد التجميل.

كما يشير تقرير التنمية لسنة 2006 إلى أنه يشهد كل عام وفاة 1.8 مليون طفل من مرض الإسهال الذى يمكن تجنبه بتوفير الماء النظيف والمراحيض، كما يتم التغيب عن 443 مليون يوم دراسى بسبب الأمراض المتعلقة بشح المياه النظيفة.

وفى هذا المجال يقدم تقرير الأمم المتحدة " ما هو أبعد من الندرة: القوة والفقر وأزمة المياه العالمية، " تحليلا شاملا حول ما وصلت إليه حالة البيئة اليوم خصوصا حالة الموارد المائية فى العالم إذ أحصى التقرير 507 مواقف خلافية سجلت حول مصادر المياه 37 منها قادت إلى استعمال القوة وذكر أنه يتوقع أن شح المياه سيرتفع خلال 2025 إلى 50% فى الدول النامية و18% فى الدول المتقدمة.

وفى مجال التنوع البيولوجى ذكر التقرير أن 24% من اللبائن و12% من الطيور باتت مهددة وأن ما بين 34 و80 نوعا من الأسماك انقرضت منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم، كما لاحظ المراقبون أنه منذ 1987 حصلت أكثر من 15 كارثة بيئية ذهبت بـ 15 مليار دولار بالإضافة إلى الأمراض والأوبئة الحديثة والتى تهدد الثروة الحيوانية والإنسان والمجال.

إن الفوارق العجيبة فى حجم الإستهلاك ونوعيته بين السكان الأكثر غنى فى العالم والسكان الأكثر فقرا يحيل على نموذج تنموى لا إنساني، ولعل المتأمل فى هذه الأرقام يمكن أن يستخلص أن غنى الشمال لا يمكن أن يتحقق دون فقر الجنوب وأن الحل يكمن فى تعديل نموذج التنمية الشاملة المعمول به.

ويجب أن تنعكس التنمية على طبيعة الحياة اليومية للإنسان بدل الإنعكاس على التوازنات الإقتصادية الكبرى، فالتقدم ليس عملية مرتبطة بالغرب ارتباطا عضويا، كما أنه ليس جملة من المؤشرات الكمية، إنما هو صيرورة تاريخية تلامس البنى الجوهرية للمجتمعات، وهناك كثير من الشعوب بنت نماذج تنموية مفارقة بعيدا عن مركزية الغرب ونمطه.

إن الإختيارات الكبرى للحضارة الغربية تعمل بشكل لا يسمح بظهور مسارات متميزة لحضارات مختلفة بل مسار واحد لحضارة مركزية تجر معها العالم بأسره نحو اتجاه واحد وبطريقة قهرية ، إذ لأول مرة فى تاريخ البشرية يكون مصير العالم بأسره مرهونا بمصير حضارة معينة، ولا يمكن وقف هذا التحول إلا بإحداث ثغرة ثورية فى طريقة تفكير الإنسان الغربى بإعادة النظر فى مسلمات عصر الأنوار وعصر الحداثة.

كما أن مسار هذه الحضارة هو مسار مبرم " Irréversible " بحيث لا يمكن وقفه بإحداث ثورة داخلية فى أسسه، رغم أزماته المرحلية، لأن الغرب لا يمكن أن يسمح بالمراجعة الشاملة لهذا المسار لأنه بنى كل مقومات حضارته وغناه وأسس تفوقه وهيمنته على مقولاته.

____________________
*كاتب فلسفي
.

التعليقات