31/10/2010 - 11:02

معرض عن العلوم العربية في معهد العالم العربي بباريس

-

معرض عن العلوم العربية في معهد العالم العربي بباريس
يحتضن معهد العالم العربي في باريس ابتداء من 25 تشرين الاول (اكتوبر) وحتي 19 اذار (مارس) 2006 معرضا كبيرا عن العلوم العربية في عصرها الذهبي، ويطمح هذا المعرضُ إلى الكشف عن خصائص التطور المذهل الذي عرفته العلومُ العربية في الفترة التي عرفت باسم العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية (من القرن الثامن حتى الخامس عشر). وهو يضم مئتي قطعة معارة من أربعين مؤسسة.

لقد ساهمت الحضارة العربية في كل فرع من فروع المعرفة الفكرية والتقنية، وأنجزت اكتشافات هامة في مختلف ميادين العُلوم. وقام عُلَماء الإسلام في البداية بدراسة واستيعاب وإعطاء امتداد، عبر إسهامات جديدة، للتخصصات التي كانت تُمارَس في الحضارات السابقة (لاسيما الإغريقية وبلاد الرافدين والهندية) وذلك من خلال اللجوء إلى العلوم التجريبية، وكذلك من خلال دراسة ميادين وتقنيات لم تتشكل إلا في وقت متأخر في أوروبا.

وساهم في تقدم هذا التراث العلمي الكوني كثيرٌ من العوامل، ومن بينها لغة واحدةٌ مشتركةٌ هي اللغة العربية، وازدهارُ إمبراطورية شجعَ امتدادها (من إسبانيا إلى الهند) على المبادلات، ورعايةُ الخلفاء والأمراء للآداب والعلوم والفنون بالإضافة إلى نُزوعٍ إلى حرية التفكير وعقلية التسامح.

لقد أخفى التاريخ الغربي، خلال فترة طويلة، دَيْنِه للعُلوم العربية، أو قلَلَ من أهميته، على الرغم من أن العلوم العربية تظهر من الآن فصاعداً كَحَلَقة لا غنى عنها للتاريخ الكوني للعلوم.

انطلاقا من القرن الثامن، وبعد فترة طويلة من النضج، بدأت حضارةٌ أصيلةٌ وقويةٌ حملتها ديانة جديدةٌ هي الإسلام، تفرض نفسها معبر عنها أساسياً باللغة العربية، في إطار فضاء جغرافي ـ سياسي واقتصادي يمتد من تُخوم آسيا الوسطي إلى جبال البيرينيه. وكانت الأنشطة العلمية الثرية والمتعددة الأشكال من بين العوامل المُكوِنة والمُميِزَة لهذه الحضارة.

نهل رواد هذه المغامرة الخارقة، منذ البداية، من الخزان المحلي للمَعَارف المنفعية والمهارات. ثم استعاروا بعدها من الإرث القديم للإغريق والهند وفارس وبلاد الرافدين. وبعد أن استوعبُوا وتمثلوا، من خلال قراءة مثابرة، في التعليم والتعليق، كل ما جاءهم من الجواهر العلمية لمن سبقهم، وانطلقوا في البحث والاستقصاء من خلال منح امتداد لمُساهَمَات مُعلِمِيهم، والتحرر من إرثهم عبر نقد خصب وابتكارات بالغة الدلالة.

في غضون قرن من الزمان سيثبت حَمَلَة العِلْم من هذه الحضارة الجديدة أنهم لم يُصبحوا فقط حَمَلة وحُراسا للمعرفة القديمة بل أيضا، وبشَكل خاص، روادا لمسيرة العلم، أي بُناة حداثة جديدة. كيف يمكن تسمية هذه الظاهرة الاستثنائية؟ معجزةً، عارِضا في التاريخ، أم سيرورة متوقعة في تطور حضارةٍ مَا؟ ولكن قبل أن نسميها، ألا يتوجب علينا محاولة تقديم تفسير لها ثم إعطاء لمحة عنها اعتمادا علي الإسهامات الأكثر دلالة؟ باختصار، نلاحظ أنه بعد مرحلة الفتح (632 ـ 750) والتوطُد السياسي للإمبراطورية الجديدة، وَجَدَ حُكَامُها ورعاياهُم أنفسَهُم في وضعية مُريحة جدا، ألا وهي ضم مناطق عدة من العالم إلى كيان جغرافي ـ سياسي واحد من دون حدود ولا حواجز، مما خلق فعلياً فضاء اقتصادياً واسعاً يرتكز على التحكم في التجارة العالمية على مدى عملٍ واسع، وإدارة فسيفساء من الشعوب والقوميات التي ساهمتْ نُخَبُهَا، من قبلُ، في إدارة إمبراطوريات. ثم إن هذه النُخَب نفسها حافَظَت على رباط مع المَعَارف القديمة، عبر المحافظة على الكُتُب أو عن طريق استمرار التعليم أو الممارسات العالمة.

وقد تمثل هذا، مثلا، في الإسكندرية أو غونديشاتبور، أو في حران أو في نصيبين، وأحيانا في بعض أديرة العراق وسورية.

ثم كانت ظاهرة الترجمة، التي أُنجزت أو صُوحِبَت بعاملين هامين: العامل الأول يتمثل في قرار الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (685 ـ 705) بتعريب الدواوين المركزية والإقليمية في الإمبراطورية.

وقد كان هذا القرار، في حد ذاته، نتيجة لانتشار اللغة العربية الحاملة للدين الجديد. كما خلق، بدوره، دينامية لتعريب المعارف القديمة في حضن نُخبة السلطة من غير العرب التي شاءت الاحتفاظ بالامتيازات التي حصلت عليها بفضل مهاراتها. أما العامل الثاني فيتمثل في تطور الأبحاث المتعلقة باللغة العربية (نحو، علم المعاجم، فقه اللغة، العَرُوض)، والتي جرتْ وفق إجراءات علمية خلقت، بشكل حقيقي، أوَلَ فضاء ذي طابَع دنيوي للتفكير والدراسة.

امتدت عملية الترجمة على مدى 150 سنة. ولم يكن الأمر مغامرة بسيطة من قبل هُواة الكتب، خاضعة لِصُدَف اكتشاف مخطوطات نادرة. بل تطلب الأمر، من أجل أن تتحقق الترجمة، أن تجتمع بعض الشروط وبالفعل كان ذلك.

استوجبَ الأمرُ في البداية وجود رعاية نافذة للعلوم والفنون والآداب من قِبَل الخلفاء العباسيين الأوائل، المنصور (754 ـ 775) والمهدي (775 ـ 785) وهارون الرشيد (785 ـ 809)، وبشكل خاص من قبل الخليفة (المأمون) (813 ـ 833)، وهي رعاية رافَقَهَا وحلَ محلَهَا مستويان آخران من الرعاية أتاحا بشكل حقيقي مواصلة هذه العملية، فهناك من جهة موظفو دولة كبار، مثل جعفر البرمكي ومن الجهة الثانية أعضاء ميسورون جدا من الطبقة العلمية الجديدة. كما نَجدُ من بين ممثلي الجانب الثاني، وبشكل لا يقبل الجدل، بنو موسى (القرن التاسع)، الذين ورثوا من ثروة أبيهم الذي كان مُقرَباً من الخليفة المأمون ، وقد أنفق هؤلاء الإخوة الثلاثة مبالغ مالية خيالية من أجل تمويل مهمات التنقيب عن مخطوطات تهم تخصصاتهم (الرياضيات، علم البصريات، الميكانيكا). ثم قاموا بعدها باختيار أفضل المترجمين في عصرهم، مثل إسحاق بن حنين (توفي 910)، وهو مسيحي، وثابت بن قرة (توفي سنة 901)، وهو وثني، كي يُنجزوا لهم ترجمات عربية لاكتشافاتهم الثمينة.

وكما نلاحظ من خلال هذا المثال الملموس فإن ممثلي هذه الظاهرة تعالوا وتساموا على خصوصياتهم الطائفية والثقافية كي يلتقوا حول مشروع يتمثل في تطوير العلوم.

هكذا رأى النور، ما بين القرن التاسع والقرن الخامس عشر، تقليدٌ علمي قوي ومتعدد الأشكال، ثم توطَدَ على مر الزمن. وتم تعليم كل الفروع والتخصصات القديمة التي كانت تُمارَسُ من قبل علماء الإغريق والهند وبلاد الرافدين وفارس باللغة العربية فقط إلى نهاية القرن التاسع، ثم بشكل تدريجي باللغة الفارسية في مناطق آسيا الوسطي. ولكن محتوى هذه الفروع المعرفية لم يحافظ على الحالة التي كان عليها زَمن إخراجه من طي النسيان، بل خضع لعملية إثراء عميق خلال كل هذه المرحلة بل وتم تطويره عبر ابتكارات عديدة.

ويندرج بعض هذه الابتكارات ضمن آثار المُساهمات القديمة، كما هو الشأن في ما يخص الطب والهندسة وعلم الفلك والميكانيكا. بينما يُشكِلُ البعض الآخر قطيعة حقيقية حين يتعلق الأمرُ بظُهور تخصصات جديدة مثل الجَبر وعلم المُثلَثَات وعلم الزمن.

ولكن إسهامات التقاليد العلمية لا تقوم من خلال نتائجها الجديدة فقط، وليس من السهل التعرف على بعض المساهمات لأنها ليست صنيعة عالِمٍ أو عدة علماء تم تحديدُهُم بشكلٍ واضح. كما في حالة التطور الأصلي لموضوع المُربَعَات السحرية، ما بين القرنين التاسع والرابع عشر، أو حالة التحليل التوافُقي انطلاقا من القرن الثاني عشر (وهو ما أتاح توضيح وكشف قضية عدد الكلمات التي يمكن أن تعبر عنها لغةٌ معينةٌ).

إن الأمر يتعلق خاصة بتبني طرق علمية جديدة، فبعد أن ألَمَ العُلماءُ العَرَبُ بِمناهج الهند التي تَستَخْدِم الملاحظةَ والحسابَ أساساً ثم بطريقة الإغريق التي تُفضِلُ البرهنة، قاموا بتوليفٍ بين الطريقتين. بل وصل بهم الأمرُ إلى إضافة طريقة ثالثة، أساسية في الفيزياء، وهي الطريقة التجريبية التي أصبحتْ، بفضلهم، إحدى أنواع الأدلة أو الحُجَة في ميدان البحث. كما أنه توجد كثيرٌ من المساهمات التي نُسِبَتْ للعَرَب في الوقت الذي لم يفتخروا هُم بهَا أبدا.

ثمة موضوع الأرقام العربية الشهير، وبشكل خاص، مسألة الصِفْر. نحن لا نعرف أي نص قديم ولا أي عالِم رياضي من أرض الإسلام أعلن عن هذه الإسهامات. الخوارزمي (توفي سنة 850) العالِمُ الذي قام بالتعريف بها، في بغداد في البداية وبعدها في كل الإمبراطورية، هو أول من نشر كتابا في الحساب وأسماه كتاب الحساب الهندي، وفيه يَعرض النظام الشهير للأرقام مع الصفر الذي يسمى النظام العشري الوضعي الذي يُستخْدَم اليوم عالميا. إلا أنه ليس من الخطأ القول إن علماء الرياضيات في بلاد الإسلام هم الذين قرروا مصير الصفر من خلال إدماجه في أنشطتهم العلمية، وبشكل خاص من خلال إيجاد وظائف جديدة له لم تكن له في السابق لأنه كان يصلح فقط في تعليم الوضعيات الفارغة في كتابة رقمٍ معين.

في إطار التطوير الجديد للرياضيات، الذي تم إنجازه في بلاد الإسلام حصل الصفرُ، بصفة فعلية، على وضعية الرقم. وهي إحدى الأشياء السعيدة التي حدثتْ له. خطأ آخر فيما ينسب للعرب هو نقل علوم الإغريق إلى أوروبا في القُرون الوسطي. هذا الاختصار المُريح ليس نوعاً من عدم الدقة البسيط في ميدان الاصطلاحات. وقد انتهى به الأمر إلى أن عَبَرَ عن رؤية مُشوَهَة بشكل كلي، عن مساهمات العلوم العربية في تنشيط العلوم في الغرب انطلاقا من القرن الثاني عشر.

يتوجب علينا أن نحدد في البداية بأن فكرة نقل المعرفة، عند حدود علمنا، إلى جيران الشمال لم تُخامِر أبدا عقولَ رجالات العلوم في الإمبراطورية الإسلامية. بل أننا عثرنا على نصوص تحذر من مثل هذا الإغواء. السبب الأول يتعلق بموقف ثقافي تقاسمته، بصفة واسعة، النخبة في هذه الإمبراطورية التي كانت ترى بأن الممارسة العلمية مثل تكملة بالنسبة لمجتمعات وجدتْ حُلولا لِمشاكلها المادية. إلا أن الدول اللاتينية في تلك الفترة، في نظرهم، لم تكن قد ارتقت إلي مستوى حضارة تقودها، بشكل طبيعي، إلى أن تهتم بالعلوم.

السبب الثاني مرتبطٌ بوضعية الصراع التي كانت تسود، منذ نهاية القرن الحادي عشر، إذنِ لا يمكننا الحديث عن نقل بالمعني الصحيح للكلمة، في عملية لم يكن فيها ناقِل .

إلا أنه مع ذلك عَبَرَتْ علومُ الإغريق والعرب، بالفعل، الحدود على الرغم من العنف والحروب التي اجتاحت كل ضفاف البحر المتوسط خلال أكثر من قرنين (من نهاية القرن الحادي عشر إلى نهاية القرن الثالث عشر). وقد حدث هذا ضد منطق الحرب، بل إنه كان إحدى الظواهر الهامة في القرون الوسطي وإحدى الأمثلة المدهشة على قدرة البشر على الالتقاء والتحدث إلى بعضهم بعضاً وإنجاز مشروع يتجاوزهم ويتسامي عليهم.

وبالفعل فبفضل مبادرات فردية، في سياق أوروبي سوسيو-اقتصادي ملائم، تمت ترجمة مئات من جواهر علوم الإغريق والعرب إلى اللاتينية. يتعلق الأمر بشباب شغوفين ولديهم فضول معرفي، كانوا يتلقون تمويلا من قبل شخصيات ثاقبة الفكر، غادروا أماكن نشوئهم في اتجاه المناطق التي كانت فيها العلوم، حتى تلك الفترة، تُدَرَسُ باللغة العربية، أي في طليطلة وباليرمو. كان مغامرو العلوم، هؤلاء، يُدْعَون جيرار (من كريمون)، أديلار (من باث)، بلاتون (من تيفولي)، هوغو (من سانتالا)، جون (من إشبيلية)، هيرمان (من كارنثي). وكانوا، كلهم، دون سن الثلاثين، وكانوا، في غالبيتهم، لا يتحدثون سوى باللغة اللاتينية، ولكنهم يقتسمون نفس الشغف، وهو الاقتراب من المعارف الجديدة . من خلال اندفاعهم، باستماتة، في الترجمة كانوا يشتغلون من أجل عالَمِهِم، الذي كان في حالة تَكَوُن، هذا العالَم الذي كان يهيئ، بشكل بطيء، شروط بزوغ العُلوم الحديثة. قاموا، في غالب الأحيان بالاستعانة بمسلمين أو بيهود يتقنون اللغة العربية واللغة المحلية، بترجمة كبار كلاسيكيات الرياضيات وعلم الفلك والهندسة والفلسفة اليونانية. وفي نفس الوقت اهتموا بالمؤلَفَات العربية التي منحت امتدادات للتقاليد الإغريقية أو التي كانت أصيلة بشكل كامل. إنهم من نسب الأرقام الهندية للعرب لأنهم رأوها، لأول مرة، في الكتب التي كانوا يترجمونها. وهم أيضا من قرَرَ بأن الجبر والصفر والإنبيق وسمت الرأس وبعض عشرات من النجوم ستحمل أسماء عربية.

إلى هؤلاء المسيحيين القادمين من الشمال في معظمهم، يجب أن نضيف عشرات من المتعلمين اليهود الذين كان لهم امتياز إتقان اللغة العربية باعتبارهم رعايا سابقين للسلطة الإسلامية، وكانوا أحيانا من حَمَلَة العلم تعلموا الرياضيات والطب والفلسفة، بشكل حصري باللغة العربية. وقد أخذت مساهمتهم في ظاهرة النقل، بشكل أساسي، شكلين اثنين. البعض منهم كانوا مترجمين مثل زملائهم اللاتينيين، في حين اكتفي البعض الآخر بأن يكتب باللغة العبرية ما تعلمه باللغة العربية. وكما نرى فإن الأمر يتعلق، إن على مستوى المحتوى أم على مستوى الطريقة، بظاهرة مختلفة من الناحية النوعية، عن ظاهرة النقل. إنها، بالفعل، عملية استقصاء لمعرفة جديدة قررها من كان في حاجة إلى هذه المعرفة وليس من كان يمتلكها في تلك الفترة.

ويجب أن نضيف أن هذا النقل لم يَنْته فقط بوضع النتائج والتقنيات وطرق الصنع والأدوات النظرية والوسائل تحت إشارة رجالات العلوم في أوروبا في القرون الوسطى. هذا المجموع من المعارف ومن المهارات كان مرفقاً بطرق علمية وبخطاب حول العلوم وبموقف إزاء المعرفة. وهنا كان المستجد الآخرُ، وهو ربما الأهم، وهو أنه يتم تقديمُ العلوم والفلسفة العربية، للمستخدمين الجدد، من خلال خطاب دنيوي، بشكل حصري، لم يتعودوا عليه من قبلُ.

كانت هناك مهمتان تنتظران إذن رواد العلم الأوروبي، وهما تمثل واستيعاب المعرفة اليونانية والهندية والعربية وأيضا الإلمام بالطريقة العلمية التي أتاحت إنتاجَهَا. ليس من المدهش أن الأمر تَطَلَبَ أربعة قرون كي يتحقق هذا البرنامج وكي تظهرَ العلاماتُ الأولى لحداثة جديدة.


"القدس العربي"

التعليقات