31/10/2010 - 11:02

نوبل للآداب للكاتب الفرنسي جان- ماري غوستاف لو كليزيو

نوبل للآداب للكاتب الفرنسي جان- ماري غوستاف لو كليزيو
أعلنت الأكاديمية السويدية اليوم الخميس 9/10/2008 عن منح جائزة نوبل للآداب للكاتب الفرنسي جان- ماري غوستاف لو كليزيو.
وامتدحت لجنة نوبل في حيثيات قراراها الكاتب الفرنسي لما أبدعه من روايات المغامرات، وكتب الأطفال وما كتبه من مقالات.
وقال بيان اللجنة إنها اختارت "كاتب الانطلاقات الجديدة والمغامرة الشعرية والنشوة الحسية ومستكشف بشرية ما وراء الحضارة السائدة".
وسيتسلم لو كليزيو، المعروف بروحه الشابة رغم بلوغه الثامنة والستين من العمر، الجائزة وقيمتها المالية في احتفال بالعاصمة السويدية ستوكهولم في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
وكان لو كليزيو قد اشتهر في العام 1980 بعد نشر رواية "الصحراء" التي اعتبرتها الأكاديمية السويدية تقدم "صورا رائعة لثقافة ضائعة في صحراء شمال أفريقيا".
وكتب أيضا كتبا للأطفال من بينها لولابي عام 1980 وبالابيلو عام 1985.
وقد سبق أن حصل على عدد من التقديرات الأدبية في وطنه فرنسا منها جائزة لاربو في العام 1972، وجائزة جان جيونو الكبرى عام 1997.
والكاتب من مواليد 1940 في مدينة نيس الفرنسية، وقد قضى سنتين من طفولته في نيجيريا، وقام بالتدريس في جامعات في بانكوك وبوسطن ومكسيكو سيتي.
وتبلغ قيمة الجائزة حوالي 1.4 مليون دولار أمريكي، وهذه هي المرة الأولى التي يحصل عليها كاتب فرنسي منذ عام 1985.
شغل سحر الرواية في العقود الأخيرة النقاد والمبدعين والقراء، ودبجت مقالات كثيرة في تعليل ذلك من بينها قدرة الروائي على الغوص إلى القاع من كل شيء: قاع النفس البشرية وقاع المجتمع وقاع التاريخ وقاع الكون.‏
ولو كليزيو أضاف إلى هذه القدرة، براعة في الإنصات إلى أصوات لا يسمعها أحد، ومهارة في مزج التجربة الشخصية بالإبداع الفني، فجاءت أعماله كاشفة للتشوهات التي تصيب الأرواح، وجاذبة للخيط الإنساني الكامن في أعماق البشر.‏
ولد جان ماري غوستاف لو كليزيو في نيس بفرنسا لأب بريطاني وأم فرنسية عام 1940، والتحق بوالده في نيجيريا وهو في الثامنة، وقرأ الكتب والحكايات بنهم، ونشرت روايته الأولى وعنوانها "المحضر الرسمي" عام 1963، وأدى الخدمة العسكرية في بانكوك عام 1967، وأثرت هذه التجربة على شخصيته بوضوح، وكتب مقالاً في صحيفة "فيغارو" حول دعارة الأطفال في تايلاند، وطرد بسببه من هناك، فرحل إلى المكسيك، وشكل اكتشافه لها صدمة كبيرة، إذ عمل على تراث الهنود الحمر وشاركهم حياتهم، وترجم نصوصاً قديمة لهم.‏
سؤال الكينونة ظل هاجس لو كليزيو وحافز مغامراته، وقد مثل في إبداعاته الكاتب الباحث عن صوت الآخر، والرافض لأساطير العالم الغربي الزائفة المدمرة، والمبتعد عن شروطها وإملاءاتها. وليس غريباً أن يدخل في مواجهة مع ممثلي التيار الصهيوني في فرنسا، إذ هاجموه وحاصروه بالشبهات كما فعلوا مع جان جينيه، وعدوا عمله "نجمة تائهة" الذي نشر في مجلة الدراسات الفلسطينية، وتناول فيه أوضاع اللاجئين الفلسطينيين والمخيمات عملاً معادياً للسامية.‏
زوجته جيما من أصل مغربي، وهي كاتبة مبدعة، وقد أصدر وإياها عملاً مشتركاً اسمه "أناس الغمام"، رويا فيه رحلتهما في الصحراء الغربية الإفريقية، وقال فيه: كنت أذهب نحو المجهول بينما كانت جيما تعود إلى ماضيها.‏
أضاف لو كليزيو إلى حرفة الكتابة شغفاً بالترحال والترجمة والصحافة، وحصلت بعض أعماله على جوائز رفيعة منها جائزة بول موران التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية عام 1980، وجائزة غونكور. ومن أبرز إبداعاته: رحلة إلى رودريغس عام 1986 العزلة عام 1995، قلب يحترق عام 2001، ثورات عام 2003، ومعظم شخصيات رواياته ترحل وتطوف وتكتشف حرة ونقية وقاسية.‏
ورواية "سمكة من ذهب" خير شاهد على ذلك، وقد صدرت عام 1997، وترجمها إلى العربية عماد موعد، وصدرت عن وزارة الثقافة بدمشق عام 2007.‏
تسرد الرواية سيرة فتاة صحراوية مغربية مجهولة النسب، هويتها غائمة مختلطة مثل ماضي الصحراويين السديمي، تبدل اسمها من ليلى إلى مريم إلى ليز. نشأت في دوار تبريكة، وأمضت طفولتها في كنف لالا أسمى، السيدة القوية التي منحتها الحماية بعد أن خطفت من أهلها وبيعت مثل المتاع، وتعرفت في يفاعتها على جميلة التي تدير مبغى، وعلى فتياتها الملقبات بالأميرات، عائشة وتغادير وحورية وأخريات. ثم اضطرت للسرقة بعد موت سيدتها، وحين عرفت أن حورية تنوي الرحيل عبر المحيط إلى فرنسا، طلبت منها أن تصحبها في هذه الرحلة.‏
نرى ليلى الطفلة والخادمة التي عطبت إحدى أذنيها لدى تعرضها لحادث سير. تخلص لسيدتها، وتلازمها كظلها، ولا تخرج إلى الشارع لتعرف ما يجري حولها. وجدت فيها لالا أسمى معادلاً لأمومة مفقودة، ووجدت فيها فتيات المبغى معادلاً لطفولتهن المهروسة ونقاوتهن الضيّعة، ووجدت فيها حورية رفيقة رحلة تسعفها في حسم أمر رحيلها، نرى ليلى ترقص وتغني وتتعلم وتعزف، وتتوغل في أعماق الأحياء الفقيرة، لتسكن في مرآب سيارة مع أحد أصدقائها، أو تعمل خادمة وتعاني الاستغلال والمضايقة، أورثتها سيدتها لالا أسمى قرطين على شكل هلال فأمداها بالقوة كي تصمد في مواجهاتها القاسية لمتاعب المهاجرين غير القانونيين: محاولات اغتصاب وحبس ومضايقة: عبل وزهرة والسيد دلاهاي المشغوف بالتصوير. وانفتح لها في باريس عالم فسيح، شوارع بلا نهاية، ومدينة ضخمة لا تنضب بالقياس إلى حي المحيط وضاحية الصفيح في تبريكة. وأذهلها تنوع الوجوه: "وجوه حادة شاحبة بلون الأرض البيضاء، وداكنة أكثر سواداً من وجهي، بعيون تبدو مضاءة من الداخل"، ص78.‏
حورية ظلّت حبيسة المسكن، وأثقلها حملها، وليلى تتعلم التلاؤم مع الحياة الجديدة شيئاً فشيئاً، وعرفت أحياء باريس البورجوازية منها والشعبية، والأمكنة الغامضة الغريبة بجوار محطات القطار، وساعدتها ماري هيلين التي أحبت شعرها وبشرتها السوداء بإيجاد عمل لها عند الطبيبة فروميجو، والتي استطاعت أن توفر لها أوراق إقامة قانونية، ثم تعرفت على نونو الملاكم الهاوي، والذي وعدها بالزواج حين يغدو مشهوراً، ص106.‏
في كل ترحال كانت ليلى تحمل حقيبتها والمذياع القديم ولا تلتفت إلى الوراء، في شارع جافلو عرفت القاع الفرنسي جيداً، إذ اصطحبها نونو على دراجته النارية إلى المستودع الذي يقطنه تحت الأرض، الذي سبب لها الكوابيس. ثم تعرفت على حكيم بائع البسطة الذي حذرها من نونو "المجنون" بحسب وصفه، والذي اصطحبها إلى متحف الفنون الإفريقية، ليذكرها بجذورها، وقال لها: انظري يا ليلى، نسخوا وسرقوا كل شيء، التماثيل، الأقنعة، الأرواح، وحبسوها هنا بين هذه الجدران، كما لو أنها زينة رخيصة، ص120. ثم عرفها حكيم على جده مافوبا الذي روى ذكرياته عن نهر السنغال وقريته بامبا وابنته مريم التي كانت تشبه ليلى ثم توفيت بالسرطان، وقال للزائرة: كم أنت شابة يا ليلى ستكتشفين العالم، وسترين أشياء جميلة في كل مكان في العالم، وعليك أن تذهبي بعيداً لتجديها، ص124.‏
اطلعت ليلى من أصدقائها الكثر نونو وحكيم وجاتيكو والمحررة التي عملت عندها على ثقافات وطباع مختلفة: قرأت نيتشه وهيوم وفانون، وتعرفت على الثقافة الإسلامية، وحفظت أشعار إيمي سيزار، ورقصت كزنجية، وعزفت كعاشقة، وتعرفت على مختلف الأوساط الثقافية في باريس وشيكاغو التي رحلت إليها في مغامرة جديدة لاكتشاف الأبعد. وأهداها جد حكيم جواز سفر ابنته مريم وقال لها: فيما يخص الصورة الفرنسيون لا يأبهون. فكل السود سواء بالنسبة لهم، ص164. وعرفت كيف تجذب خيط الحياة الصائب في عالم ضيق لا يعترف بالمهمشين ولا يكترث بالضعفاء. وفهمت أنه حين يجتذب الخيط الصحيح يجيء الكل، وهؤلاء الذين يجمعهم شيء معين مرتبطون بعضهم ببعض، ص334.‏
تعرفت إلى سيمون وزوجها غريب الأطوار الدكتور جويو، وتعلمت منها العزف والغناء. وأعجبت بشموعها وقرابينها، وسمعت أحاديث غريبة عن الفقر الذي يحول العيون نحو الداخل، وعن خيانة الأسود للأسود في إفريقيا البعيدة، وقرأت كثيراً، وتلقفت صفحات روايات تالفة من القمامة، تعرفت على سارة وماجدة وبياتريس وأخريات. واستمعت إلى الحكايات والأغاني، وخاضت امتحان الفلسفة، وعادت تبحث عن صديقها القديم نونو في النادي لكنها لم تجده، وقالوا لها إنه خسر كل شيء ورحل. وكانت قد حصلت على موافقة على الهجرة إلى الولايات المتحدة، وتعرفت هناك إلى جان فيلان المحاضر الجامعي وتسكعت معه، وقد وعدها بقطع علاقته مع صديقته الرسمية أنجيلينا، وعرفت بيلا النحيف اللطيف العنيف، وتعرفت إلى ندى الممرضة في المستشفى عند إصابتها بنزلة صدرية كادت تقضي عليها.‏
ندى شافيز حملت إليها نسخة من كتاب فرانز فانون "معذبو الأرض"، وفيه عقد مع مؤسسة كنال للموسيقى، ودعوة للمشاركة في مهرجان موسيقى الجاز بشيكاغو، وهكذا أنقذت الصداقة والموسيقى ليلى من العوز والضياع. وبعد هذه الرحلة الطويلة. عادت ليلى إلى الصحراء الغربية لتسأل عن طفلة اختطفت قبل سنين وبيعت. لكنها وجدت القبائل تتقاتل في "فم زكيد"، ولمست يد امرأة عجوز، ولاحظت أنها لم تعد قادرة أن ترحل أبعد، أو أنها ليست بحاجة لذلك، ص223.‏
تمضي بطلة الرواية بنا في سبعة عشر فصلاً مرقماً، لتروي سيرة فتاة سمراء جميلة مثل حورية بحر، بحكايات متناسلة مثل تشعب دروب الحياة، تعلمت بفطرتها وبمساعدة المهمشين مثلها أن تشق طريقها كسمكة ذهبية في محيط يعج بالحيتان، وأدركت أهمية أن يكون الإنسان مستقلاً ومنتجاً ومحاطاً بأصدقاء جيدين، وصبوراً ومثابراً، وتعلمت أن تخترق جدار العزلة والعاهة والتهميش، وانجذبت مثل كثيرين من مواطني الدول الفقيرة في إفريقيا وآسيا إلى المركز الرأسمالي بحثاً عن موطئ قدم في عالم لا يعرف الرحمة.‏
سرد رشيق تتعانق فيه الجمل وتتشابك الأحداث وتتعقد، لكنها تعود إلى الانفراج من جديد، وشخصيات مرسومة بعناية وواقعية ودقة وكأن الكاتب راصد اجتماعي لأحوال القاع الاجتماعي في كل مكان يحل فيه، فما أن تنتقل سمكة الرواية ليلى من موطنها الإفريقي حتى نجدها في الضواحي الفقيرة بباريس، وفي الأحياء الهامشية، التي لا يهدأ ضجيجها، ولا تتوقف المشاجرات أو المداهمات فيها إلى درجة جعلتها تحس أنه لا وجود لمكان هادئ في هذا العالم، ص180.‏
أراد لو كليزيو أن يكشف الوجه القبيح للرأسمالية، في سرقتها لكنوز المستعمرات، واسترقاقها لشعوبها، وفي تهميشها للمهاجرين بحثاً عن عمل ومكان آمن وبعيداً عن الحروب القبلية والتدخلات الخارجية والقمع المنهجي، ووصف أماكن يعرفها جيداً. وساعدته زوجته ذات الأصل المغربي في التعرف على حياة أهل الصحراء المغربية، ولو كليزيو يصدم قارئه بوقائع موثّقة، ويقوده إلى أماكن معروفة، وقد ألهمته تجربة معايشة السكان الأصليين من شعب المايا في المكسيك أن يفهم الحياة بعمق، وأن ينصت إلى أصوات لا ينصت إليها أحد، وقد استهين أصحابها لوقت طويل، ولكن لديهم حضارة مميزة وكثير من الأشياء نحتاج إلى تعلمها.‏
ويكشف لو كليزيو ببراعة تشوهات الشخصية الإنسانية، وتشوهات النظام الرأسمالي الذي يقهر الضعفاء والمفقرين والمهجرين، ويحشدهم في أحياء بائسة، متجاهلاً حقوقهم في الإقامة والعمل والتعلم والتعبير، ولكنه متفائل بقدرة البشر الخيرين على بناء عالم أكثر إنسانية وعدلاً، وهو يترك نافذة أمل مشرعة في أحلك اللحظات، وينادي محذراً بطلة روايته بالقول: "أيتها السمكة الذهبية الصغيرة، احترسي، هناك الكثير من المصايد في هذا العالم"، وهو يجتذب خيط الفن الروائي مثلما تجتذب بطلته خيط الحياة الصحيح فتنجو من عشرات الصدمات التي صادفتها، ومن مصائد كثيرة أعدّت للمهمشين.‏

التعليقات