22/11/2010 - 02:11

رحيلُ "شيخ المؤرّخين العرب"، عبد العزيز الدّوري

يعد الدوري من أبرز المؤرخين على مستوى العالم في التّاريخ العربيّ والاسلاميّ، وهو معروفٌ بلقب "شيخ المؤرخين العرب"، للجهود الكبيرة التي قدمها في مجال الدّراسات التّاريخيّة والمؤلفات المهمة التي رفد بها المكتبة العربية، ولمنهجه العلمي الذي أثار إعجاب العديد من أكاديميّات العالم، وقد قال عنه المؤرّخ البريطانيّ المتخصّص بتاريخ الشّرق الأوسط، برنارد لويس: "إنّه (أي الدّوري)، أصبح حجّةً في موضوعه، بل هو نفسه قد غدا وثيقةً تاريخيّة."

رحيلُ

أعلن في العاصمة الأردنيّة عمّان الجمعة، عن رحيل المؤرّخ العراقيّ القوميّ الشهير، العلاّمة عبد العزيز الدوري، عن عمر 92 عاما، أمضى أكثر من نصفها في الأردن بعد خروجه من العراق في أواخر الستينات لظروف سياسية، وقد شيّع جثمانه السّبت إلى مقبرة سحاب، شرقيّ عمّان.

برنارد لويس: الدّوري حجّة في موضوعه، وهو وثيقةٌ تاريخيّة بحدّ ذاته

يعد الدوري من أبرز المؤرخين على مستوى العالم في التّاريخ العربيّ والاسلاميّ، وهو معروفٌ  بلقب "شيخ المؤرخين العرب"، للجهود الكبيرة التي قدمها في مجال الدّراسات التّاريخيّة والمؤلفات المهمة التي رفد بها المكتبة العربية، ولمنهجه العلمي الذي أثار إعجاب العديد من أكاديميّات العالم، وقد قال عنه المؤرّخ البريطانيّ المتخصّص بتاريخ الشّرق الأوسط، برنارد لويس: "إنّه (أي الدّوري)، أصبح حجّةً في موضوعه، بل هو نفسه قد غدا وثيقةً تاريخيّة."

ولد البروفيسور الدوري في قضاء "الدور" التابع لمحافظة صلاح الدين عام 1919، وأخذ لقبه نسبة له، وقد كانت قرية صغيرة وفيها تعلم في الكتاب، حيث حفظ القرآن الكريم، ثم انتقل إلى بغداد، ودرس فيها وأكمل دراسته الثانوية، ثم حصل على بعثة علمية في المملكة المتحدة، فسافر إلى لندن ونال شهادة البكالوريوس من جامعتها 1940م، واستمر في دراسته هناك وحصل على شهادة الدكتوراة عام 1942، وكانت أطروحة الدكتوراة بعنوان: "تاريخ العراق الاقتصادي للقرن الرابع الهجري".

ترأٍّس جامعة بغداد، ودرّس في لندن، ثمّ استقرّ في الأردن مدرّسًا بالجامعة الأردنيّة

ولما عاد إلى بغداد، عين مدرسا للتاريخ الاسلاميّ في دار المعلمين العالية، (كلية التربية حاليا) في بغداد، وبقي فيها حتى تمت ترقيته إلى مرتبة أستاذ، وأصبح رئيسا لقسم التاريخ في جامعة بغداد، فعميدا لكلية الآداب والعلوم من 1949 إلى 1958، ورئيسا لجامعة بغداد 1962 ـ 1966.

 كما عمل أستاذا زائرا في جامعة لندن بين عامي 1955 ـ 1956، وأستاذا زائرا في الجامعة الأمريكية في بيروت 1959 ـ 1960، واستقر أستاذا للتاريخ الاسلاميّ في الجامعة الأردنية في عمان لظروف سياسية، إذ قال في حوار مع قناة الجزيرة عام 2007: "ظروف عامة دفعتني إلى ترك العراق والمجيء إلى الأردن، هي في الحقيقة ظروف سياسيّة لا أكثر ولا أقل."

اهتمّ بالتّحليل الاقتصاديّ للتّاريخ، وحاكم الوثيقة التّاريخيّة محاكمةً منطقيّة

اهتمّ الدّوري بالتاريخ الاقتصاديّ منذ بواكير حياته العمليّة، ويرى المختصون أن منهج الدوري في تدوين التاريخ يعتمد على الرجوع إلى المصادر الأصلية ومحاكمتها محاكمة منطقية، واستخلاص الحقائق التاريخية منها، لذلك اتسمت كتاباته بالدقة والعمق، ويؤكدون أن الدوري يعرّف التاريخ ويرى أنه "موضوع حي يقوم بدور بليغ في الثقافة، وفي التكوين الاجتماعي والخلقي، وله أثره في فهم الأوضاع القائمة وفي تقدير بعض الاتجاهات والتطورات المقبلة، وهو يتأثر بالتيارات الفكرية وبالتطورات العامة"، كما يشيرون إلى أنه ينتقد الكثير من الروايات التاريخية وبعض الكتابات الحديثة عن تاريخ الإسلام في صدر الدعوة، ويناقش تلك الأخطاء التي ارتكبت بحق العرب وجردتهم من كل الامكانات والطاقات الإدارية والفكرية والثقافية، وجعلتهم مجرد مقلدين غير مبدعين، كما أنه يرى أن "الثقافة اليونانية كانت طارئة، ولم يكن لها تأثير مباشر، ولم يظهر تأثيرها المباشر في الفلسفة والطب والعلوم إلا في العصر العباسي، وكان ذلك نتيجة حاجات عملية، وإن الشعوب الأخرى لم تبدأ بالمساهمة إلا بعد أن دخلت في مجرى هذه الثقافة، وإن تأثيرات الثقافات الأخرى لم تحصل إلا لحاجة العرب إليها بعد ذلك."

ويقول عن علم التّاريخ أيضًا: "إنّ كتابة التّاريخ لا يمكن أن تكون خارج سياق تيّارات الحاضر وهمومه، وهذا يصدُقُ على التاريخ الاسلاميّ وكتابة التاريخ الحديث، فتلميذ التاريخ ابن بيئته في الأساس، ينطلقُ من الماضي إلى الحاضر وبالعكس، ويختارُ موضوعاته ويفسّرُ مشاكله بمفاهيم عصره."

الدّوري: الحقائق دون مؤرّخ مجرّدة من الحياة والمعنى

ويؤكد كذلك بأنّ ثمّة صلة بين المؤرّخ وحقائق التاريخ، فالمؤرخ دون حقائق لا جذور له، والحقائق دون مؤرّخ مجرّدة من الحياة والمعنى.

ويقول الدّكتور الدّوري إنّ المؤرّخين العرب القدامى قدّموا تفسيرات عديدة للتّاريخ العربيّ وللتاريخ البشريّ كلّه، فهناك من رأى بأنّ التّاريخ تعبيرٌ عن "المشيئة الإلهيّة" المتمثّلة بتوالي الرّسالات، وهناك من قال إنّ التّاريخ تعبيرٌ عن دور "النّخبة".

وفسّر آخرون التّاريخ تفسيرًا أخلاقيًّا، وأخيرا جاء عبد الرّحمن بن خلدون في القرن الرّابع عشر الميلادي ليفسّر التاريخ تفسيرًا حضاريًّا اجتماعيًّا.

ويضيف الدّوري إلى ذك قوله إنّ "التّفسير الاقتصاديّ" لا يعني بالضّرورة "التّفسير الماديّ".

ومع أنّه كان يدرك بأنّ البعض من المؤرّخين ذهبوا في كتاباتهم إلى التّركيز على "الوعي القوميّ" و”النّزعة القوميّة"، وحتى هو نفسه اتّهم بذلك، إلا أنّه في نهاية الأمر لايحبّذ الالتزام بـ "فلسفة تاريخيّة معيّنة وتطبيقها على التّاريخ"، فالفلسفات التاريخيّة، برأيه، رهينةٌ بظروف نشأتها، وقد يؤدّي تطبيقها إلى قسر التّاريخ ليماشيها وإلى إخراجه عن نطاقه، فنحن، يقول الدّوري "حين ندرس تاريخنا، نريد فهمه، وبالتّالي تكوين فكرة واضحة عن جذور حاضرنا، وفهم امكانياتنا وتقدير دورنا في سير البشرية".

عشرات الكُتب والأبحاث ومئات المقالات العلميّة

استطاع الدّوري في مرحلة مبكرة جدًّا، وتحديدًا في عام 1945، أن يؤلّف كتابًا عنوانه "مقدّمة في تاريخ صدر الإسلام"، وهي رؤية جديدة للتّاريخ الاسلاميّ، جمع فيها رؤيته للعوامل المختلفة التي أسهمت في تطور التاريخ الاسلاميّ، والذي يحددها بعوامل عقدية إيمانيّة، وعوامل قبليّة عصبيّة، وعوامل اقتصادية.

كما أن له إسهامات فاعلة في كتابة التاريخ الموسوعي العالمي، ومن ذلك أنه كتب مواد عديدة في موسوعات عالمية منها مثلا: "دائرة المعارف الاسلاميّة"، منها مواد "بغداد"، "الأنبار"، "أمير"، "ديوان"، "عامل"، وغيرها، ومما حققه كتاب أخبار الدولة العباسية "أخبار العباس وولده" لمؤلف مجهول من القرن الثالث الهجري، والقسم الثالث من كتاب أنساب الأشراف "العباس وولده" لـ البلاذري.

وللدكتور الدوري مؤلفات عديدة طبع الكثير منها طبعات كثيرة، ومن ضمنها :

1. العصر العباسي الأول ( بغداد 1943).

2. دراسات في العصور العباسية المتأخرة ( بغداد ، 1945).

3. مقدمة في تاريخ صدر الإسلام (بغداد ، 1950).

4. تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري (بغداد ، 1948).

5. النظم الإسلامية (بغداد ، 1950).

6. دراسات في علم التاريخ عند العرب ، (بيروت ، 1960).

7. الجذور التاريخية للقومية العربية ، (بيروت ، 1960).

8. تفسير التاريخ مع آخرين ، (بغداد ، لا .ت).

9. التكوين التاريخي للأمة العربية : دراسة في الهوية والوعي (بيروت ، 1984).

10. الجذور التاريخية للشعوبية ، ط1 ، ( بيروت ، 1962) وط2 (بيروت ، 1980).

11. ناصر الدين الأسد بين التراث والمعاصرة ، ( بيروت ، 2002).

13. نشأة علم التاريخ عند العرب ( طبعة جديدة ، 2005).

كما نشر له أكثر من ثلاثين بحثا في مجلات علمية متخصصة، أو ضمن كتب ذات موضوعات مختارة، وذلك باللغتين العربية والانجليزية، كما كلف من منظمة التربية والعلوم والثقافة "اليونيسكو"، بتحرير مشروع كتاب عام يتناول "تاريخ الأمة العربية".

من أهمّ الباحثين في دراسة نشأة وتطوّر الأمّة العربيّة

كان الدوري، وفي كلّ كتاباته، يؤكّدُ بأنّ تاريخ الأمّة العربيّة كلٌّ متّصلٌ مُترابط، يكوّنُ سلسلة حلقات يؤدّي بعضها إلى بعض، أمّا حاضر الأمّة، فهو نتاج سيرها التاريخيّ، وبداية طريقها إلى المستقبل، ولذا فلا انقطاع في التّاريخ، ولا ظاهرة تبدو فيه دون جذور وتمهيد، كما أنَّ الاتّصال في تاريخ الأمّةِ لا يعني أنّ التّاريخَ حركة رتيبة، أو أنّ الأمّة سارت بالخطوات نفسها خلال تاريخها، بل أن فيها فترات تزخر بالحيويّة والتوثّب، وأخرى تّتصف بالحركة التدريجيّة والتّطوّر الهادئ، ولكلّ أمّة فتراتها الثوريّة، هي في الواقع انطلاق صاخب لقوى تجمعت خلال فترات من الكبت أو من التطوّر السّريع الواسع، أو هي تعبيرٌ عن غليان داخليّ انفجر في ثورة صاخبة، وقد تكون لهذه الفترات آثارها البعيدة في الفترات التي تعقبها، أو في فترات تالية. ومن هنا تتباين فترات تاريخ الأمّة في مسيرتها عبر العصور، فقد يكون أثر فترة بعيدة، أقوى في حاضر الأمّة من فترةٍ قريبةٍ من هذا الحاضر.

وحول التطور التاريخي للأمة العربية، يرى الدّوري أنّ ثمّة عناصر أو عوامل أسهمت في هذا التطور منها :

1. الحركة الاسلاميّة.

2. خروج العرب بالفتوح وانتشارهم.

3. تكوين الثقافة العربيّة.

4. التحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة وأثرها في التكوين.

5. مشكلة السلطة والصّراع السياسيّ والفكريّ.

6. ظهور مفهوم الأمّة العربيّة في الإطار الثقافيّ نتيجةً لتشابك العناصر المذكورة، ويؤكّد الدكتور الدوري بأنّ "العروبة والإسلام، كانا مصدر الحركة والحيويّة في تاريخ المجتمعات العربيّة الاسلاميّة" جميعها.

ذو جهود متميّزة في دراسة الفكر القوميّ وجذوره التّاريخيّة

أقام منتدى عبد الحميد شومان في عمان بالأردن، ندوةً موسّعةً تكريما للأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري سنة 1999، وذلك وفق المؤسّسة لأنّه: "يعدّ بحقّ من أبرز الذين وضعوا الأسس الحديثة لإعادة قراءة التاريخ العربي بمنظور جديد"، وقد قام الدكتور إحسان عباس بجمع وتحرير البحوث التي ألقيت في تلك الندوة، ثم قامت المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر عام 2000 بنشرها تحت عنوان: "عبد العزيز الدوري- إنسانًا ومؤرّخًا ومفكّرًا".

كما منحت "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" عام 2000، جائزتها التقديرية للثقافة العربية للدّوري، وذلك نظرا "لجهوده في دراسة الفكر القومي وجذوره التاريخية، ولتأكيده على إبراز علاقات الشعوب العربية بالأمم والشعوب والثقافات الاسلاميّة، ولاهتمامه بدراسة النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الحضارة العربيّة والاسلاميّة".

التعليقات