19/04/2011 - 12:46

رحيل جورج توكر أكثر رسامي الولايات المتحدة غموضا في القرن العشرين شعرية تثير الفزع

تلك الصور التي لازمت الرسام الأميركي جورج توكر (1920 ـ 2011) والتي لعُمّال أوقعت بهم الإكليريكية ودوائر الحظر الحكومية الأميركية، كانت معبّرة، على نحو مميّز، عن القلق والاغتراب الحديثين في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية.

رحيل جورج توكر أكثر رسامي الولايات المتحدة غموضا في القرن العشرين     شعرية تثير الفزع

تلك الصور التي لازمت الرسام الأميركي جورج توكر (1920 ـ 2011) والتي لعُمّال أوقعت بهم الإكليريكية ودوائر الحظر الحكومية الأميركية، كانت معبّرة، على نحو مميّز، عن القلق والاغتراب الحديثين في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية.

ظلّت الصور، ورحل الرجل مؤخرا، صبيحة الأحد الأخير من مايو الماضي، بسبب مرض عُضال في منزله في فيرمونت في الولايات المتحدة بعد حياة حافلة، بدورها، بالقلق والاغتراب في المجتمع الأميركي، هو الذي بدأ وعيه الحقيقي بجوهر الفن وعلاقته بالناس وتاريخ الفن تنضج معا في سنوات ما بعد تلك الحرب، ليصاب بما يمكن وصفه بالتصدع الفكري أو ذلك الإحساس بالخواء في كل ما حوله فوجد، وهو الشخص المؤمن بشكل أو بآخر، في تناقضات المجتمع الأميركي وصور الحياة اليومية فيه مجالا واسعا للتعبير عن أفكاره خاصة في المرحلة الاولى من حياته الفنية نهاية الأربعينات ومطالع الخمسينات. وكان قد تخرج للتوّ من أحد المعاهد الفنية في نيويورك متتلمذا على أيدي فنانين كبار من طراز إدوارد هوبر ورغينالد مارش، وكذلك التقائه بكبار الفنانين من العالم في مدينته التي هاجر إليها أبرز فناني أوروبا آنذاك في إثر الحرب، ثم ملازمته شبه الدائمة لأشهر الغاليريهات في الولايات المتحدة لعدد من السنين.

لمع الفنان الشاب جورج توكر بقوة في الخمسينات حتى نهاية الستينات من القرن الماضي ثم ليُعاد اكتشافه بعد عزلة مديدة، فيعود إلى واجهة الفن في الولايات المتحدة مرة أخرى هو الذي كان معدل إنتاجه في العام لا يزيد عن لوحتين إلى ثلاث لوحات، ثم ليَجري تقليده في البيت الأبيض في العام 2008 الميدالية القومية للفنون من قبل الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، في إثر العديد من المعارض الفنية التي عرضت لكامل تجربته في أبرز غاليريهات أميركا وأوروبا وكذلك الكتب التي صدرت عن فنه بالإجمال خلال التسعينات ومطالع الألفية. فأورد تقرير اللجنة التي قررت منحه الميدالية أنه نالها بسبب “لوحاته التي تجمع بين الواقعية والرمزية والمشاعر المتحوِّلة في الحياة الأميركية في أعمال أيقونية. إن أعماله الميتافيزيقية تكشف عن رحلة رجل من اليأس إلى البهجة”.

اختص جورج توكر بأوضاع وأمكنة غريبة ومحيِّرة مصحوبة بضوء أسطوري فعّال على السطح التصويري. غالبا ما تنقل لوحاته المضيئة والشعرية إحساسا بالفزع، لكن بوسعها أنْ تعبّر بسهولة عن عاشقِ انجذابٍ صوفيٍ روحاني أو انجذاب يُبهج إلى حدّ النشوة.

ومهما يكن من أمر العاطفة، فإن الصور عموما بأشكالها النحتية المُصاغة ووجوهها التي تشبه الأقنعة تبدو كأنها تقع خارج الزمن، حتى عندما تتعيّن في أوضاع معاصرة.

وبالطبع، فقد تأثر جورج توكر بالعديد من الفنانين وبآرائهم خارج النطاق الأكاديمي، حيث التقى ببول كادموس الذي حفزه على اقتباس المزيد من المقاربة الرمزية والأسطورية في موضوعاته.

في هذا السياق، يعبّر توكر عن وجهة نظره في الرمزية التي تأثرت بفنانين رمزيين من عصر النهضة أيضا، فيرى أن “الرمزية محدودة وخطرة، لكني لا آبهُ للفن من دونها. إن النوع الذي يغويني هو في الأغلب الرمزية الشبيهة بشعار مُعلن، لكن ليس ذلك وحده: بل أيضا الرمزية التي زاولها كلٌ من باولو يوتشيللو وبييرو ديللا فرانشيسكا”.

لكن تبقى لوحته “النفق” أكثر أعماله شهرة حتى بعد رحيله. تُظهر اللوحة محطة مترو أنفاق من الداخل، بأسقفها الواطئة وأدراجها المتعددة وأبوابها الدوّارة، كلّها تظهر بطريقة مستبدة إنها تمرين معقَّد في الرسم المنظوري. وما تمثله “النفق” بوضوح هو استلاب بيئة هائلة يتربّى فيها الغرباء كلَّهم. أفراد مجهولون ينظر الواحد منهم إلى ما هو أبعد من الآخر، وبعض الرجال يحدّقون بالمتفرج على نحو مخيف، ومركز الصورة امرأةٌ بملابس حمراء مع تعبير بالأسى، وتضع يدها على جسدها كي تحميه كما لو أنها تشعر بخطر. والصورة كلها بضربات فرشاة لطيفة وتمسيدية بالغة الصِغَر؛ فما من شَعرٍ ابتعد عن مكانه في عمل توكر هذا. إن إتقان التكنيك الذي ينبغي عليه أن يصف النقص الهائل داخل المجتمع هو التكنيك الذي يترك الأثر، مضاعفا ومؤذيا، على المشاعر والأعصاب.

والحال، أن جورج توكر، الذي نشأ واحدا من رعايا الكنيسة الأسقفية قد غيَّر إيمانه المسيحي العام 1976 إلى الكنيسة الكاثوليكية التي وجد فيها ملاذا، قد أثرت فيه منذ أربعينات القرن الماضي الطريقة التي تجري بها معاملة السود. فتبنى طروحات مارتن لوثر كينغ في الستينات، وكذلك مطالب حركة الحقوق الأهلية السوداء بل بلغ به الأمر إلى تبني عائلة سوداء فقدت الأب والأم. مع ذلك، ورغم أنه كان متزوجا، فقد كان مُثليّ الجنس وعاش مع شريكه في فيرمونت في الشقة ذاتها التي مات فيها. غير أن هذا الشريك قد مات في اسبانيا مطالع السبعينات كما أصدقاء آخرون في الفترة نفسها، الأمر الذي جعله يشعر بالألم والكآبة. فانتقل للعيش مع أخته في شقتها. وهناك عاود الرسم كما أعاد النظر في العديد من قناعاته الفنية والشخصية، فبدت أعماله الأخيرة أقلّ تطرفا وأكثر ميلا إلى نوع من التوازن الديني.

غير أن تلك الفترة، منذ نهاية الأربيعينات وحتى نهاية الستينات، هي الفترة التي لا يمكن وصفها بأنها الأكثر ثورية بل هي الأكثر نضجا في تجربة جورج توكر. إذ فضلا عن غزارة الإنتاج، وتحديدا في الخمسينات، كانت لوحاته أكثر تعبيرية عن التحولات الهائلة داخل المجتمع الأميركي من بين أبناء جيله، وهنا بالذات تكمن أهميته الفنية التي جعلته يتبوأ مركزا ذا شأن بين فناني القرن العشرين الأميركيين رغم غموض فنه وذكائه الملحوظ في جَعْل شخصيات لوحاته عبارة عن تدفق تعبيري هائل مثير للمشاعر والاهتمام.



 
 

 

التعليقات