10/12/2015 - 12:02

مقاهي تونس القديمة وحنين الشباب إلى ذكريات الزمن الجميل

على موسيقى المالوف، وأنغام الطبوع التونسية، التقى الشاب الشاذلي الخذيري ورفاقه، تحت قوس أحد أعرق مقاهي المدينة العتيقة في تونس العاصمة، وأقدمها، جمعهم الشغف بالمقامات التونسية فاتّخذوا من مقهى سوق الشّواشيّة مقرا للقاءاتهم اليوميّة.

مقاهي تونس القديمة وحنين الشباب إلى ذكريات الزمن الجميل

على موسيقى المالوف، وأنغام الطبوع التونسية، التقى الشاب الشاذلي الخذيري ورفاقه، تحت قوس أحد أعرق مقاهي المدينة العتيقة في تونس العاصمة، وأقدمها، جمعهم الشغف بالمقامات التونسية فاتّخذوا من مقهى سوق الشّواشيّة مقرا للقاءاتهم اليوميّة.

ويقول الشاذلي، وهو طالب لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، إن "المدينة العتيقة فرضت نفسها بكل مكوّناتها، بمقاهيها وأسواقها ومعمارها ورائحتها الذكيّة الطّيبة، لذلك تجد الشّباب اليوم راغبًا فيها، وفي العودة إليها، والتّعرف أكثر إلى جذوره وأصوله، والتّشبث بها على الرّغم من صغر سنهم". 

وحوْل فناجين الشاي الأخضر، التي فاحت منها رائحة النعناع، وعلى مقربة من آخر "وَجقْ" (وهو عبارَة عن موقد صغير جدًّا، كانت في القديم تغلى عليها القهوة، وتقدّم للعاملين في السوق وللمارة من المتبضعين)، لاح صوت هالة طالبة الفنون الجميلة، العضو في كورال فرقة الشّباب التّونسي للمالوف، مردّدة أغنية قديمة للفنان التّونسي الشيخ العفريت.

تقول هالة "أميل لهذا المعمار التقليدي القديم الذّي يميز مقاهي المدينة العتيقة... فهنا تعود بنا الذّكريات إلى الزمن الجميل، الذّي لم نعشه، ولكن الحنين إليه يسري في عروقنا... هنا كل شيء تقليدي، الجلسة والموسيقى التّي نسمعها والمشروبات كذلك، وهو ما يجعل المكان أكثر راحة وهدوءًا بعيدًا عن صخب المدن والحياة العصريّة".

ويحدّثنا صاحب المقهى معز بو كرع فيقول: "مقهى سوق الشّواشيّة، هو الوحيد الذّي أبقى على آخر وجقْ في المدينة العتيقة محافظة منه على تراث الأجداد، وأن المقهى لم يكن بالشكل الذّي عليه اليوم، ولكن التطور الذّي عرفته المدينة جعل منه يواكب متطلبات العصر، ورغبات الحرفيين وبالتّالي تتوسّع على بهو كبير مطل على محلّات الشّواشيّة وعلى محلات الصّائغيّة كذلك".

من جانبه، يضيف المختص في التراث والتقاليد التونسية، عبد السّتار عمامو، أنّ "هذا المقهى ارتبط بسوق الشّواشية، ففي قديم الأزمان لم تكن هناك مقاهٍ بالمعنى والشاكلة التي عليها مقاهي هذه الأيام، بل كانت القهوة والشاي تقدّم لأصحاب الصنائع على غرار الشواشيّة والذهب والصوف وغيرها".

ويشتمل الشواشية على ثلاثة أسواق هي "السوق الحفصي"، "السوق الصغير" و"السوق الكبير"، وتم بناء هاتين الأخيرتين من قبل حمودة باشا الحسيني، بين عامي 1197 هـ/ 1782 م و 1230 هـ/ 1814 م.

والشواشية هي نسبة للشاشية (قبعة تقليديّة) أتى بها إلى البلاد التونسية المهاجرون القادمون من الأندلس.

وليس ببعيد عن مقهى سوق الشّواشّية، وتحديدًا في سوق "التُّرُك"، شيد مقهى "المْرابط"، على بعد أمتار قليلة من جامع الزّيتونة المعمور، ولعَلّ ما يميّز هذا المقهى جلسته الخاصّة، ففيه يجتمع الرواد على حصائر حيكت من نبتة السمار، وحول مائدة خشبيّة صغيرة نقشت بزخارف تقليدية علَتْها فناجين القهوة العربية والشاي.

وبحسب عمامو، فإنّ "مقهى المرابط اشتهر بأنه كان نقطة يجتمع فيها جنود الجيش الانكشاري العثماني ممن كانت لديهم قشلات (ثكنات عسكرية)، على مقربة من هذا المكان أي في القصبة وما جاورها، لتبادل الحديث والابتعاد عن ضغط العمل، فالمقهى كان ذو قيمة كبيرة لدى الأتراك".

وأضاف: "أُطلق عليه تسمية المرابط لأنه كان تحتوي على مجموعة قبور يقال إنها لبعض المرابطين الذّين دفنوا فيه، والذّين كانوا في السّابق يرابطون لحماية البلاد، فبقي النّاس يتبركون بهم بعد أن كان إسمها مقبرة السلسلة وبسبب التوسع العمراني تم إزالة هذه المقبرة".

ويتابع: "هذا المقهى موجود من أواخر القرن السادس عشر، وبداية السابع عشر، ولكنّه مع بداية القرن العشرين كان بمثابة المركز الثقافي، الذّي جمع مختلف عازفي ومغنيي المالوف التونسي، قبل تأسيس المدرسة الرّاشدية، وعلى رأسهم الفنان ذو الأصول الأندلسيّة، خميس ترنان، الذّي كان يقوم بفصل موسيقي كل مساء، في هذا المقهى، وقد لعب بالتّالي دورًا ثقافيًا في تلك الحقبة، سيما في المحافظة على التراث الغنائي الأندلسي".

ويستطيع زائر المدينة العتيقة في تونس، أيضًا، بعد جولة من التبضع، أن يريح نفسه قليلاً، ويستظل بأغصان العنب المترامية على امتداد أحد أزقة المدينة العتيقة، وهو سوق الرّبَعْ، وبإمكانه أن يحتسي شيئًا من عصير العنب، الذّي لن يجده في أي مقهى في كامل تونس، على حدّ قول صاحب "مقهى العنبة".

ويقع مقهى العنبة خلف جامع الزّيتونة وعلى مقربة من سوق البركة (حيث يباع الذّهب)،  هناك حيث وجدناه يغص بالحرفيين ولكن الملفت للانتباه أن أغلبهم كانوا من الشّباب.

الطّالب حسام بشير ذو الـ 20 سنة، وهو أحد هؤلاء، يقول: "تجمعني بهذا المقهى عشرة وذكريات عديدة، فأنا وفيّ له، أرتاده منذ 7 سنوات، حينها كنت أدرس في المعهد الصادقي، بالنسبة لي "العنبة" لها طابعها الخاص ولما تقدمه من مشروبات مذاق خاص يميزها عن غيرها".

ويضيف بشير بالقول "نحن الشباب نريد أن نخرج من الروتين اليومي الممل، ونرغب في العودة إلى أصولنا الحضاريّة والثقافية .. هنا نشعر فعلًا بتاريخ بلادنا".

الطالبة آمنة تزور المقهى للمرّة الأولى، وهي التّي تعوّدت على ارتياد المقاهي العصريّة، عّبرت عن انبهارها بهذا المقهى وبرائحة المدينة العتيقة وجمالها.

وقالت: "المقاهي العادّية أصبحت مملة وروتينية، فعلى الرّغم من أنها مجهزّة بكافة الوسائل التكنولوجية الحديثة على غرار الانترنت، وعلى الرّغم من توفر كل شيء فيها، ولكن ذلك يخلق قطيعة بين الجالسين فيها، فكل شخص حينها ينغلق على عالمه الافتراضي الخاص، ويفقد التواصل مع رفاقه في حين أن هذه المقاهي القديمة تبعده عن كل ماهو افتراضي وتجعلك في تواصل مستمر مع الآخر".

ويحدّثنا محمّد المزوغي، صاحب "مقهى العنبة"، قائلا: "هو من أقدم المقاهي في تونس، ويعود إلى 1890، وهو كذلك برائحة المدينة العربية، وأردنا من خلاله أن نحافظ على روح المدينة، بنفس الطّابع وبنفس البناء والمعمار، دون تغير، وأي بناء دخيل على هذه الصبغة، يزعجنا نحن أصحاب السّوق.. وهو ما يجعل لهذا المقهى سحرًا يجذب الحرفي إليه ويحاكي تاريخه".

ويعتبر عمامو أنّ "مقهى العنبة يعدّ اكتشافًا شبابيًّا طريفًا، فباعتبارها واقعة في قلب المدينة فإنها لم تكن معروفة لغير أصحاب الحرف في السوق، ولكن قبل سنوات قليلة اكتشفها بعض الشباب وأصبح يقبل عليها لتنتقل العدوى فيما بعدُ لغيرهم من أصحاب جيلهم، وبالتّالي فقد أسدى هؤلاء الشباب خدمة كبيرة للثقافة في تونس بإحيائهم هذه المعالم القديمة".

ووفق عمامو "فإن أحد الأسباب التّي جعلت الشّباب يقبل اليوم على معالم المدينة العتيقة ومنها المقاهي، مهرجان المدينة، الذّي كانت غايته منذ تأسيسه في الثمانينات إعادة الشباب لمدينة تونس، وحينها بدأ الشّباب باكتشاف هذه المقاهي، وخلقت لديهم عادة ارتيادها والالتقاء فيها، فهم يأتونها من كل مكان من أحياء المدينة ومن خارجها".

ويؤكد عبد السّتار عمامو أيضا أنّ "القهوة كانت مقدّسة لدى التونسيين يتبرّكون بها. جلبها إلى تونس الولي الصّالح سيدي أبو الحسن الشّاذلي بعد أن اكتشفها في اليمن، فشربها وأتباعه واكتشفوا أن فيها منشطًا يجعل الفرد يسهر، وقد كانوا في تلك الفترة بحاجة إليها لأنهم يقضون الليل في التزهد والأذكار".

"مقهى الشواشيّة" و"مقهى المرابط" و"مقهى العنبة" ليست سوى عيّنة بسيطة من عشرات المقاهي القديمة في تونس فلكل مقهًى قصته وتاريخه وذكرياته وميزاته.

التعليقات