05/06/2015 - 12:32

عملاء ومذابح وحداد ستّي آمنة/ سماح بصول

"عملاء الجنوب" يعيشون بيننا، كثيرون منّا يتعاملون معهم، يعملون معهم، يتزوجون من أبنائهم وبناتهم. على كتف كل منهم شارتين، الأولى رتبته العسكرية والثانية وصمة عار!

عملاء ومذابح وحداد ستّي آمنة/ سماح بصول

المقاومان كفاح عفيفي ومحمد رمضان (مشهد من فيلم "عملاء الجنوب")

في أيلول من العام 1982 كنت أبلغ من العمر أربع سنوات. أذكر بعض تفاصيل من سنة سبقت تلك الفترة كأنها تمر أمامي الآن.

بفستان أزرق اللون يتوسطه زنّار أحمر أمسك بيد والدي من جهة وبيد ابن عمّي الذي يصغرني قليلا باليد الأخرى. نجلس على سور مرتفع برفقة جدتي آمنة، 'خليكوا مع ستّك إسا منرجع” قال أبي.

خلفنا بحر وعلى يسارنا طريق طويل.  كانت رأس الناقورة  و'الحدود' كلمات تتردد كثيرَا في ذلك اليوم. ودعنا الجدّة خضرة وكنتها وأحفادها، الذين غادروا عائدين إلى لبنان. جدتي آمنة كانت تبكي بحرقة وهي تودّع عائلة أخيها حسين.

كل ما أذكره من العام 1982 و1983 أننا لم نحتفل بالأعياد. كانت جدتي تعيش حالة حداد، تردد أغان الفراق، وننتفض جميعًا معها كلما تذكرت صورة زوجة أخيها خضرة تظهر على شاشة التلفزيون وهي تلطم وجهها عندما ذبحت الكتائب الفلسطينيين. رغم أن أحدًا من أقاربنا لم يستشهد في المذبحة، إلا أن حداد جدتي كان إحترامًا لأرواح من استشهدوا.

منذ ذلك الحين وحتى العام 1990 على أقل تقدير، كانت والدتي تقول لنا عند تقديم الطعام الذي لا نحب : 'كلّوا، واشكروا الله ، بالمخيمات أكلوا البساس من الجوع”...

في العام 1994 أصطدم للمرّة الأولى بالحقيقة، حقيقة صبرا وشاتيلا والتجويع والذبح عندما قرأت كتاب 'أمل والمخيمات الفلسطينية' في بيت محمود محمد المهجّر من سحماتا اللاجئ في السويد. قرأت تفاصيل لا يمكن للخيال أن يستوعبها وبدأت أشعر بنوع من الكراهية تجاه لبنان – حتى لو كان التعذيب محصورا بفعل فئة قليلة من شعب كامل.

في الأمس، شاهدت فيلم 'عملاء الجنوب' وعادت لذهني كل المشاهد المذكورة سابقًا. انتابتني حالة من العصبية والغضب عبّرت عنها برفع صوت التلفزيون لأسمع شهادات المتحدثين بقوّة أكبر، بعد أن قاطعتهم أمي معبّرة هي الأخرى عن غضبها بالقول 'شوفي المقاطيع شو عملوا بالفلسطينية، هياها إسرائيل رمتهن'، وقاطعهم أخي بالقول 'كيف بستحيش هذا يحكي؟'. 

لأول مرّة يضعني فيلم وثائقي أمام تفاصيل أعي جيدًا أنها كانت دائمًا تثير الفضول رغم قسوتها ولؤمها. يصعب عليّ وصف الكم الكبير من مشاعر التقدير لكفاح عفيفي، المقاتلة في صفوف المقاومة والتي جلست بكل عزّة وثقة أمام الكاميرا وتحدثت عن تفاصيل تعذيبها بصورة لم أشهد أجرأ منها في أي وثائقي آخر يتحدث عن تعذيب المعتقلين.

جملتها 'معلش بدي أحكي' قبل وصفها لتفاصيل تعذيبها الاكثر حدّة، تحدّت مُحاورها وزوجها المُقاتل – المعتقل محمد رمضان وفضول المُشاهد.  يقول خالي الجالس إلى جانبي 'مين هاي؟ ليلى خالد'، أجيبه 'لأ، كان ملان بطلات بس إحنا منعرفش غير ليلى وسناء!”، وأتابع في سرّي بقية الجملة 'ولو ما أجهلنا بتفاصيل تاريخنا'.

كفاح روت ما لم يروَ أبدًا من قبل عن الأذى الجسدي والنفسي للمعتقلات خلال الدورة الشهرية، وهو لا شك أمر يؤرقني جدًا كامرأة. روت قصة كفاح المرأة المقاومة، رفيقة المقاتلين. ولم تنف وجود لحظة سعادة في بحر من الذبح والتعذيب والدم.

كما هو حال معظم الأفلام الوثائقية القيّمة، فيلم 'عملاء الجنوب' الذي بثته قناة الجزيرة هو وثيقة تاريخية هامة. فيلم مستفّز، مؤلم ولكنه في الوقت ذاته يترك مجالا لدغدغة الشعور بفرح الانتصار على هؤلاء الذين عاثوا في المخيمات وذبحوا سكانها، وعذبوا المقاتلين، واستباحوا النساء؛ بعد أن قابلتهم إسرائيل بالإهانة رغم ما فعلوه من أجلها.

يعيش عملاء جيش لبنان الجنوبي في البلاد في حالة من الشرذمة، يحاولون إثبات الولاء لإسرائيل التي تتعامل معهم كعبء. يحاول أحدهم خلال الفيلم إنكار حالة الذل التي حظي بها لقاء خدمته، فيما يعترف آخر بها.

لا يمكن لأي تقرير صحافي أو لقاء إذاعي أن يجعلك تعيش الرواية، اللحظة التي ترافق الكلام لغة جسد وعيون ونبرة صوت تجرد المشاهد من كل ما يحيطه وتضعه في قلب المأساة الانسانية، شهادات المعذّبين تضعني وجهًا لوجه أمام رهبة الاعتداء الجسدي، ألاحظ في عيون من حولي تأثرهم وخوفهم المكبوت من كلمة 'اغتصاب' التي يصغر أمامها كل تعذيب آخر حتى القتل!

'الخيام' اسم تردد على مسمعي كثيرًا ودائما كنت أخشى البحث عن تفاصيل هذا المعتقل وما دار بين جدرانه، وكانت تكفيني بضع دقائق من الفيلم لأعي ماهية 'الخيام' ولا أريد أكثر من ذلك، فخيالي خصب بما يكفي لأتوقع بقية الحَكايا التي لم تروَ.

'عملاء الجنوب' يعيشون بيننا، كثيرون منّا يتعاملون معهم، يعملون معهم، يتزوجون من أبنائهم وبناتهم. على كتف كل منهم شارتين، الأولى رتبته العسكرية والثانية وصمة عار!

لا أزال أعيش حالة من 'وجع ما بعد المشاهدة'، لكني أجد ملاذًا في استذكار ملامح 'أبطال الرواية' وتفاصيل صمودهم..

'عملاء الجنوب' فيلم وثائقي لطلال الجعبري، فكرة، بحث وإنتاج موسى ذياب.

 

التعليقات