فائدة الأدب/ ميرون ماغنيت

-

 فائدة الأدب/ ميرون ماغنيت
ربما لم يغال ارسطو عندما قال ان التراجيديا فلسفية اكثر من التاريخ، اذ تركز على ما يمكن ان يكون لا على ما كان. ربما أراد ان يقول إن التراجيديا او الادب، بمعنى اشمل فلسفية اكثر حتى من الفلسفة ذاتها. فهي معرفة ارشادية في كل دروب معرفتنا، اكثر منها استدلالا منطقيا فقط. وهي، بخلاف الفلسفة، لا تتخذ نبضها الخاص بها، او تتفحص ادواتها، وتسائل نفسها بقلق كيف بوسعها ان تعرف هذا او ذاك. كما يقول ديكنز، <<إنها تنطلق مباشرة الى الأمر وتعرفه>>.
كان النقاد، منذ عقدين او ثلاثة، يسلمون بكفاية الاعتقاد السائد بأن الادب مصدر المعرفة ومعرفة مهمة. كانوا على الاقل، يفهمون انه مخزن المعرفة الوثائقية. يخبرنا كيف عاش الآخرون الاغريق، أناس القرون الوسطى، معاصرونا، وكيف يحكم بعضهم على بعض، كيف يقيمون العادات الجيدة، كيف يعشقون ويقعون في الحب، كيف كانت حياتهم الاسرية، كيف بنوا مجتمعهم، متى يتناولون عشاءهم، كيف ترعرعوا واحتلوا مكانتهم في عالم الراشدين.

تلك كان البداية فحسب. اذ يعلمنا الادب في علم النفس اكثر مما يعلمنا العالم النفساني. فالحياة الداخلية وعلاقتها بالمظهر الخارجي، الذي يختلف عنها غالبا (بطريقة يضرب بها المثل) هي موضوع الادب المفضل. وهو موضوع واضح التعقيد، بانضفاره مع الدوافع والحوافز، كما تربط الشهيات الى المثل، كما يقوم الوعي بتسجيل الواقع الخارجي وتشويهه، في آن معا، كما تتشابك الملقنات الطبيعية مع الطموحات الاجتماعية، كما يتخذ الكوني في طبيعتنا شكل وزي عصر خاص. هنا، بخلاف الفلسفة، يصبح ضعف الادب غير المنظوم قوته الكبيرة. انه يحرك كل مقدراتنا المعرفية دفعة واحدة: ليس فقط مقدرتنا على تحليل العالم الخارجي بل على تأمل انفسنا وحدسنا ايضا. يمكننا من معرفة ما يجري في قلوب الآخرين، لأننا نعرف ما الذي يحرّك قلوبنا، وما الذي استطاع ان يحركهم. فعندما يتخيل كاتب المأساة الداخلية لشخصياته، يبدو لنا وصفه صحيحا لأننا شعرنا سابقا بالبواعث ذاتها او تخيلنا حالات مشابهة. علاوة على ذلك، يمكن ان يتطابق بتجانس مع شيء ما وراء ادراكنا. بالحدس نفهم المزيج الداخلي المعقد: التواشج العفوي للمشاعر، الافكار، المعتقدات وآمال الوعي وبواعث ما دون الوعي كما تتواشج الشفقة مع القلق الاجتماعي، او لنقل، مع الإيروس او الغرور او البصيرة المفاجئة لإكراه شخصية على التصرف كما يتصرف هو. الادب هو المدرسة او المحرض العظيم، يعلمنا كيف نختار، من مزيج البواعث المعقدة، ما يناسبنا ويقرر قدرنا. كما يمسرح لنا نتائج تلك الخيارات. اتفضي الى السعادة او البؤس، الى اللياقة ام الفظاظة ولمن؟ ما الذي نتج عن طغيان ميلانوس وغضب اخيل؟ ما هي الاساءة الرهيبة التي يتمخض عنها الحب؟ ما هي نتائج خيارات ايما بوفاري وآنا كارنينا؟ ما الذي يجري لروح الإنسان الذي يقتل مستر هنا <<عديم النفع>> او بناء على إلحاح زوجته، مثل ملك اسكتلندا؟

لهذه الخيارات عواقب على الافراد والنظام الاجتماعي بأسره. ولهذا السبب يطرح الادب اسئلته المتعددة المستويات: كيف ينبغي ان نعيش؟ ما هي حياة الانسان الصحيحة؟ ولطرح اسئلة كهذه، يجب ان نطرح السؤال الآخر: ما هي الطبيعة البشرية وما هي المعالم والكوابح التي تضعها امام نوع الحياة التي يمكن ان نختارها؟ كيف ندرك جيدا امكانيات الفضيلة والسعادة التي تغرسها فينا الطبيعة؟ بناءً عليه، ولزيادة غناها المعقد، حتى عندما يستخدم كل طرق معرفته دفعة واحدة، غالبا ما يتناول الادب الامر من منظورين، في آن معاً، المنظور الفردي والمنظور الاجتماعي ويتفحص (ضمنيا على الاقل) الطرائق التي يتواشج فيها الحقلان ويؤثر احدهما في الآخر. تتداخل اصوات مختلفة، كما في الموسيقا، لتخلق تناغما اكبر، يسمو فوق اصواتها فرادى.

الأدب، نقاش عبر العصور، غيّر تجربتنا وطبيعتنا. نقاش يتخلله، رغم غياب الاجماع، اتفاق مدهش باتساع طيفه. يرتقي الادب، في هذه المسائل، الى حكمة العرق المتراكمة، الى خلاصة تأملنا في وجودنا الخاص. يبدأ بالملاحظة، التبليغ، استخلاص الحقائق من واقعنا الداخلي والخارجي، بقوة شحذتها المخيلة. ويذهب، في نهاية المطاف، الى حد الكشف عن كيفية ترابط هذه الحقائق والمعاني. وعندما يمسرح ما حدث لأشخاص محددين، يحاول ان يشكّل حياتهم عند التقاء العديد من الحقائق اللازبة، يقدم لنا تجسيدات عملية ومتماسكة لحقائق شاملة. لأنه كما يعرف المؤلفون الاكثر عظمة، يجب تضمين العام في الخاص حيث، عندما تسقط في شرك تعقيد وتناقض التجربة الحقيقية، تخسر وضوحها واستبصارها اللذين لا يمكن ان تحوزهما سوى التجريدات.

بالطبع يمكن ان تعترض، اذا كانت هذه هي التبصرات التي يرقى إليها الادب، فهو حقل رأي لا حقل معرفة. لقد قوّضت الشكوك ثقة النقاد الادبيين، بقوة متعاظمة، خلال الربع الاخير من القرن الماضي. ما الادعاء الذي رفعه الادب في وجه العلم، بكل انجازاته العملية الملموسة وحقائقه التامة المجربة؟ ألم يكن الخيال الادبي المعترف به مجرد فانتازيا، ربما ممتعة، سريعة الزوال وعديمة الفائدة في نهاية المطاف؟ وإن أراد أحد ان يعرف شيئا عن العالم الذي يفترض ان يوضحه الادب، فهناك <<العلوم الانسانية>> مثل السوسيولوجيا، السيكولوجيا الانثروبولوجيا التي ادخلت الصرامة وسلطة العلم (كما زعم ممارسوها، على الاقل) الى المواضيع التي يتناولها الادب بأسلوب هواة لا محترفين.

يجب ان ننظر بعين الشك الى العلوم الانسانية، حتى الاصعب بينها. إذ هناك الكثير من <<الدراسات>> و<<التقارير>> المذيلة بجداول بيانات وملحقات مطبوعة، يفترض بها ان تكشف الحقائق حول الرفاه الاجتماعي، السياسة او الثقافة الجنسية، لكنها في الحقيقة لم تكشف إلا عن تحاملات <<الباحثين>>. في مقابلة اجريت مع احد علماء المناخ البارزين حول المطر الحامضي (الامر الذي لم اكن اعرف عنه شيئا) تبيّن لي ان جذره بين العلماء ايديولوجي بامتياز، لا معرفي. وعلمت ايضا منذ بضع سنوات مضت ان علماء المستحاثات سيخسرون لقمة عيشهم اذا فندوا النظرية القائلة بأن انفجار نيزك هائل هو السبب في اندثار الديناصورات بالطريقة نفسها قدم تصورا افتراضيا لما سينشأ عما يسمى الشتاء النووي.

يجمع علماء الاجتماع على <<أن مجموع النوادر لا يشكل حقائق>>. اعتقد انهم مخطئون. لأن تجميع قصص دقيقة عن كيفية عمل العالم الانساني، قصص تقدم وصفا في صيغة تفسير، يؤسس لمعرفة، معرفة افضل من التي يمكن تحصيلها من مكان آخر. فالمعطيات تبقى عديمة النفع حتى نستخلص منها قصة ذات مغزى، والادب يستخرج المغزى من معطيات التجربة الانسانية.

هل هناك من يعتقد ان الفهم الذي قدمه فرويد عن العقل البشري افضل مما قدمه شكسبير ان دراسات دورا او الرجل الذئب قد ترقى الى مصاف الفهم العميق الذي تنطوي عليه مكبث او الملك لير، بالطريقة التي يعرضان فيها قدرة الانسان (رجلا كان أو امرأة) على اقتراف الشر دون ان يرف له جفن؟ هل هناك من يعتقد ان دراسات مارغريت ميد او ألفريد كينزي تقارب في صحتها دراسات اوفيد او تورجينيف؟ وهل تخبرنا دراسات ويلسون السيكولوجية او دراسات ريتشارد دوكينز شيئا آخر اكثر مما تعلمناه من هومر او فرجيل؟
إن قصيدة تينيسون الرائعة (بعنوان 1865 1866) تلخص هذه الفكرة أفضل مما أستطيعه أنا:
وقفت على برج في الندى
وتقابل عام قادم وعام مضى
كانت الرياح تهب وتهدر
فقلت: <<آه، أيتها السنين، التي تلتقي في الدموع،
أتعتقدين ذلك جديراً بالمعرفة؟
علم كاف واستكشاف.
تائهون قادمون وغادون،
مادة كافية للاستهجان،
لكن، أتعتقدين ذلك جديرا بالمعرفة؟
كانت البحار تسيل على قدمي،
والأمواج تتكسر على الحصى،
عام مضى يهبُّ ويهدر
وعام جديد يهبُّ يهدر.

الحكمة، مطلوبة، القدرة على رؤية ما في القلب. هذه هي المعرفة التي يصفها أفلاطون شعرا في معظم مطارحاته الفلسفية، قصة الكهف الرمزية: المعرفة التي ترى الحقيقة عبر عالم المظاهر، العالم التي أصبحت المظاهر فيه ثمرة (فيضا) معرفة تحتاج عمرا من التفكير والدراسة لبلوغها، لكنها تأتي، في النهاية، في ومضة حدس لأن الحقيقة كامنة في داخلنا، بواسطة التأمل والحدس نستطيع ان نراها في طبيعتنا الداخلية، كما نراها في العالم الخارجي. وهذه هي المعرفة معرفة يمكن القول إنها مقيمة في أرواحنا كما في عقولنا معرفة يتضمنها الأدب العظيم.

انها المعرفة التي تنطوي، أيضا، على فائدة عملية لا تقل فائدة عن المعرفة العلمية. لأنها لا تنتج كومبيوترات او وشائع، بل تبني حضارات. تحدد ماذا يعني ان تكون إنسانا، تمسرح القيم والمُثُل، نسيج الثقافة الذي يميّزنا عن الحيوانات.

وقف سوفوكليس، مثلا، في رائعته الملك أوديب على بداية ناموسنا، حشد فيها أكبر قدر ممكن. رجل اقترف جريمتين لا تغتفران جريمتين فظيعتين في المنظور الكوني كله، لا حسب نواميس مجتمع بعينه. غير انه لا يدرك انه اقترفهما. لم يعرف انه قتل أباه وتزوج، الملكة، أمه. حتى انه لا يعرف ما الذي كان يفعله، لأنه لم يقصد، بالتأكيد، ان يقترف هاتين الجريمتين. علاوة على ذلك، كان قدره ان يقترفهما، كما جاءت العرافة لحظة ولادته. لذلك ومهما كان نوع تلطيف الظروف المرافقة لهذين الحدثين، هل كان مسؤولا عما اقترفه؟

يقول لنا سوفوكليس: <<نعم>>، ونعم مدويّة. يرينا ماذا يعني ان تكون إنسانا! يعني ان تكون مسؤولا عن أفعالك. في عالم الصدفة واللايقين، حيث توجد أمور كثيرة خارج نطاق سيطرتك، تكون الإرادة الحرة هي الطريقة الوحيدة لإثبات أننا كائنات أخلاقية، أفعالها تنطوي على معانيها، أكثر من كوننا مجرد كائنات، جزءا من هذا الدفق والشواش البهيمي الخلق. انه مبدأ شديد القسوة، لكنه ينطوي على تحذير مستمر حتى عهدنا الحالي. وأثناء بحثه عن تلطيف الحالة وابرازها كضحية، يُضعف كل ما يتناوله بدلا من ان يزيده رفعة وشرفا. هذا القبول بالمسؤولية هو الذي يجعل من أوديب بطلا تراجيديا، مع تشديد مكافئ على تينك الكلمتين معاً.

إذا قفزنا ألفي عام الى الأمام، الى العالم الدراماتيكي الذي يبدو كأنه ينتمي الى كوكب آخر، عالم أوبرا موزارت الساخرة Fan Tutte, Cos&#igrave <<كلهم يفعلونها>> انها الحرية، التي كتبها لورينزو دا بوتي، الذي كتب أيضا الحرية لدون جيوفاني وزواج فيغارو، قبل ان ينتهي به المقام في نيويورك كأول بروفيسور ايطالي في جامعة كولومبيا، يروي القصة الصغيرة الرائعة عن شابين وسيمين سخيفين، وما فعله بهما صديقهما الكلبي الأكبر سنا. قال لهما، ان جربتما صديقتيكما اللتين تدعيان انهما مثال الاخلاص، فستجدان انهما ليستا مخلصتين لكما. ادعيا انكما دعيتما الى الحرب، ثم عودا متنكرين كنبيلين ألبانيين، وليغر كل منكما فتاة الآخر، وانظرا النتيجة.

عندما تظاهر الشابان بأنهما دُعيا الى الحرب، ناحت الفتاتان وذرفتا الدموع الحارة على فراقهما (لأننا في عالم الأدب إضافة الى انكم) تعرفون ان حبهما حقيقي، رغم سقوطهما لاحقا في شرك الألبانيين المتنكرين، وكما ثبت مؤقتا انهما ليستا مخلصتين. وهذه هي فكرة الأوبرا. فمن إحدى وجهات النظر، ان شابا وسيما لا يفرق عن الآخر؛ بينما ترى الأخرى ان الشخص الذي نختاره، يكون فريدا وخاصا والوحيد الذي يناسبنا. نحن بشر بغرائز حيوانية، لكن أثناء توجيهنا تلك الغريزة غير المتجانسة الى عمل واضح وخيار ملزم، نغير الطبيعي في الإنسان، ونخلق عالما جديدا من المشاعر والمعاني في سياق هذه العملية.

كانت أوبرا Cos&#igrave تقدم كل عام، ونشرت رواية جين أوستين <<اميلي برونتي>> بعد ربع قرن كتكرار لها. لعب غوينيث بالترو وأليس سيلفيرستون دوري البطولة في آخر فيلم أنتج عن الرواية. لا غرابة في بقاء هذه الرواية. فبطلتها الصغيرة فاتنة جدا لا تقاوم رغم قناعتها الراسخة جدا بنفسها وخداع الذات؛ ربما كانت معذورة لكونها صغيرة وجميلة، ومتميزة. الحدث الرئيس في القصة هو اهانة إيما، للآنسة باتيس، صديقة العائلة، وجرح مشاعرها. في الواقع ان الآنسة باتيس صبية مملة وتثرثر بأمور تافهة جدا، لدرجة أنك حالما تراها قادمة تنكمش على نفسك رغم انها ليست مؤذية، ولطيفة جدا. والصحيح أيضا ان فظاظة إيما لم تصل الحد الذي تسمعه الآن في التلفزيون، او في الشارع على مدار الساعة. فالأمر لا يتعدى السخرية من كثرة كلام الآنسة باتيس الذي لا ينتهي.

لكن الرجل الذي تحبه إيما يوبخها بقسوة على سلوكها ذاك، فيقول لها: انها على قمة الهرم الاجتماعي في بلدتها الصغيرة، وإذا عاملت الآنسة باتيس بازدراء، فسيحذو الآخرون حذوها، ويسيئون الى الفقراء والى أتباعهم وهم أشخاص طيبو القلب. ذلك ان معاملة الآخرين ليست أمرا تافها، ليست مسألة استخدام شوكة الطعام، إنها جزء من الأخلاق، من القانون شبكة الثقافة، التي بواسطتها ننجح في العيش بانسجام مع الآخرين. ان معاملة الآخرين هي مفتاح جزء آخر من مشروع الأنسنة، الذي نحوّل عبره الأكل الى طعام، الجنس الى رومانسية ومغازلة، وتفاعلنا اليومي مع البشر الى مناسبات للتعاون لا للصراع.

سيقول كثيرون، اليوم، معترضين على كل هذا الزيف والتكلف، اننا يجب ان نكون طبيعيين ومخلصين وألا نربك أنفسنا بالمجاملات والأعراف التقليدية. سأنهي مقالتي هذه بواحدة من أولى روايات ديكنز، مارتن تشوزيلويف، التي تنطوي على اجابة عن هذه المسألة. أتريد ان تعرف كيف يبدو الناس عندما يكونون طبيعيين ويستغنون عن المجاملات؟ يقول ديكنز، دعونا نخرج الى الحدود الأميركية (التي زارها هو في 1842). المنظر الطبيعي، بمعزل عن كونه شبيها بجنة عدن، مستنقع يسبب الأمراض، أما سكان المنطقة، الذين يسمون أنفسهم نبلاء الطبيعة، فهم فظون، مخادعون وعنيفون. كلهم يحملون بنادق وسكاكين إضافة الى نزعات أخرى، ليس لديهم مشكلة في استعباد البشر الآخرين.

ان أردت ما هو أفضل، يقول روائي هذا المدينة العظيم، لنعد الى لندن، عالم بديل للطبيعة، حيث صنع الإنسان مكانا تسمع فيه صهيل الأحصنة وهي تخبط الأرض، لا في الحقول بل اسطبلات تحت الأرض، حيث ترى البرتقال لا على الشجر، بل على عربات تمر في الشوارع في مواسم غير موسم البرتقال، حيث تزهر الورود في أصص في النوافذ العالية، حيث يخلق دخان المداخن مناخه الخاص غير الطبيعي. لكنها بيئة خلابة بالنسبة للبشر. انها أشبه بدفيئة يستطيع البشر المتحكمون بمناخها ان يطوّروا شخصيتهم على أكمل وجه. لأنه في هذه المملكة الاصطناعية مملكة اجتماعية يلفق فيها البشر قصصا ويرويها أحدهم للآخر، يصنعون ذواتا ويقدمها أحدهم للآخر، يصنعون احتفالات تكرّس أفعالهم تعيد البشرية صياغة نفسها في شكل ما يفي بكل امكانيات طبيعتنا التي لا تستطيع الطبيعة وحدها ان تجعلها تزهر.

في الختام، لا بد من الاعتراف بأن: العهد الجريء الذي رأى الأدب كما وصفته، قد انتهى منذ سنوات. فقد لعب النقد الأرثوذكسي الذي ظهر مؤخرا، دورا هداما في الأدب. لم يعد النقاد ينظرون إلى المغامرة الأدبية بقدر ما يحاولون ان يُطلعونا على حقيقة شرطنا والامكانيات التي تقدمها، لكنهم يحاولون خداعنا باضطهاد سياسي واجتماعي متسامح. سنرفضه فورا. لو استطعنا ان نصفي عقولنا من الأساطير والارباكات التي ضلّلنا بواسطتها المؤلفون الذين أصبحوا، مجرد معتذرين من الراسخ والقوي. لم يعد دور الناقد اليوم، الغوص عميقا الى قلب الحقيقة التي قبضها المؤلف، كي يشرح لجيل جديد من القراء كيف تصبح التجربة معيشة. بل أصبح لزاما عليه ان يكشف القناع عن صور المؤلف، ليكشف كيف ان المؤلف نفسه لا يعي دوافعه الحقيقية وانه أعمى عن الحقيقة التي ينوي ان ينيرها، كما يجب ان يكشف حقيقة تزلّفه، افتقاره الى امكانية النقد التي تستطيع ان ترى ان العلاقات الاجتماعية والتقاليد والمعتقدات تكبح وتحط من قيمة الإنسان، بدلا من ان تؤنسنه وتمدّنه كما يرى المؤلف باحتفاليته الخاصة. بالنسبة الى هؤلاء النقاد، لقد أصبح زيف الأدب حقيقته؛ ومهما كان المؤلف عظيما فهو الاعلامي الساذج في كنف هذا الطاغية او ذاك.
لهذا السبب، استمر العامة المتعلمون في قراءة الأدب، الذي ستبقى أعماله العظيمة منارة خالدة توجه وتُلهم البشرية بعد ان تطايرت كالغبار أعمال ذلك الجيل من النقاد الغاضبين، المتغطرسين، المتبلدي الذهن.


ترجمة/ محمد حبيب

التعليقات