صراع لا ينام بين المسيحيّة والإسلام؟! بقلم: تركي عامر (*)

صراع لا ينام بين المسيحيّة والإسلام؟!

بقلم: تركي عامر (*)
برغم مرور نيّف وستّة عقود على إقامة "دولة اليهود" (بحسب المنطوق الحرفيّ لوثيقة استقلالهم)، يبدو أنّ الحركة الصّهيونيّة، على اختلاف أطيافها الفكريّة والسّياسيّة العلنيّة (والمخفيّ أعظم)، لن تملّ من تكرار مانترا (Mantra) عنصريّة بامتياز، ألّفها المايسترو هرتسل: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". فلا توفّر هذه الحركة، في صبحها والمساء، أدنى فرصة (وأدهى فكرة) لإنكار الرّواية الفلسطينيّة (ملحًا ووبرًا)، وكأنّ فلسطين "فعلاً" كانت، كما يزعم "الرّائي" الملتحي، مجرّد أرض (لا معلّقة ولا مطلّقة) تنتظر "شعبها المختار" العائد من التّيه.

لا تكلّ آليّات الدّعاية الصّهيونيّة، وبمنتهى الصّفاقة الأخلاقيّة، عن حُمَّى التّلفيق (على الطّالع والنّازل) بأنّه ليس ثمّة شعب فلسطينيّ صاحب حقّ شرعيّ ومشروع في تقرير مصيره السّياسيّ (كينونةً وكيانًا)، وكأنّ الّذي اقتُلعت روحه من هذا "الهُنا" وشُرّد مع الرّيح في ذلك "اللاّهناك"، لم يكن فلسطينيًّا، بل ربّما (!) غجريًّا أو كرديًّا أو تبتيًّا أو أرمينيًّا. ولكلّ من هؤلاء الزّملاء في مزارع "تربية الأمل" (محمود درويش)، لكلّ "صهيونيّته" الخاصّة والخصوصيّة، والمتخصّصة بتفكيك حلمه القوميّ.

لن أروح إلى تجنيد فتاوى العروبة والإسلام لتفنيد دعاوى الصّهيونيّة والتّوراة. أترك المهمّة للمؤرّخين (الجدد)، للحيلولة دون حرمانهم كفاف حبرهم. وإمعانًا في تقصّي عنقاء الموضوعيّة، سأطوّبُني، في هذه العجالة، كائنًا من كوكب آخر يقرأ الكرة الأرضيّة دون نظّارات طبّيّة. ضعوا الأحزمة. أراني سائقًا سفينة فضائيّة، مفرّغة من الجاذبيّة، وبطّاريّتها النّوويّة "على آخر نَفَس".

ككائن فضائيّ لا علاقة له بالكرة الأرضيّة "لؤلؤة الكون" (Andrew Tomas)، أرى إلى الفلسطينيّ أينما وُجد، ومعه اليهودي أينما وُجد، ضحيّة صراع قديم جديد (ومتجدّد على الدّوام) بين أدعياء المسيحيّة وأدعياء الإسلام، لا بين المسيحيّة والإسلام، كحضارتَيْن/ ديانتَيْن/ عقيدتَيْن متنافستَيْن (على أرواح النّاخبين)، علمًا أنّ الثّانية جاءت لتكمل (تكمّل) الأولى، لا لتنقضها أو تناقضها، لا لتنسفها أو تنافسها.

والدّين، "في ملّتي واعتقادي" (المعرّيّ)، بمعناه الرّوحيّ الْمُنَزَّه عن الغائيّة المادّيّة والغرضيّة الأرضيّة، مركّب أساس من مركّبات الحضارة البشريّة بمعانيها الجميلة والنّبيلة والأصيلة، بعيدًا عمّا من شأن جوعه (إلى "الحقيقة") أن يغمّس خارج صحن هذا المعبد أو ذاك، مع احترامي العميق للمعابد كافّة، حتّى الإلحاديّة منها، في حرّيّة البخار والبخور، والطّواطم (Totems) والنّذور، والشّموع والدّموع، والطّواف والرّكوع. وأكرّر احترامي لطقوس الجميع، دون استثناء، في تعلّقهم بحبال الهواء وعلاقتهم بجبال السّماء.

وقبل المضيّ قُدُمًا، وللحيلولة دون إساءة فهمٍ (أو هضمٍ دون مسهّلات غازيّة)، أسجّل، هنا الآن، أنّني، في كلامي على المسيحيّة، لست أقصد الدّيانة الّتي تحمل بشارة السّلام والمحبّة المنسوبة إلى السّيّد المسيح عليه السّلام. فالمسيحيّة الأصيلة، بمفهومها الفدائيّ العفيف (جلجلةً وقيامةً)، براء ممّا فعلوا ويفعلون باسمِها من حروب صليبيّة (وصكوك غفران) وإرساليّات كولونياليّة، تمامًا كما الإسلام الحنيف، بمفهومه الرّسوليّ الشّريف (هجرةً ومعجزةً)، براء ممّا فعلوا ويفعلون باسمه من حروب جهاديّة (وحور عين) وفتوحات لا تقلّ كولونياليّة.

وأفتح قوسًا: الحركات المعتقديّة (والعقائديّة) تستمدّ مشروعيّتها، أو برنامجها الانتخابيّ، من تبشير بعالم لذائذيّ (فردوسيّ) منشود. ومن هنا، ذلك التّعصّب، الأعمى على الغالب، لهذا المذهب الدّينيّ أو ذاك الحزب السّياسيّ، والدّفاع المستميت عمّا تستثمره هذه الدّيانة، أو تلك الإيديولوجيّة، من أسهم في المشروع الجنّتيّ، أو في البورصة الماورائيّة (Metaphysical). فيمارس الإنسان، في أحلامه الّلانهائيّة، نوعًا من التّوليف بين المتناقضات، فلا يكفّ عن الجمع، تخييليًّا على الأقلّ، بين المرئيّ والماورائيّ. فالجنّة، بوصفها حلم الأحلام، هي شغلُ واعيتِه الشّاغل وهاجس لاواعيتِه الدّائم، وأحد أهمّ مصادر قلقه الرّوحيّ، ناهيك عن أسباب القلق الوجوديّ (Existential) الضّاغظة على الوعي (العقل المرافق) واللاّوعيّ (العقل المفارق) بما لا يقبل المساومة أو التّصالح.

وبعد، ليس كلّ لاواعٍ عائدًا، بالضّرورة، إلى ما يُسمّى ليبيدو (Libido)، حسب فرويد (Freud). لهذا اللّيبيدو شقيق توأم هو ريليدْجُو (Religio)، يقترحه فكتور فرنكل (Victor Frankel)، شيخ طريقة الّلوغوترابيا (Logotheraphy) الطّبّنفسيّة. وعليه، ليس لكلّ لاواعٍ، حتمًا، علاقةٌ (حصريّة) بالجنس. ثمّة مكبوتات وثيقة الصّلة بالدّين، حتّى عند ثقاة الملاحدة وعتاة العلمانيّين. فبمحاذاة القطاع الجنسيّ في اللاّوعي، ثمّة قطاع دينيّ (روحيّ/ أسطوريّ/ خرافيّ/ غيبيّ/ ماورائيّ/ لاهوتيّ) يحتلّ أرضًا احتلاميّة (على الأقلّ) في اللاّوعي عينه.

وربّ مستهجن يعترض: لكنّك، بهذه الرّؤية الحادّة، تساوي بين الجنس والدّين. فأردّ على النّار: الجنس والدّين وسيلتان لإطفاء شهوة ما، لبلوغ ذروة ما. بالجنس نحاول الوصول إلى النّشوة، وهذه عرض أوّليّ (Premier)، أو صورة مصغّرة (Miniature)، عن الجنّة. وبالدّين نحاول الوصول إلى النّجوى، وهذه جواز مرور إلى الجنّة. وثمّة علاقة لفظيّة، بالغة الدّلالة في ما يتعدّى حدود البلاغة، بين الدّخول والخلود.

أغلق قوسًا يعيدنا إلى موضوعنا: إنّه، وبامتياز، صراع بين أدعياء المسيحيّة وأدعياء الإسلام، وذلك منذ أوّل حملة صليبيّة على الأقلّ وحتّى إنفلونزا الخنازير (والحزازير)، مرورًا بهولاكو ونابّليون وربيع الشّعوب وأكتوبر العظيم والرّجل المريض والمحرقة والنّكبة والنّاصريّة والبعث والنّكسة وكامب ديفيد وثورة الخمينيّ والعرب الأفغان والحروب على العراق والحادي عشر من أيلول والحرب على "الإرهاب" ونشر الدّيانة الدّيمقراطيّة، وسواها من ألاعيب وأكاذيب، كالمظاهرات المناهضة للحرب، واللّقاءات البروتوكوليّة بين العالَمَيْن/ الحضارتَيْن/ الدّيانتَيْن، منذ شارلمان والرّشيد وحتّى أوباما وخادم الحرمين، مرورًا بعدم الانحياز والفرانكفونيّة والمتوسّطيّة وسواها من أطر وتظاهرات، ظاهرُها تلميعٌ مفضوح يُراد به تمييعًا أشدَّ "فضاحةً" للصّراع أو لفلفة الطّابق (غير المستور).

يبدو للماركسيّين المتشدّدين بأنّ الصّراع على فلسطين صراع طبقيّ: بين برجوازيّة ظالمة تدعمها رأسماليّة جهنّميّة، وبروليتاريّة حالمة بجنّات تجري من تحتها أنهار صاعدة لولبيًّا إلى سدرة إلغاء الدّولة. غير أنّ التّجارب البروليتاريّة أثبتت، للأسف الدّيالكتيكيّ الشّديد، أنّ طبيعة الرّوح البشريّة فردانيّة سافرة، كافرة بإمكانات التّقاسم والمساواة والتّعاون والمواساة. ولو كان الصّراع طبقيًّا، كما يَتَمَحْلَم الماركسيّ (نوسطالجيًّا)، فلماذا، إذن، لا تتعاون البروليتاريا الصّهيونيّة (الإسرائيليّة) مع البروليتاريا العربيّة (الفلسطينيّة) على إيجاد حلّ (ولو ثنائيّ القوميّة) للصّراع؟! فالشّيوعيّ الإسرائيليّ، منذ نعومة أظفار الكيان الصّهيونيّ، كان أوّل من نطق بشهادة "دولتين لشعبَيْن"، سلّم بها (وأسلم) وتشيّع لها، مؤخّرًا، غلاة المحافظين الجدد من "دالاس" حتّى "حماس".

ويبدو للقوميّين المتشدّدين (أيضًا) بأنّه صراع بين دِيكَيْ حركتَيْن: الصّهيونيّة والعروبة، على طريقة "يا قاتل يا مقتول"، دون أدنى اعتبار لحلٍّ وسط (قد) يرضي الوسطيّين (المعتدلين) من الطّرفَيْن، مع أنّ "التّطرّف كلّ الحقيقة والاعتدال نصف الباطل" (كمال خير بك). ولكن، لا هذا رمى ذاك في البحر وليمةً لأسماك المتوسّط، ولا ذاك شرّد هذا إلى الصّحراء وليمةً لضباع الصّعاليك. ويظلّ الطرّفان "السّماويّان" وليمةً لآلة حرب أرضيّة، لا تعرف الرّحمة ولا الرّحمن الرّحيم.

وتصعيدًا (بكلّ المعاني)، ثمّة من يرى إلى الصّراع وكأنّه صراع آلهة: بين حملة لواء "الشّعب المختار" (!) من جهة وحملة لواء "خيرُ أمّة" (!) من الجهة الأخرى. غير أنّ التّاريخ مليء بصفحات مشرقة للتّعايش السّلميّ (حدّ الأهليّ)، والعيش المشترك (حدّ الأكل على طبق واحد)، بين أبناء إسحق وأبناء إسماعيل على مرّ العصور وفي مختلف الأمصار. ويستمرّ الصّراع "أجيال ورا أجيال" (أوبيريت الحلم العربي)، ولا أحد يحرّك ساكنًا (أو ساخنًا سيّان) لوقف حمّام "الدّم والدّمع والدّمار والدّخان" (سميح القاسم). وتزداد الأخبار العاجلة تلاحقًا (وتلاقحًا) في أسافل الشّاشات، أخشى ما أخشاه أنّه لا سبيل إلى وقفها إلاّ بمِسْلاَطٍ (Remote Control) "قيامة" يعمل على بطّاريّات نوويّة.

أفتح، هنا، نافذة برعاية "آل وندوز" (Windows)، قدّست "النّتّ" (Net) شاشاتِهم وشبابيكَهم أجمعين، لأطرح سؤالاً هشًّا على طاولة الأسرة (؟!) الدّوليّة الأكثر هشاشة: لماذا سكت العالم "المتحضّر"، محرقتذاك، إلى أن أجهز النّازيّ على ستّة ملايين يهوديّ؟! هل كان السّكوت علامة رضا؟! ولماذا سكت العالم "المتمدين" (؟!)، نكبتذاك، إزاء تشريد شعب من فيزياء تاريخه وكيمياء جغرافيّته؟! وهل كان السّكوت، هنا أيضًا، علامة رضا؟! إذا كان الأمر كذلك، فالصّمت، إذن، سيّد الوقت. والوقت، صامتًا أو صائتًا سيّان، موت. لأنّه (الوقتَ) روحٌ لا تتقمّص.

فاصل إعلاني غير مدفوع: برغم ما أنتجت (وتنتج) من أسلحة دمار شامل لا تُغتفر، لا أحد ينكر ما للحضارة الغربيّة من أفضال وفضائل وفضلات على الإنسانيّة جمعاء، لجهة الاكتشافات العلميّة والاختراعات التّكنولوجيّة (منذ القاطرة البخاريّة حتّى الإنترنت)، ولجهة القيم والمقولات الاجتماعيّة والسّياسيّة (أهمّها فصل الدّين عن الدّولة). ولا أحد ينسى المساعدات والمعونات السّخيّة الّتي قدّمها ويقدّمها الغرب لمختلف البلدان والشّعوب النّامية (والنّائمة) والمتنامية (والمتناومة). وبوصفه حضارةً (بالمعنى الأنثروبولوجيّ على الأقلّ)، يحقّ للغرب، كما لأيّة حضارة، أن يدافع عن حقّه في التّمسّك بمنجزاته المادّيّة والرّوحيّة. ولكن، ليس من حقّ هذا الغرب العظيم بكلّ المقاييس، عقلانيّةً وعلمانيّة/ ديمقراطيةً ولبراليّة/ علنيّةً وشفافيّة، ليس من حقّه، تحت أيّ ظرف من الظّروف، أن يستغبي العالم بازدواجيّة فاضحة هنا ومفضوحة هناك، ولا سيّما في ما يتعلّق بفلسطين والعرب والمسلمين.

ليس خفيًّا على أحد أنّ هذا الغرب، من أعالي أوروبا إلى أواطي أميركا، ومنذ مطلع الاستعمار الحديث، على الأقلّ، يغازل البوذيّة والهندوسيّة وسواهما من حقول أنثروبولوجيّات، لغايات في نفس يعقوب (ويعسوب ويعشوب)، يستضيف زعماءهم الرّوحيّين والسّياسيّين، يحتفي بهم ويكرّمهم، يقيم لهم معاهد ومؤسّسات في كبريات حواضره "المنفتحات" على الحضارات والثّقافات والمعتقدات والدّيانات، وكأنّي بأبناء غير مجتمعات يغارون جرّاء هذا الغزل (السّياحيّ على الأقلّ).

الغرب يتباكى على تماثيل بوذيّة (من حجر) حطّمتها "طالبان" في أفغانستان، ويرصد ميزانيّات سخيّة لإعادة تنصيبها. وما من عاقل لا يدين ما تفعله أيّة جهة "ظلاميّة" في التّاريخ، منذ جنكيز خان وحتّى بوش خان، مرورًا بشارون خان صابرا وشاتيلا وصدّام خان حلبجة، وسواهم من خانات ومربّعات وخَوَنَة ومُرَابعين. لكنّ الغرب نفسه يتصنّع التّباكي على "تماثيل" عربيّة فلسطينيّة (من بشر) شرّدتها الصّهيونيّة، ويرصد ميزانيّات مشروطة (بمباركة أنظمة ركوع عربيّة) لإعادة إعمار هنا أو هناك، ولكن بعد سكوت فاضح عمّن تسبّب في الحاجة (الفسفوريّة) إلى إعادة الإعمار.

يطيب لأحدهم أن يذكّر، وقد تنفع الذّكرى وقد لا تنفع، بأنّ الغرب انتصر للبوسنة وكوسوفو وجرجر مجرمي حرب غربيّين إلى محاكم دوليّة. هذا صحيح، ولكن لغاية في نفس الأطلسيّ: كي يصدّق العالم موضوعيّة الغرب، وعلنيّة الغرب، ومصداقيّة الغرب، وشفافيّة الغرب. فلماذا، إذن، يماطل الغرب نفسه في قبول تركيا عضوًا في الاتّحاد الأوروبّيّ؟! ماذا لو كانت تركيا غير مسلمة؟!

ولماذا هبّ الغرب هبّة رجل واحد لإنقاذ الكويت من المحتلّ العراقيّ بعد أيّام من احتلالها، ثمّ لإنقاذ المنطقة من خطر "النّوويّ" العراقيّ الّذي لم يكن موجودًا أصلاً؟! ولا يهبّ الغرب نفسه سُدْسَ هبّة لإنقاذ فلسطين بعد ستّين عامًا من اغتصابها؟! وقد نتساءل: كيف تراه يفعل ذلك ومغتصب فلسطين ما هو إلاّ أداة الغرب الأماميّة في تأجيج ما يُسمّى بـ "صراع الحضارات" مع "الشّرق"؟! ولكن، أيّ شرق؟!

ولماذا لا يهبّ الغرب، نفسه وعينه وذاته، لإنقاذ العالم من خطر النّوويّ الكوريّ الشّماليّ، سيّما وأنّ سماحة الأمين العام للحزب الشّيوعيّ في بيونغ يانغ غير محسوب على أعضاء النّادي الدّيمقراطيّ "الخاصّ" بالعالم "الحرّ"؟! لكن، لا خوف، فهذا الكوريّ المشاكس، على أيّة حال، بعيد عن بؤرة الصّراع الكونيّ (الشّرق الأوسط)، ومن المؤكّد أنّه لا وقت لـ "العقلاء" للّعب مع "المجانين" (!).

ولماذا يمهل الغرب (ويهمل) في الملفّ النّوويّ الإيرانيّ؟! ألأنّ الوليّ الفقيه الأميركيّ آية الله داو دجونز، ومعه رئيس مصلحة تشخيص النّظام آية الله وولستريت، ينتظران "عودة" الأسهم الأماميّة إلى ما كانت عليه قبل أن تعيث فيها ثورة المحافظين الجدد "بشبشةً" رعناء انتهت بحذاء من "منتظر" عراقيّ؟! أم لأنّ الإيرانيّ ليس عربيًّا، وثمّة جذور هندوآريانيّة تجمعه مع قبائل كانت نزحت (زااااماااان) إلى أوروبا بُعيد "نكبة" ما؟! وبالعودة من هناك إلى الآن، من غير المستبعد أن يكون الغرب معنيًّا بإيران نوويّة. لماذا؟! ربّما لإشغال المنطقة العربيّة (وإشعالها) بقضيّة أخرى (قد) تغطّي على قضيّة فلسطين، مرورًا بإذكاء صراع سنّيّ شيعي (وعربيّ فارسيّ) يغرق المنطقة في حروب أهليّة ترقى جذورها إلى ذي قار والسّقيفة والقادسيّة (؟!).

وهنا، إسرائيل (قدّس الغرب أزرارها النّوويّة وكرّسها تكريسًا مبينًا ومبيدًا لأصابع مجلس "الأمن")، تدخل على الخطّ "مهدّدة" بضرب إيران. والغرب، في قرارة نفسه، سيكون سعيدًا إذا ما أقدمت إسرائيل على هكذا خطيئة إستراتيجيّة، لكنّه يتصنّع النُّصْح بعدم الإقدام على هذه، لسببَيْن. أمّا الثّالث: إذا "نجحت" إسرائيل في تسديد ضربة لإيران، فقد تكسب ودّ العالم العربيّ، ويروح الأخير إلى إحياء "المبادرة العربيّة" حدّ التّطبيع دون شروط مسبقة. وهذا ما لا يتمنّاه الغرب، لأنّه يتعيّش، منذ عقود، على نار الصّراع العربيّ ـ الإسرائيليّ، بل يستمدّ "سيادته" على العالم من سَدَنةَ الدّم وسادة النّفط الشّرقأوسطيّين (!).

الغرب، كما أسلفنا (وسولفنا)، يحفل بمؤسّسات بوذيّة وهندوسيّة على أرضه، غير أنّه، ويا للمفارقة المرّة (مرارة الكينا في تجفيف مستنقعات تعجّ بالبعوض)، يضيق ذرعًا بمؤسّسات خيريّة إسلاميّة، لأنّها، بحسب زعمه، "تدعم الإرهاب". ويكون، بعد حدعش أيلول (أو "غزوة منهاتن" كما تسمّيها "القاعدة")، أن تندلع "الحرب على الإرهاب" (!). ثمّة من يزعم أنّه من حقّ الولايات المتّحدة الأميركيّة أن تدافع عن نفسها، حدّ ملاحقة العيّار إلى باب الدّار، ولكن ليس بشكل يوحي وكأنّ أمن الكرة الأرضيّة مسؤوليّة حصريّة أسندتها السّماء (الغائبة والمغيّبة تمامًا) لماما أمريكا وأمّها الكونتيسة أوروبا، بوصفهما وصيّتَيْن شرعيّتَيْن على القاصر "حرّيّة".

وعلى سيرة "الحرّيّة"، ينطّ سؤال من بين السّطور: لماذا تستضيف أوروبّا كاتبًا مثل سلمان رشدي، بصرف النّظر عن قيمة كتابه الموسوم بـ "آيات شيطانيّة"؟! وتروح ملكة بريطانيا، إليزابيث آل وندزور، إلى تكريم رشدي بلقب "فارس" (من أرفع الأوسمة الّتي تُمنح لمن قدّموا خدمات جليلة للمجتمع البريطانيّ). لأنّه يطيب للغرب أن يلعب دور "المغيث للملهوف" الهارب من حبل المشنقة في بلاد المسلمين، لا لعيون الهارب، بل إدانةً دامغة لما هو هارب منه.

وهنا، على العالم الإسلامي، منظومةً عقائديّة وأنظمة سياسيّة، أن يعيد النّظر في مسألة قبول الآخر المختلف من أبناء جلدته ولو كان كافرًا، كافلاً له حقّ البقاء على ذمّة الحياة، عملاً بحرّيّة المعتقد والفكر والرّأي والكلمة، والكفّ (نهائيًّا لا إجرائيًّا) عن فتاوى التّكفير والتّهجير والتّرهيب والتّهريب، لتفويت الفرصة على من يزعم بأنّه اللّبراليّ وأنّه الدّمقراطيّ وأنّه التّعدّديّ، وأنّه الصّدر الأوسع لاستقبال المستجيرين من رمضاء أهلهم بنار "جيران" أهلهم، في حين أنّه (الغرب)، ومنذ خمسة عشر قرنًا، يعادي الإسلام والمسلمين، وفق ما يروح إليه مدمنو "نظريّة المؤامرة". وعليه، هل الإسلام، لا الشّيوعيّة ولا البطّيخيّة، هو ما يقضّ مضجع الغرب ويطيّر النّوم من عينيه (الآريّتَيْن تحديدًا)؟!

أمّا اليهود (بفكرهم الصّهيونيّ المتنكّر للرّواية الفلسطينيّة وممارساتهم الإسرائيليّة المدمّرة لأيّة نافذة تطلّ على بعض حُلُم ببعض سلام)، فثمّة من يرى إليهم مجرّد أداة بيد الغرب في لعبته/ تسليته، السّياديّة ربّما، مع الإسلام والمسلمين. فوعد بلفور الّذي أرهص للّعبة، والمحرقة الّتي عجّلت اللّعبة، ومن ثمّة إقامة إسرائيل، كحقيقة جغراسيّة (geopolitical) واضحة للعيان، كانت ضربًا لعصفورَيْن (على الأقلّ) بحجر واحد:

يرتاح الغرب من اليهوديّ في أوروبّا تحديدًا، بغية تنقية القارّة ممّا "يعيث" فيها من "أخلاط" ساميّة تخربط ترتيب الفسيفساء الآريّة (؟!). فيزرعون له "دولةً يهوديّة" كي يحلّ عن ظهرهم. وأين؟! في قدس أقداس المسلمين. لماذا؟! كي يتقاتل مع المسلمين إلى يوم الدّين. وأين تدور رحى الاقتتال الأبديّ؟! هنااااااااااك في الشّرق، بعيدًا عن حواضر أوروبّا، "النّظيفات" من السّاميّين. ولكن، لماذا؟! ربّما عقابًا على تسبّب "إكس" في صلب السّيّد المسيح عليه السّلام (؟!)، وعقابًا على رأي "واي" القائل: "وما صلبوه.. ولكن شُبِّه لهم" (؟!).

وكأنّي بالغرب، بوصفه ممثّلاً (غير وحيد) للمسيحيّة، عاتب على "واي" لأنّه يبرئ ساحة "إكس" من صلب المسيح. فعقابًا لكليهما، كان "يجب" أن يُصار إلى إشعال فتنة أبديّة بينهما. ويطيب للغرب، هنا، أن يلعب دور كبير الأبناء في طقس إحراق جثّة الوالد على الطّريقة الهندوسيّة، حيث لا يترك للنّار أن تخمد قبل أن تأتي على الجثّة بالكامل، ومن ثمّة ينثر الرّماد في النّهر المقدّس. ومن هو الوالد؟! جنوحًا إلى جنون نيتشويّ، أزعم أنّه الله. ولتخفيف الصّدمة على أحباب الله من جميع جهات الإيمان، سأقول إنّها جثّة الوالدة. والوالدة، هنا، هي أمّنا الأرض. وخالتنا من تكون؟! من غير السّماء؟!

وهكذا (وبالحجر نفسه)، يشغل الغربُ العالمَ الإسلاميّ (ويشعله) بقضيّة فلسطين، ولا سيّما القدس الشّريف، لا لإلهائه فقط عن التّوسّع نحو أوروبّا خصوصًا والغرب عمومًا، مستنزفًا وقته وروحه وجسمه وماله وولده في الصّراع (جهادًا واستشهادًا)، بل ولإلهائه عن النّهوض بمجتمعاته حضاريًّا، للحيلولة دون استعادته لدور رياديّ لعبه المسلمون عمومًا، والعرب خصوصًا، على مستوى العالم، حتّى مطلع العصور الحديثة.

وبالمقابل، ثمّة من يرى أنّ الفلسطينيّ (أيضًا) أداةٌ بيد أدعياء العروبة والإسلام (الّذين بلعوا الطّعم كذلك) في لعبتهم/ تسليتهم مع أدعياء المسيحيّة، وتستمرّ اللّعبة. والسّؤال: إلى متى؟! إلى يوم الدّين؟!

وأخيرًا، كيف يُعقل أن حضارتَيْن عريقتَيْن، أو ديانتَيْن سماويّتَيْن (اليهوديّة والإسلام)، تتقاتلان سحابة مئة عام من تحت رأس حجر، ولا عقلاء في الطّرفَيْن (وفي العالم "الحر") ليصرخوا "كفاكم جنونًا"؟! وهل هذا الحجر، مهما تقدّس وتكرّس، أغلى من دمعة أمّ (فلسطينيّة كانت أم إسرائيليّة) على ابن تطحنه آلة حرب جهنّميّة كافرة بقيمة الحياة؟! وأيّ دين يقبل بذلك؟!

حرفيش، الجليل، 27 تمّوز (يوليو) 2009.

(*) تركي عامر، شاعر فلسطينيّ من "القارّة" العربيّة الثّمانيأربعينيّة.


.

التعليقات