جـولـة فـي نـصّ أدبـيّ مـن "كـتـاب الأدب الكـبـيـر" – لابـن الـمقـفّـع/ حـنـّا نـور الـحـاجّ

جـولـة فـي نـصّ أدبـيّ مـن

في هٰـذا النصّ المأخوذ من "كتاب الأدب الكبير"، يبدو التوجُّه الإصلاحيّ التربويّ الاجتماعيّ الذي عُرفت به مؤلّفات ابن المقفّع. هٰـذا التوجُّه البارز في مؤلّفاته هو ما يحمل بعضَهم على عدم التركُّز في الجانب الأدبيّ في كتابات هذا الأديب، والتعاطي معها باعتبارها دروسًا في الأخلاق والتعامل، دروسًا يبتغي مُلقيها عَبْرها أن يُدْلِيَ بدلوه في مضمار الإصلاح تربويًّا واجتماعيًّا، من منطلق الإيمان بأنّ للأدب دَوْرًا بالغ الأهمّـيّة في بناء مجتمع أفضل، والإيمان بأنّ الأدباء أقـْدَرُ مِن سِواهم على الإقناع، وبأنّ للإصلاح الفرديّ أهمّـيّة اجتماعيّة وجماعيّة، وذٰلك أنّ المجتمع مشكَّل من مجموع أفراد، ومن هنا فصلاح الفرد يُـفضي إلى صلاح المجتمع ، وصلاح المجتمَع من صلاح الأفراد.


 


الـبـذل أسـاس لـلعـلاقـات الاجـتمـاعيّـة


تسيطر على توجُّهه الإصلاحيّ التربويّ نزعةٌ مثاليّة. هٰـذه النزعة تلحّ على الكاتب وتطلّ في مستهلّ النصّ (إضافة إلى ظهورها في الفقرة الأخيرة)، حيث يحدّد دوائر علاقات الإنسان، ويحدّد ما ينبغي أن تقوم عليه كلّ من هٰـذه العلاقات. وهو يحدّدها ملتزمًا التدرُّج (وهذا ما يتناسب مع ما عُرِف عن أسلوب هذا الكاتب الذي يمتاز بِسِماتٍ تُدْنيهِ إلى الأسلوب العلميّ)، إذ يذكر أوّلاً أقربَ القريبين (أصدقاء المرء)، فالأقلّ قربًا (معارف المرء)، فالبعيدين (عامّة الناس)، ثمّ ينتهي إلى أبعد البعيدين (أعداء المرء):


"ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رِفدَك ومحضَرَك، وللعامّة بِشرَك وتحنُّنك، ولعدوّك عدلَك، واضُنن بدِينك وعِرضك عن كلّ أحد".


في كلّ من هـٰذه الدوائر التي يتناولها الكاتب، يبدو الطرح المثاليّ الذي يتبنّاه الكاتب ويدعو قارئَه إليه. في كلّ منها، أساس العلاقة هو العطاء بسخاء. على ما يبدو، الكاتب يرى في العطاء وجهًا آخر للأخذ (على غرار مَن يرى أنّ سعادة المرء في إسعاده للآخرين)، وذٰلك أنّ من شأن المعطِي أن يحظى بالتقدير ممّن يعطيهم وأن يبادلوه عطاء بعطاء.


علاقة الصداقة -كما يرى الكاتب- تقتضي السخاء غير المشروط وغير المحدود، إلى حدّ الاستعداد للتضحية بالروح وبالأملاك. قد يكون هٰـذا نابعًا من رؤيةٍ مُلخَّصُها أنّ الصديق هو توأم الروح، وأنّ الصداقة -إلى جانب كونها رابطًا وودًّا وانسجامًا وباعثًا على الارتياح وعلى الشعور بالحرّيّة- هي مسؤوليّة وعلاقة نادرة لا يفرَّط بها.


بعد الأصدقاء، هناك المعارف؛ وهـٰؤلاء أقلّ منزلةً أو معزّةً من أصدقاء الإنسان، لكن الواجب يحتّم عليه أن يكون معطاءً تجاههم وأن يَذكرهم بالخير في غيابهم (أو أن يكون معهم لطيفَ المعشَر فيستأنسون في حضوره).


أمّا عامّة الناس (وهم الدائرة الكبرى من بين هـٰذه الدوائر الأربع التي يحدّدها الكاتب)، فلا يستحقّون من المرء النفور والقسوة، بل الأجدر به أن يقابلهم ببشاشة، وأن يعاملهم بلطف وعطف ورحمة؛ فكَوْنهم ليسوا من دائرة المعارف ولا من دائرة الأصدقاء لا يُحِـلّ للمرء أن يكون كارهًا مُجافيًا لهم، نافرًا منهم، متجهّمَ الوجه، فهُمْ -أوّلاً وأخيرًا- إخوته في الإنسانيّة.


وأمّا في ما يتعلّق بالأعداء، فالعداوة لا تُحِلّ للمرء أن يكون تجاههم ظالمًا، ولا ينبغي لها أن تحمله على فعْل كلّ ما مِن شأنه أن يسبّب لهم الإيذاء والإضرار. يريد الكاتب للقارئ أن يكون منصفًا تجاه أعدائه، فلا يتآمر عليهم ولا يتحامل. على ما يبدو، ابن المقفّع يؤمن بأنّ على الإنسان أن يكون إنسانًا دومًا؛ لا ينبغي له أن يتخلّى عن إنسانيّته -حتّى مع أعدائه.


ويختتم الكاتب الفقرة الأولى المكثَّفة الموجِزة بالتذكير بقيمتين اثنتين، يرى أنّه ينبغي أن يُحرَص عليهما، فلا يساوَم فيهما؛ هما الدِّين والشرف. وهو يرى أنّ على المرء أن يصونهما من أيّ مسٍّ بهما من أيّ طرف كان -سواءٌ في ذٰلك الأعداءُ والعامّة والمعارف والأصدقاء.


 


رذيـلـة خُـلـقـيّـة


في الفقرة الثانية، يتناول الكاتب رذيلة سلوكيّة يبدو أنّ شدّة تفشّيها في عصره (كما يشير هو نفسه إلى ذٰلك بقوله: "وهـٰذا من سوء الأدب الفاشي في الناس") هي التي تدفعه إلى ذِكْرها وتناولها بالتحليل القصير المكثَّف، وربّما كان شيوعها أكثر بروزًا بين فئات أهل الكتابة والثقافة، وأكثرَ عيبًا. تلك هي رذيلة انتحال الكلام والأفكار والآراء، التي يُدْرجها ضمن أصول مخالَـقـَة المرء لأصحابه (معاشرته لهم بخُلق حسَن).


في هـٰذا التناول، أشار الكاتب إلى مدى انتشار هـٰذه الرذيلة الخلقيّة -كما أسلفنا الذكْر-، وإلى دوافع ممارستها، وإلى تأثيرها الهدّام في العلاقات الإنسانيّة، وإلى التصرّف الأمثل مع المنتحِـل. الدافع المباشر الأوّليّ إلى الانتحال هو إعجاب المنتحِل بما يسمعه من كلام أو رأي، والدافع الأعمق هو رغبته في أن يحظى بإعجاب الناس، إذ قد يجعله ما ينتحله من كلام أو أفكار أو آراء معجِبة أو ظريفة أو عميقة ومثيرة للاهتمام، قد يجعله يظهر أمامهم بمظهر العارف الفاهم المطّلع المُلِمّ البليغ الذوّاق.


أمّا الأثر السيّئ الذي تخلّفه هـٰذه الرذيلة (التي يبدو أنّها كانت آنذاك قد تحوّلت إلى ما يشبه الظاهرة فلفتت انتباه الكاتب واهتمامه)، فيتمثّل في أمرين اثنين: أوّلهما أنّه يثير في نفس المنتحَـل استياءً من المنتحِـل وبغضًا وغضبًا؛ وثانيهما أنّه يسبِّب للمنتحِـل عارًا يَلحق به فيُلحِق به تشوُّهًا في صورته أمام الناس (وربّما كان مَرَدّ ذٰلك إلى ما في الانتحال من ادّعاء وكذب وتزوير).


ويشير الكاتب في هـٰذا السياق إلى أشدّ حالات الانتحال تطرّفًا، وهي تلك التي فيها يجري الانتحال بحضور المنتحَـل، ويعتبر مثل هـٰذا السلوك المتطرّف مزيجًا من الظلم والصفاقة.


وفي ختام هـٰذه الفقرة (الثانية)، نجد النـزعة المثاليّة تسيطر ثانيةً على الكاتب، إذ يطلب إلى قارئه أن يتحلّى بالسخاء والتسامح والتساهل حين يكون هو في وضعيّة المنتحَـل، وألاّ يقابل الانتحال بمثيله، بل بإحقاق الحقّ عَبْر تجنّب الانتحال كلّـيًّا، والتنويه بصاحب الرأي الذي أعجبه (أو الكلام الذي أعجبه) ونـقله إلى السامعين في قالبٍ كلاميٍّ جميلٍ معجِبٍ قدر المستطاع، معتبِرًا (الكاتب) أنّ صياغةَ هـٰذا الرأي أو هـٰذا الكلام صياغةً تفوق الصياغة الأصليّة جمالاً هي نبل أخلاقيّ منه، إذ ينطوي على جودٍ تجاه أصحابه (أصحاب الرأي أو الكلام). وقبلذاك، في الفقرة نفسها، كان الكاتب -جريًا على مثاليّته التي سيطرت على نزعته الإصلاحيّة التربويّة- قد دعا قارئه إلى تخيُّرِ الصواب ممّا يسمعه، وعدمِ ضرورة توخّي التدقيق في الاستشهاد بالكلام حين يُراد أن يُنسب إلى قائله، إن كان المستشهِد بهـٰذا الكلام قادرًا على صياغته على نحوٍ أجمل وأجْوَد. هـٰذا ما يدفعنا إلى الميل إلى الظنّ أنّ الانتحال الذي يقصده الكاتب أكثر من سواه هو ما كان منه شائعًا بين أهل الكتابة والأدب، إذ إنّ هٰؤلاء أقْدَرُ من سِواهم على إعادة صياغة ما يسمعونه على نحوٍ أبهى وأشهى وأكثرَ جاذبيّةً.


 


رذيـلـة أخـرى


في الفقرة الثالثة، يتناول ابن المقفّع في عُجالةٍ سلوكًا آخر يعتبره سلوكًا رذيلاً، يتمثّل في مشارَكة المحدِّث في حديث يعرفه المشارِك. يريد الكاتب لقارئه ألاّ يُوقِع نفسه في دائرة المُدان اجتماعيًّا، إذ إنّ حرصه على الظهور بمظهر العارف المدرك المطّلِع في مثل هـٰذه الحالة لن يخدمه في شيء أو لن يعود عليه بأيّ فائدة، بل سيجعله يبدو في عيون الحاضرين المستمعين طائشًا، شحيحًا، سيّئًا خُلقًا، ناقصًا عقلاً. مثل هذا السلوك يوتّر العلاقة بين الأصحاب، إذ يقطع على المتحدّث متعة التحدّث وعلى السامعين متعة الإصغاء. من هنا تبدو خسارة المشارِك/ المُقاطِع خسارةً مضاعَفةً، إذ يسبّب الإزعاج لكلّ من المتحدّث والسامع.


 


الـصـداقـة والـعـداوة - ثـانيـةً


في الفقرة الرابعة، يعود إلى تناول الصداقة والعداوة ثانيةً (فكتابه "كتاب الأدب الكبير" يتناول في ما يقارب نصف ما فيه موضوع الصداقة وما يتعلّق بها)، مقتبِسًا قولاً لأحد حكماء الفرس -على ما اعتاد عليه ابن المقفّع (الفارسيّ) في مقتبساته، حتّى إنّه رُمِيَ بالشعوبيّة نتيجة هـٰذا-، مذكِّرًا من خلاله بالفرق بين الصداقة والعداوة من حيث الغاية (والغاية بمعنى المدى أو المنتهى والفائدة المقصودة)، إذ يرى أنّ الصداقة تقتضي التغاضي والتسامح بين طرفيها لتحقيق الرضى المتبادل، وذٰلك أنّ الرضى في حالة الصداقة هو الغاية أو المقصد. مقابل ذٰلك، وبخلافه، ولأنّه من غير المستطاع أو من غير المراد أن يُرضي المرءُ عدوَّه، فتحقيق العدل في حالة العداوة هو البديل عن الرضى؛ أمّا مع الصديق فتوخّي العدل قد يهدّم الصداقة. الصديق لا يحاسِب ولا يحاسَب، وبغية المحافظة عليه من الواجب أن يُتغاضى عن بعض ما يصدر عنه من زلاّت.


نـمـوذج مـثـالـيّ


في الفقرة الأخيرة، يأتي الكاتب بنموذج مثاليّ لصديق لا يُدرَى ما إذا كان شخصيّةً حقيقيّة تربطها بالكاتب علاقةُ صداقة، أم شخصيّةً ركّبها ابنُ المقفّع أو تمنّياتُهُ. وتلك بعض خصاله أو فضائله: قنوع؛ واقعيّ؛ لا يجادل ولا يشهد إلاّ إزاء قضاة عادلين وشهود عادلين؛ متفهّم (غير متسرّع في توجيه اللوم)؛ متّزن غير شكّاء؛ متسامح؛ حذر تجاه الأعداء؛ مُضَحٍّ ناءٍ عن الأَثَرة... (حُذف من هـٰذه الفضائل بعضُ ما وردَ في الأصل).


        ويُنهي الكاتب كلامه هنا بتحفيزه القارئ على الإقبال على التحلّي بتلك الخصال الطيّبة التي أوردها ونَسَبَها إلى ذاك الصديق، منبّهًا إلى استحالة أن يتحلّى المرء بكلّ هـٰذه الفضائل، مُثْبِتًا بهـٰذا أنّ ما قام بتصويره من خلال هـٰذا الصديق المتخيَّل هو حالة نموذجيّة مثاليّة يصبو إليها الكاتب ويبتغي تحبيب القارئ بها وتقريبه إليها، ويرى أنّ التحـلّي ببعض تلك الخصال أفضل من التخـلّي عن جميعها. وفي هـٰذا الرأي الذي يختتم ابن المقفّع كلامه به، يقرن مثاليّته بتوجُّهٍ واقعيّ. واقعيّة الكاتب تتبدّى هنا في إدراكه محدوديّة الإنسان وضعفه المتأصّل أو استحالته أن يتحوّل إلى ملاك.


        في الجملة الأخيرة المختصرة ("وبالله التوفيق")، يؤكّد أنّ على المرء أن يقوم بواجبه تجاه نفسه وتجاه مجتمعه في السعي إلى التخلُّق بتلك الفضائل التي أوردها، ومن ثَمّ أن يعتمد على الخالق في هـٰذا الشأن وفي كلّ شأن. بذٰلك يتحقّق التوفُّق للعباد.


hajhanna@gmail.com


 


ملاحظة: تننشر هذه المواد أيضا في موقع مدرسة مار إلياس الثانويّة في عبلّين: www.mechs.org

التعليقات