تركي عامر بين الآلة والإبداع / نور عامر

تركي عامر بين الآلة والإبداع  / نور عامر
لا أحد من الأدباء إلا ويطمح أن يكون مقروؤه ملفتا، وفي هذه المسألة استطاع الشاعر المبدع تركي عامر أن يحصد نجاحا جيدا، فقد قدّم من فنه وعصارة فكره المئات من النماذج الشعرية، وعلى مدار سنوات طوال. حقيقة قلّما حظيتُ بندوة أدبية شارك فيها تركي إلا وكان محط إهتمام الجمهور، بحداثة أشعاره، وطريقة إلقائه المميزة تحث على الإصغاء والإعجاب. وهذه إحدى المقومات اللازمة للقصيدة المسموعة والمقروءة، أن تشد الإنتباه وتحرك الشعور، وإلا ما معنى أن نصاب بالضجر؛ فتسقط القصيدة تلقائيا بدون نقد وبدون تفاصيل .

ليست كل أشعار تركي تنسحب عليها صفة الإبداع، وهذا حال الشعراء على مر الزمن ليسوا دائما بمنأى عن الأرض اليباب. ومع ذلك لا أزعم أنني التقيت بقصيدة لتركي قد سقطت، إنما هو شيطان الشعر يترنح هنا أو هناك، كما في قصيدة "فسد الصيام" كمثال، يقصد صيام العرب عن التوحد والنضال. وقد امتلأت أوراقنا بمثل هذا الطرح؛ إذا لا جديد ! .

بينما ـــ كمثال أيضا ـــ وثب شيطان الشعر وثبة رائعة في قصيدة "رأيت الروح" ألفاظ حرة طليقة نتفاعل معها ذهنا وحسا، القاها في مناسبة ثقافية في الجليل .

أمّا النقطة التي تشغلني في هذا السياق، إحساس يراودني في بعض أشعار تركي، وكأنني أسمع رجلا آليا يتحدث إليّ، وليس كيانا تحركه العاطفة والروح، وقد أطل عليّ هذا "الرجل" آخر مرّة من كوّة "أبالسة السماء"، وهي قصيدة طويلة لتركي، أطول من معلقة زهير، أربعة وسبعون بيتا من البحر الوافر، وهي مكرسة للغة العربية، وما في اللغة من ثراء وجوهر. وإن كان من صفات المعلقة طول الأبيات وتعدد الأغراض، فقصيدة تركي تتمتع بالطول والوحدة العضوية، لذلك يجوز أن نسمّيها نصف معلقة، ويمكن أن نخرج عن القانون ــ راغبين ــ ونعتبرها معلقة .

هذه المعلقة من ناحية لغوية وعروض سليمة بامتياز، وهذا هو الجزء الإبداعي فيها، باعتبار أن من شروط الإبداع إجادة اللغة، أمّا باقي الأجزاء باستثناء بعض الأبيات فهي شبه جافة خالية من الإحساس؛ حتى لتخال وكأن آلة معدنية ترن في دماغك وتأمرك بالقبول!. ولا تجد سبيلا للرفض لأننا بحاجة لمن يهتم باللغة، في مناخ تفشي الأخطاء أدبا وإعلاما. بيد أنني تمنيت لو أجد في هذه القصيدة طفرة تغني عن جيوش الكلام، كما فعل حافظ إبراهيم في رائعته عن اللغة.

" أنا البحر في أحشائه الدّر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاته "

فاروق شوشة كان يستخدم هذا البيت في مستهل برنامجه الإذاعي "لغتنا الجميلة" .

هذا البيت لوحده يختزل ربما كل ما قيل في اللغة، وهو لجماله وعمقه وتأثيره في النفس، يحفز على الحفظ، ويتلذذ به سماعا حتى من لا يعرف اللغة. لي صديق في العقبه "عمر بدير" يملك قاربا بسيطا للصيد، وقد كتب هذا البيت على قاربه بيد خطّاط، علما أن ذلك الصديق ثقافته محدودة ولا يعرف ما يعنيه البيت .

هذا هو السر الذي يكمن في الشعر؛ لذلك نرى شعرا يعيش ويفرّخ، وشعرا يعتمد في بقائه على الحظ !

ومع ذلك ليست ملاحظاتي انتقاصا لقصيدة تركي عامر، إنما هي الموضوعية في النقد تستدعي توضيح ما للشاعر وما عليه. وانني أقدر الجهد الذي بذله في هذه القصيدة التي تحقق ولا شك فائدة في إطار تعاملنا مع اللغة .

ناقد وقاص – الجليل

.

التعليقات