( جرائم الشرف): اختبار ما تبقّى لنا من وعي! إبراهيم نصر الله 5/23/2010

( جرائم الشرف): اختبار ما تبقّى لنا من وعي! 
إبراهيم نصر الله

5/23/2010
لم تزل هناك قضايا كثيرةٌ نتحاشى الاقترابَ منها، وقضية المرأةِ واحدةٌ منها، ولأعترف هنا أن الكتابة العربية لم تزل غارقةً في ( الوطني) إلى حدٍّ بعيد، الوطنيِّ الذي يعيش على حساب الإنسانيّ، وهذا الخطاب في الحقيقة، هو الخطاب السياسي الرّسمي العربي، الذي عاشت عليه الأنظمة، لكي تجد مبرراً لسحق الإنسانيِّ وتهميشه، باعتبار: ( أن لا صوت يعلو على صوت المعركة)، ومن المفارقات أن هذا الخطاب تسلّل بوعي أو دون وعي إلى الخطاب الثقافي، وبذلك تمَّ تهميش الإنساني في هذا الخطاب، وربما من هذه النقطة بالذات تأتي هزيمةُ الوطنيّ واستمرارُ شقاء الإنساني معاً.
***
لنتحدثْ ببساطةٍ، رغم أن البساطة دائما هي الأصعب. ولنحاول معًا رسمَ صورةٍ، أو مشهدٍ تراجيديٍّ واسعٍ، كي نستطيع أن نتخيلَ أن هناك مذبحة سنوية، تتكررُ في هذا العالم، وتمرُّ، بما يشبه الصمت، أو التواطؤ، مذبحةً سنويةً عدد ضحاياها المؤكد هو خمسة آلاف امرأة.
هناك الآن، خمسة آلاف حكايةٍ تطوف في الهواء، خمسة آلاف روحٍ تتمنّى أن تنجو، خمسة آلاف روايةٍ لم يقرأها أحد!
مذبحة تتكرّر، وتتّسع، وعلى هامشها، هناك، عشراتُ المذابح غير المعلنة، مذابح يغمرها صمتٌ كاملٌ وليلٌ أشدُّ حلْكة من الدم.
لكن النتيجة الأخيرة تقول، ليس هناك ما يكفي من حناجرَ لإطلاق تلك الصرخةِ الغاليةِ العاليةِ التي يتمُّ استئصالهُا يوما بعد آخر من كينونة هذا الكائن الأغرب، صرخة: لا. في عالم يبتلع فيه البشر حناجرهم كما يبتلعون إهاناتِهم وسَحْقَهم والتطاولَ على إنسانيتهم بكل ما اخترعه الموتُ من أشكال.
إن موعدَنا السنويَّ المعلن، بصلفٍ، مع خمسة آلاف جثة، اختبارٌ لما تبقّى فينا من أفئدة، واختبارٌ لما تبقى فينا من عقل، قبل أن ننحدر تمامًا إلى صفِّ القتلة بهذا التواطؤ الرّهيب الذي يلف قضية كبرى كهذه.
إن مقتل امرأةٍ أو فتاةٍ واحدةٍ، ارتفعتْ في الحب، ولا أقول وقعتْ في الحب، كفيل بأن يعيد ترتيب كتاباتنا وأحلامنا وحقيقة وجودنا، وكفيل بأن يدفعنا إلى إعادةِ حساباتِنا والنظرِ إلى موقع أرجُلِنا ورؤوسِنا، إن بقي لنا رؤوس! لكي لا نكون في صفِّ القتلةِ ومن يحرسون القتلةَ ومن يمهـِّدون لهم الدروب لارتكاب جرائمهم.
لستُ على قناعة من أننا نعاني من شلل عام في الضمير، تجاه هذه القضية، وتجاه كلِّ ما يَمَسُّنا من قضايا كثيرة؛ لستُ على قناعة من أننا لا نستطيع أن نُغيِّر، وأن نُعيد الاستقامةَ لعنقِ تاريخنا الرُّوحيِّ المعوجّ، المثقلِ بقلادةٍ ثقيلةٍ من الهزائم واليأس والتواطؤ والصمت، القلادةِ الأكثر إحكامًا من أيّ حبل مشنقة يمكن أن يلتفَّ على عنق.
لقد كانت الثقافة العربية دائما هي أنصعُ وجهٍ لروحِنا إذ تتجلّى، وحُلمنا إذ يخضرّ، وغضبِنا إذ نتألم، وحنيننا إذ نشتاق؛ ولكنها، وأنا أتحدث عن نفسي، قبل سواي، ما زالت تتلعثم أمام كثير من القضايا التي وضعها المجتمع تحتَ مظلته، وأحكمَ هذه المظلَّةَ عليها، كخيمة جهنميّة، وتركنا خارجها مجرد متابعين منوَّمين لمسلسل القتل الذي نتابعُ حلقاتِه التي لا تنتهي، هنا وهناك وما بعد الهناك. هذا المجتمعُ الذي يثبت لنا بجبروته الخفيِّ / المُعلن، بأنه أقوى من الدّولة وأقوى من العلم وأقوى من التنوير وأقوى من الرّحمة وأقوى من الدِّين أيضًا.
في هذا العالم الضيِّق، هناك امرأةٌ تقتل كلَّ ساعة ونصف الساعة، إما لأنها أحبت وإما لأنها عاشت حبـَّها، وإما لأن قتَلَتَها اعتقدوا ذلك؛ وإما لأن لهم مصلحةً مباشرةً لاقتيادِ براءتها نحو الفضيحة، وتكفينها بالعار كي يحققوا مآرب خاصة لا علاقة لها بالشرف أبدًا، كي ينعموا بحِصَّتها من الهواء وحِصَّتها من التراب.
لم تُكتبْ هذه الرواية لكي تقول شيئًا في جريمة تحدث هنا فقط، بل لتقولَ كلمتها في كلِّ جريمة تُرتكب في كلِّ هناك.
لقد كان شبهُ هروبِنا من الكتابة عن موضوع كهذا، على المستوى الأدبي، هو إلصاق لهذا النوع من الجرائم بنا، دون أن ندري، لأن الصّمت لم يكن، ولا يمكن أن يكون، مرافعتَنا ضد كلِّ أحكامِ الموت الطَّليقة هذه..
منذ صدور الرواية، تلقيت الكثير من ردود الفعل، ومن أماكنَ مختلفةٍ في عالمنا العربيِّ وخارجِهِ، وقد لفت انتباهي أن هناك حسًّا عميقًا بالذّنب يغمر الجميع، بل لم يتردد أحدُ القراء في وصفه لهذا الصمت أمام جرائم كهذه، بأنه إقرارٌ جمعيٌّ بالقبول، سواءً بالتستر أو بتغيير الموضوع باتجاه مشكلة أكثرَ صخبا، أو عمومية، أو وطنية، للتعاطف معها، لكي نتخفّف من إحساسنا بكل ذلك العار الذي يجلِّلُنا ونحن نتغاضى عمّـا يسمى ( جرائم الشرف)، باعتبارها قضية تأتي في المرتبة العاشرة بعد قضايانا الكبرى التي نخذلها أيضًا.
يبدو أن ما يحتاجُهُ الإنسانُ العربيّ في واقعٍ محتشد بالأعداء، هو أن يفتح بابه صباحا بروح غير عادية، وإذا ما سألته امرأته أو طفلته أو أمه أو أخته أو حبيبته، إلى أين أنت ذاهب؟ يجيبها: أنا ذاهب لأُقاتل نفسي! ولأنتصر على كلِّ ما فيها من صدأ؛ ذاهبٌ لقتال قلبي، وكلَّ ما عليه من ركام؛ ذاهبٌ لقتال وعيي وكلَّ ما أُثقِل به من تغييب؛ وذاهبٌ لقتالِ روحي التي لم تعد تعرف طريقها إليّ.
وبعد:
ثمة ما يكفي من دماء تدقّ أبوابَنا لكي نصحو، وغيابَنا كي نعود.

________________________

* كلمة الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله في الندوة التي أقيمت لمناقشة روايته الأخيرة 'شرفة العار' في منتدى الرواد الكبار في عمّان.

.

التعليقات