رشاد أبو شاور*../ د.حسن حميد*

-

رشاد أبو شاور*../ د.حسن حميد*
هاهي ذي الفرصة تقع بين يديَّ مثل تفاحة ذهبية ملأى بالألوان والطعوم والبريق والدهشة والأسرار، كي أكتب عن واحد من أفذاذ الكتابة القصصية في مدونة السرد الفلسطينية اسمه الحركي أبو الطيب واسمه الكامل رشاد أبو شاور، ذلك لأن الحركي والكامل يتداخلان إلى حد التماهي مثلما يتداخل الفدائي والسارد، وابن القواعد.. الترابي الخشن وابن القراطيس والفنون .. الوضاء الناعم في آن معاً.

أذكر أنني ذهبت إليه برفقة اثنين من الكتّاب الفلسطينيين، كانا سابقين عليَّ في التجربة (كتابةً)، والمعروفية (شهرةً) في أوساط المشهد الثقافي الفلسطيني بوصفهما كاتبي قصة قصيرة لهما انتماؤهما الفصائلي داخل م. ت. ف، هذان الكاتبان هما، الأول: أحمد سعيد نجم الذي عرفته عن قرب من خلال خدمة العلم التي عشنا دوراتها التدريبية الأولى معاً مع رهط من خريجي الجامعات والمثقفين الفلسطينيين، والثاني: أحمد السرساوي الذي عرفته صحفياً في مجلة الحرية الأسبوعية الفلسطينية بعدما جاء إليها قادماً من جريدة البعث السورية بعد تمرس ومهنية عمرها سنوات..

ذهبنا، ثلاثتنا إلى بيت رشاد أبو شاور في مخيم اليرموك، وكان الوقت مساء، وقد تهيبت اللقاء كثيراً، فرشاد أبو شاور آنذاك غول ثقافية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من حضور، وسطوة، وجمالية.. ذلك لأن ما من مطبوعة فلسطينية، أو مجلة، وما من كتاب فلسطيني يصدر هنا أو هناك.. إلا وكان رشاد أبو شاور حاضراً وبقوة أدبية تكاد أنفاسها الوطنية تخترم الأسطر والصفحات نشوراً وموجودية.. وقد كان المهبط الأخير لكل تلك المطبوعات المخيم. بعضها كان له الطابع السري، وبعضها الآخر كان له الطابع العلني.. لكنهما وبعد ساعة من الزمن تصبح كل فاصلة فيهما علانية العلن، فالمخيم كائن مكاني واجتماعي لا شيء فيه يتوارى.. حتى الأحزان.. ولكم كنا نحن الأطفال، نضحك ملء رؤوسنا بعد أن تصبح الأمور والأسرار والأقوال علانية يعرفها حتى برغش المخيم، فقد كنا نأخذ الصحف والمجلات والمنشورات الفلسطينية تحت ثيابنا لصقاً على جلودنا، ممن هم أكبر منا في العمر والتجربة فننقلها إلى آخرين كي لا يتهم الكبار بأنهم ينقلون المنشورات والصحف والأدبيات الفلسطينية، أي كي لا يتهم أحد منهم بأنه منظم وله صفة ما في تنظيم فلسطيني ما أيضاً.. نضحك ملء رؤوسنا لأننا وبعد ساعة نرى ما كنا حريصين عليه سرانيةً لصقاً على جلودنا.. قد صار في دكاكين المخيم تشققه الأيدي الجافة وتصرّ به الحاجيات.. نضحك من ذلك الحرص الشديد الذي يبديه الكبار حين نأخذ منهم تلك المنشورات.. إذ لا شيء يملأ آذاننا، لحظتئذٍ، سوى كلمات مثل: إياك، انتبه، احرص..

أقول ذهبنا، نحن الثلاثة، إلى رشاد أبو شاور في المخيم، بعد أن تواعدنا.. وبعد أن تقيفنا، أو لعلي أنا الوحيد الذي تقيفت لأنني أجئ إلى مخيم اليرموك من مخيم جرمانا، وهو مخيم صغير، يشبه قرية صغيرة ملأى بالبشر والحركة والأسئلة واللوبان.. بينما مخيم اليرموك يشبه مدينة مترامية الأطراف.. ولأن أبناء القرى يتقيفون استعداداً للذهاب إلى المدينة.. فإنني تقيفت.. لكن قيافتي لم تستر دقات قلبي الضاربة بقوة أكبر كلما اقتربنا من بيت رشاد أبو شاور.. أخذتنا أزقة المخيم الضيقة إليها، فرحنا نمشي وراء بعضنا، والأحاديث تلفنا.. أحمد سعيد نجم يقول أنا متأكد أنه هنا، لقد رأيته البارحة، وهو في العادة، لا يغادر البيت مساء، إنه في إجازة كي يرى أم الطيب والأولاد والأصدقاء. فيهمهم أحمد السرساوي ساخراً كعادته: ومن يستطيع ضبط حركات الفلسطيني، الملائكة رضوان الله عليهم أجمعين لا يستطيعون ذلك. فأقول مشاركاً في الحديث: فعلاً، يكاد الفلسطيني يكون معادلة رياضية أو كيميائية. فيضحك الاثنان ويهزان رأسيهما.. كأنهما يقولان: الفلسطيني أكثر من ذلك. ونصل إلى البيت، باب اكتظ طوله الخشبي بكتابات طفلية ورسوم لا تخلو من المفارقات والدهشة..

ضغط نجم جرس الباب، وتراجع نحونا خطوة إلى الوراء، وانتظرنا أحداً ما يفتح الباب. لكن لا أحد يطل. قال السرساوي سائلاً: هل ضغطت الجرس؟ فقال نجم: نعم. قال: وهل يترك أولاد المخيم جرساً قابلاً للرنين.. لقد أخذوا رنينه ومن مرة واحدة، وتقدم نحو الباب وراح يقرعه بقوة.. لحظات وأطل رجل طفح الوجه، طويل الشعر، جبهته الوسيعة تشع مثل قمر، له صدر عريض مثل جذع سنديانه، وحاجبان كثيفان، وعينان تقدحان شرراً، إنه رشاد أبو شاور الذي أعرفه في الصورة.. وشع وجهه، حين رآنا، وأضاء بابتسامته المشرقة.. وأخذنا بيده الممدودة نحونا.. إلى صدره واحداً واحداً.. في عناق لم تفارقني حرارته حتى يومي هذا.. إنه رجل يُسلّم عليك بكامل مودته..

وجلسنا حول مجلسه، قرب طبق فوقه صحون فيها زيتون، وزيت، وزعتر، ولبن، وإلى جوارها إبريق الشاي، وأرغفة الخبز.. يا إلهي كم هي أنيسة هذه الجلسة! وكم أحلم بمثلها الآن!. وما إن أخذنا المكان إليه حتى دعانا رشاد أبو شاور إلى الطعام.. فشكرناه، لكنه أصر، فشاركناه الطعام، ونادى أم الطيب، فأطلت علينا مثل زغرودة، يا للنساء الفلسطينيات.. ما أجمل طلتهن، وقال لها: نطلب منك يا سيدتي، وباسم الثقافة الفلسطينية، المزيد من الكاسات، والنعناع، والخبز.. فقالت: حاضر.

بدت ابتسامة أم الطيب الوسيعة كأنها ابتسامة منقولة بمهارة وحذق عن ابتسامة أبي الطيب، أو لكأن ابتسامته الوسيعة هي المنقولة بمهارة وحذق عن ابتسامة أم الطيب المضيئة.. بلى الأزواج يتشابهون أكثر من الإخوة أحياناً. ورحنا نتبادل الحديث.. حدثنا الفدائي رشاد أبو شاور عن القواعد الفدائية، عن صباحات الفدائيين ومساءاتهم، عن مشاغلهم وهواجسهم ومخاوفهم.. وعزلتهم كالوحوش في الأودية والمغر والكهوف ورؤوس الجبال من أجل العزيزة فلسطين.. عن أحلامهم البعيدة والدانية، عن استحضارهم الحزين والموجع لأسرهم، وأولادهم، وأيام الدراسة، عن فرحهم بالرسائل، عن أفراحهم الصغيرة عامة، عن الفقد.. هذا الهجس الرهيب الذي يشيع في جميع القواعد الفدائية.. الفقد الذي يأخذهم واحداً واحداً إلى الأسر والغياب مرة، وإلى الشهادة مرات ومرات، ويحدثنا أيضاً عن قراءاتهم والكتب التي تدور بين أيديهم مداورةً، وعن الدورات التعليمية والتثقيفية التي يعيشونها يومياً في المساءات، وعن هوس الفدائيين بتعلم اللغات الأجنبية عن طريق الطلبة الفلسطينيين القادمين إليهم من البلاد الأجنبية..

حدثنا عن الوحدة الإنسانية التي يقيمها السوريون، والعراقيون، والتوانسة، والأردنيون، والمغاربة، والجزائريون، والأكراد، والأرمن، والتركمان، واليابانيون.. داخل القواعد الفدائية.. عن زيارة الوفود الأجنبية.. والنساء السلافيات الطوال مثل عيدان القصب.. والمقارنات الضاحكة من بين شعر بعض الفدائيين أصحاب الشعر الأجعد وسمرتهم الداكنة.. وشعر هؤلاء النساء الشقراوات وبياضهن المشرق كالصباحات.. ثم يحدثنا رشاد أبو شاور الأديب عن الكتب، والقصص، والروايات، والترجمة، ويسألنا عن قراءاتنا الأخيرة، وهل وصل لأيدينا كتاب فلان وفلان وفلانة..

ثم يميل بنا نحو الحوارات الساخنة على صفحات مجلات: الهدف، وفلسطين الثورة، والقاعدة، وإلى الأمام، والحرية.. وما تصدره دور النشر اللبنانية من كتب مثل دار العودة، وابن رشد، والفارابي، والآداب، وابن خلدون،.. عندئذٍ نحار بهذا الاجتماع المدهش للفدائي والأديب في شخص رشاد أبو شاور..

الآن، أعترف أنني من النادر أن ألتقي بأحد يتحدث بكامل حواسه، وبكامل حرارته وتوهجه مثل رشاد أبو شاور، رجل يشبه الفلاحين، والعمال، والأمهات، والنهارات.. بوضوحه، وجديته، وحرارته، وعاطفته.. فهو صاحب الأسطر المشفوعة بابتسامته البيضاء، وصاحب العينين اللتين تقبضان عليك وأنت في تمام الرضا والتسليم، وصاحب المقدرة الحكائية المحتشدة بالدهشة والخيال. سحرني رشاد أبو شاور منذ اللقاء الأول.. ولا سيما أن الممالحة كانت زيتوناً وزعتراً وخبزاً وشاياً بالنعناع..

وانتبه رشاد أبو شاور فجأة، وكأنه استشعر خطراً، وقال: أنا مشتاق للحكي.. من زمان ما حكيت، مشتاق لكم ولرؤيتكم، لهذا سامحوني، وهاتوا أخبروني ما لديكم.. ومن هذا الشاب الأسمراني.. وأشار إليَّ. قال السرساوي: أنت تعرف نحن بشوق إليك دائماً. نحاول الكتابة. أنا أكتب في الحرية، ونجم يكتب في الهدف. نقرأ ونحزن.. وآخر الليل نحلم مثل باقي خلق الله. وحين صمت، قال نجم وهو يشير إليَّ: هذا صديق العسكرية، حسن حميد من مخيم جرمانا، لاجئ مثلنا طبعاً (ويضحك نجم ضحكته الموسيقية) هو من الجليل، من قرية بجانب جسر بنات يعقوب.. يقول إن أهله عملوا سقائين للأرض، يحملون الماء من نهر الأردن إلى الأراضي البعيدة، وقد أدركته حرفة الأدب، هو طالب جامعة، يدرس الفلسفة، ويكتب القصة القصيرة.

كان رشاد أبو شاور يستمع ويهز رأسه ويبتسم، وكنت غارقاً في خجلي، فأي فضيحة يسوقها نجم حين يقول له: إنني أكتب القصة القصيرة.. ونحن في عرين القاص الذي تجاوره مكتبة خشبية عالية الأرفف.. تحتشد فيها الكتب مثلما كنا نحتشد صغاراً في مدارس وكالة الغوث.. كل أربعة أو خمسة طلاب في مقعد واحد.. وامتدّ بنا الوقت، وبدأ الخجل يتبدد رويداً رويداً لتحل في محله جسارة أوجدتها مودة رشاد أبو شاور.. وكان أن وصلت بي الجسارة تحت إلحاح الصديقين (نجم، والسرساوي) وتشجيع رشاد أبو شاور.. إلى أن أخرجت قصة ورحت أقرؤها على مسامع رشاد أبو شاور، يا للجرأة العجيبة، ويا للجسارة العجيبة أيضاً.. لكنه هو الأستاذ والمعلم يطلب مني ذلك، وهو الذي يحملني على حصان شجاعتي كي أقرأ القصة.. وقرأت قصة من صفحتين تتحدث عن لحظة حب عاصفة، فيها جراح، وحزن، وفقد،وألم، وأذى روحي..

وحين انتهيت قال رشاد أبو شاور بعد أن نظر ملياً إلى وجهي الذي تحول كله إلى عيون: عال واللهِ ممتاز. هذه موهبة أدبية حقيقية. والله أنني فرح بك، ولكن يا عمي حسن أما كان لك أن تشير إلى أن هذه القصة حدثت في المخيم، أقصد أن تعلقها بالمخيم، أي أن تجعل لها نسباً فلسطينياً، يعني أما كان بمقدورك أن تجعل هذه البنت مرجانة.. فلسطينية.. ألا تتسامح معنا.. على الأقل (منشان) عمك رشاد!

وضحك، وضحكنا.. لحظتئذٍ.. شعرت كم الوطنية، والخصوصية، والفطرة هي من الدروس الذهبية لأي أديب صاحب قضية.. فرشاد أبو شاور يريد لأنفاسنا، وخطانا، ونظراتنا، وعاداتنا، وكتابتنا.. أن تكون علوقاً بفلسطين العزيزة، أن ندور حول فلسطين مثلما يدور الفراش حول الضوء.. أن تكون هي المدار ولا مدار لنا سواها. وخرجنا من بيته متأخرين، بعد أن تواعدنا على اللقاء الصباحي لأمر ضروري، وفي الباب قال لي غامزاً: يا عم حسن، (خلي) مرجانة فلسطينية (منشاني). فقلت بحياء شديد: حاضر.

وحين عدنا في الصباح نحن الثلاثة، وجدنا فراش رشاد أبو شاور ممدوداً إلى جوار طبق الطعام المسائي وقد غطّته صفحات الجريدة، فما كان منه إلا أن رفع الغطاء الورقي، ودعانا كي نأكل من الزيتون والزعتر والزيت.. وكي نشرب الشاي بالنعناع.. بلى، رشاد أبو شاور.. هو هو في الصباح والمساء، رجل ثبت لا يتغير إلا من أجل تصليب الوطنية..

منذ ذلك اللقاء، ظللت ورشاد أبو شاور ملازمة المريد للشيخ. أتابع أخباره، وأتعلم من كتابته، وأنهل من وطنيته ومحبته وغيرته تجاه التاريخ، والتراث، والحاضر، والمستقبل، وكان كيفما تطلعت إليه يبدو مثل الراية محلقاً في هواء رهوٍ له ظلّ طويل مديد.

ذلك كان أول لقاء لي به، أما كتاباته الأولى التي قرأتها فكانت منجمات تأخذ بها تلك المجلة أو تلك الصحيفة، في المجلات السورية واللبنانية ومجلات المقاومة الفلسطينية إلى أن وقعت بين يدي مجموعته القصصية التي عنوانها (بيت أخضر ذو سقف قرميدي)، فرحت أقرأ فيها حتى حفظتها غيباً.. ومنها انطلقت إلى مجموعاته القصصية الأخرى التي نشرها رشاد أبو شاور ومنها (مهر البراري) التي أعدّها من أهم المجموعات القصصية الفلسطينية معنى ومبنى ومغنى ومن أكثرها تأسيساً لنص قصصي فلسطيني له ذروتان: ذروة وطنية وذروة فنية.. لقد حلق رشاد أبو شاور في مجموعته (مهر البراري) إلى الحد الذي أثار حفيظة أدباء وكتاب كثر فلسطينيين وعرباً، ذلك لأن هذه المجموعة شكلت لهم تحدياً فنياً، ومعنى نضالياً فحواه كيف للمادة الإيديولوجية أن تتحول إلى فن راق..

رشاد أبو شاور قال للجميع عودوا إلى الطبيعة فهي النبع الذي يجعل من الأفكار الثقيلة مادة مستساغة من قبل الجميع، ثم عودوا إلى الفن الحقيقي واجدلوا منه إطاراً مناسباً، عندئذٍ لن يُقرأ النص بوصفه إيديولوجيا.. وإنما سيقرأ بوصفه موسيقى ورسماً ونحتاً وتصويراً وجمالاً لا يضاهى أو ينادد.

في مجموعته ( مهر البراري) تجلت قدرات رشاد أبو شاور، فبدا مثل بستاني عتيق حذق مهنة البستنة فأخذ إلى نصه القصصي ألواناً، وأرواحاً، وجماليات، ومهارات، وتقنيات، وغذّاها بالحكائية التي حباه الله بها.. فتجلّى نصه كالضوء وأبدى، لقد أخذ من يوسف إدريس شيئاً، ومن العم تشيخوف شيئاً، ومن زكريا تامر شيئاً، ومن توفيق يوسف عواد شيئاً أخر.. ثم جعل من كل هذا (الأخذ) عجينة.. راحت أصابعه، وروحه، وموهبته.. تلعب بها لعباً.. ومن هذه العجينة أبدع رشاد أبو شاور نصاً قصصياً لا يشبه النصوص أو التجارب التي قرأها.. لذلك فإن لنص رشاد أبو شاور خاصية أو دمغة متفردة، إنه نص رشاد أبو شاور وكفى.

إنه نص مشغول على نول الفطرة، والعفوية، والبساطة، والمفهومية، والموهبة، والوطنية الراعبة جمالياً.. هنا وقبل أن استطرد في تعداد مزايا نص رشاد أبو شاور.. سيقول القارئ الكريم ومن غير هذه المفردات يشكل النص الأدبي؟ والحق، أن المرء يحار بموهبة رشاد أبو شاور وهو ابن العشرينيات الذي لم يحقق صولات وجولات خارقة في التحصيل الأكاديمي.. يحار كيف قيض لهذه الموهبة أن تمتلك هذه الثقافة العارفة بأعماق الذات البشرية ومكنوناتها، ومعرفة النوازع والهواجس التي تعيشها حيناً، والتي تلفّها حيناً آخر... هذا ناهيك عن نظرته المبكرة إلى أن الفدائي (الذي رسم الشارعُ العربي له صورة السوبرمان) هو بشر من لحم ودم وحواس ومشاعر، إنه (في نص رشاد أبو شاور) يكره ويحب، ويعشق، فينجح ويخفق في آن، وأنه حاد شرس وطري لين كالنبات في آن معاً، إنه روح تذوب في مواضع الذوبان، وروح مشتعلة ناراً في مواضع الحماسة والإقدام.. بينما كانت نصوص الآخرين تبدي الفدائي على شكل صورة واحدة هي الصورة التي رسمها الشارع العربي للفدائي/البطل/ السوبرمان.

في مجموعته (مهر البراري ) قصص فيها قوة بناء تتمثل في معمارية حكائية نادرة المثال، وبساطة تشبه بساطة الماء وتعقيداته في آن، وجمالية مشتقة من فنون المسرح، والسينما، والموسيقى، والتصوير البهار، يضاف إلى ذلك تلك التقابليات المدهشة ما بين الثنائيات التي تموج مرجحة داخل النصوص وهي تبدي التناقضات.. وليس مثل التناقضات شيء يبدي تعددية الوجوه، والنفوس، والأصوات.. فالثنائيات في نصوص رشاد أبو شاور أشبه بالمرايا المتقابلة التي تبدي الجمال والقبح، والعلني والسراني، واليابس والطري، والناعم والخشن، والترابي والوردي، والجاف والخضيل. كما أنها تبدي التبادلية الموجعة ما بين الحضور والغياب، والحزن والفرح، والموت والحياة، والمكث والرحيل، والوطن والمنفى،.. وعدا عن كل هذا فإن رشاد أبو شاور تفطن وهو في العشرينيات من عمره إلى أن النص القصصي ليس حكاية، أو اجتماع أخبار وحسب، وإنما هو كتاب معرفة وثقافة، لذلك فإن أهم ما تمتاز به نصوصه القصصية أنها نصوص مثقلة بالمعرفة وناطقة بقوة الثقافة.. فالقارئ الذي يهمُّ بعبور نصوص رشاد أبو شاور القصصية.. هو غيره القارئ الذي ينفذ منها.. في النقطة الأولى أي قبل البدء بالقراءة هو كائن، وبعد عبوره للنصوص ومعرفتها وإدراك معانيها هو كائن آخر.. بعدما أضافت النصوص إليه الكثير أو غيّرت فيه الكثير أيضاً.

لهذا أقول بصراحة ووضوح، إن مجموعته القصصية (مهر البراري) تشكل المثلث الأهم فنياً في مدونة القصة القصيرة الفلسطينية الحديثة، وأعني بذلك: غسان كنفاني، وسميرة عزام، ورشاد أبو شاور. وأنا هنا أقفز عن مجموعة أستاذنا الكبير جبرا إبراهيم جبرا (عرق وقصص أخرى) التي شكلت نقلة نوعية في تاريخ القصة القصيرة العربية على الرغم من حظها النكد الذي غُمر بالفيض الروائي الذي انشغل به المعلم جبرا إبراهيم جبرا.

وأعود إلى رشاد أبو شاور، فأقول إن له سيرتين، الأولى: سيرة حياة فيها الكثير من الشظف، والقسوة، والتنقل، والترحال، والعزلة، والثانية: سيرة كتابية. فيها الكثير من الحفر المعرفي. وكلا السيرتين تحتاج إلى الكشف عنهما لما فيهما من معان ضافيات.

رشاد أبو شاور، في سيرته الأولى، قروي من قرية (ذكرين) الواقعة إلى الغرب من مدينة الخليل الفلسطينية، أهله أهل فلاحة وزراعة، وأهل انتظار للمواسم إن أقبلت الحياة، وإلا فالحياة أمنيات. والده أحد أبناء القرية المثقفين من دون أن يعرف القراءة والكتابة، انتسب إلى الأفكار التقدمية الآتية من البلاد (الموسكوفية)، فجعلها نبراساً له وبوصلة موجهة لخطاه. وعى ما يراد لفلسطين من احتلال واغتصاب، وما يراد لأهلها من تهجير وأذى، وما يراد للوطن العربي من تفكك وعزلة.. لذلك نشط في الدفاع عن الأفكار البلشفية وتحمل الأذيات التي لاحقته بسببها رشاد أبو شاور ولد بين ما يمكن تسميته مجازاً بالمنشورات والبيانات والصحف والقولات الثقافية، والرميات الفكرية، والكتب الثقيلة التي تحتوي على أفكار ماركس ولينين.. وغوركي وأنجلز.. وفي طفولته وعى حراك والده ونشاطه، وغيابه عن البيت، بعدما غابت أمه في حادثة مفجعة فقد التهمها دولاب الطاحون فشق جسدها نصفين، ولم يكن لها من جملة تقولها قبل رحيلها الأخير سوى: استروني، انكشف لحمي!..

ولم تمض سنوات فقط حتى عصفت الظروف بالوطن الفلسطيني.. فغادر رشاد أبو شاور بلدته (ذكرين) متوجهاً نحو الخليل، ومنها إلى أريحا حيث أقيم هناك على عجل مخيم للاجئين الفلسطينيين، وبذلك صار عنوان الأسرة مخيم [عقبة جبر/النويعمة/أريحا]، وهناك في أريحا راح الفتى رشاد أبو شاور يقرأ في التراث الإنساني والحضاري لأريحا، يقرأ عن مذبحتها الشهيرة بدمويتها ووحشيتها، وعن التاريخ المسيحي للرسل الذين كانوا يتوارون عن أعين الطغاة أنذاك في المغر والكهوف والأودية..

يقرأ عن سادوم وعامورة، عن اللعنة الإلهية الحارقة التي أصابت المنطقة.. فأشعلت هواءها بالحرارة العالية، وعن البحر الميت وتفرده بالملوحة الطاغية، والخرافات، والأساطير، والميثولوجيا التي تدور حوله، وحول قوافل الملح، والملاحات، والنساء العواقر.. في أريحا يشعر رشاد أبو شاور أنه بات في قلب التاريخ الذي يطل على الحاضر والمستقبل معاً، ومن أريحا كانت رحلاته نحو القدس مع والده، وأعمامه، ومع أساتذته وأترابه في المدارس.. وهناك راح يقرأ تاريخ القدس، ويتعرف إلى غزاتها وسافكي دم أهلها وهادمي أسوارها ومساجدها وكنائسها.. هناك في القدس مشى في درب الآلام الذي مشاه سيدنا المسيح عليه السلام، وجال في المسجد الأقصى وقبة الصخرة واقتعد الظلال.. راقب طيور الحمام الآمنة فطار معها عبر تحليقات لا أبدع منها ولا أجمل، وحط معها فوق أسوار القدس وأبراجها.. وماشاها في الساحات الوسيعات، ورأى أيدي الناس تقذف نحوها البذور فتتطاير حفنات البذور فوق البلاط مثل حبات الخرز، ويمر بعقبات القدس وحاراتها فيرى البيوت المتداخلة المعرشة علواً وامتداداً مثل الدوالي، يرى الأبواب النداهة اللامعة.. وحجارة البيوت الوردية، فيواقفها كمن يواقف المرايا، ويشرب من شراب الخروب كمن يشرب كاسات الندى. ويرتحل مع والده إلى دمشق ليعيش فيها فترة تعد من أخصب فترات حياته، تلك الفترة الممتدة ما بين عامي 1957 و 1965 حيث كانت الشام تعيش ربيع الوحدة مع مصر، ومرارة الانفصال في الوقت نفسه، ومن ثم نشور الحياة الجديدة بدءاً من عام 1963.

يعود رشاد أبو شاور ووالده إلى مخيم النويعمة في أريحا فيعيش فيه حتى عام 1967، وإثر عدوان 1967 يطرد مع والده إلى الأردن.. وهناك يعيش في مخيم جديد هو مخيم النصر، وفيه راحت تتزاحم فيه صور أمكنة ثلاثة هي .. صور قرية رشاد أبو شاور الأولى (ذكرين)، وصور (القدس)، وصور (أريحا) ومخيم النويعمة/ عقبة جبر.. لهذا لا يُسأل رشاد أبو شاور عن اختناقات روحه وغصاتها الوطنية..

ومن الأردن يغادر الأب (محمود أبو شاور) وابنه رشاد أبو شاور إلى دمشق مرة ثانية كصديقين الأب شيوعي، والابن ناصري.. وكلاهما يغرق في أفكاره إلى حد التعصب. وفي دمشق يفتن رشاد بأحياء المدينة القديمة: القيمرية، ومدحت باشا، وقصر العظم، والدرويشة، والنوفرة، والعمارة، ومئذنة الشحم، والميدان، فتبدو دمشق كأنها توأم القدس، أو لكأنهما معاً تفاحة مشطورة إلى نصفين: نصف مقدسي.. وآخر شامي..

وفي دمشق يحدد رشاد أبو شاور موقفه الفكري.. فيخالف والده في توجهاته ونقاشاته وغاياته.. عندما يتبنى الفكر الناصري اتجاهاً وموقفاً.. ذلك لأنه وعى مبكراً أن قضية فلسطين ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، وإنما هي قضية العرب، وأن في الوحدة العربية عزة ما بعدها عزة، وأن القومية العربية أكثر من تاريخ مشترك، وأكثر من لغة واحدة، وأكثر من تراث مترامي الأطراف.

ومن فوق مقاعد الدراسة يمضي رشاد أبو شاور إلى العمل الفلسطيني في مجال الإعلام والتعبئة، فراح يكتب ما تعارفنا على تسميته بـ أدبيات الثورة الأولى التي أُضيفت إلى الميثاق الفلسطيني، ثم راح يكتب قصصه الأولى وينشرها في المجلتين الأهم في سورية (المعرفة) و(الموقف الأدبي) مجاورةً لقصص: سعيد حوارنية، وهاني الراهب، وزكريا تامر، ونصر الدين البحرة، وياسين رفاعية، وغادة السمان، وعبد الله عبد، وحسيب كيالي، وكوليت خوري، ووليد إخلاصي.. وبذلك حقق نقلة نوعية غير منتظرة في المجال الأدبي ذلك لأن قصصه لاقت قبولاً وترحيباً مهمين في الأوساط الأدبية. ومن بعد، انتقل إلى نقلة نوعية أخرى حين راح ينشر قصصه في مجلة [الآداب] اللبنانية إلى جوار قصص الأدباء العرب الكبار يوسف إدريس، وسعيد الكفراوي، ويوسف الشاروني، وجمال الغيطاني، والطاهر وطار، والطيب صالح، وإسماعيل فهد إسماعيل، وغسان كنفاني، وسميرة عزام ..

ومع حضور المجلات، والصحف الفلسطينية.. غدا رشاد أبو شاور حجر الزاوية في مجالي الإعلام والثقافة الفلسطينيين، كما بات واحداً من أهم الأسماء الأدبية الفاعلة في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين. ومع ذلك ظلَّ رشاد أبو شاور، شأنه شأن الشاعر الكبير خالد أبو خالد، الفدائي الذي يكتب ويجول في دوائر الإعلام والثقافة، والإعلامي والأديب المتواجد في القواعد الفدائية التي عدّها كلاهما الهواء الذي يتنفسانه..

ولعل قصص رشاد أبو شاور الأولى في مجموعاته الأولى (ذكرى الأيام الماضية 1970) و(بيت أخضر ذو سقف قرميدي 1974)، و(الأشجار تنمو على الدفاتر ـ 1975).. و(مهر البراري).. اتخذت من القواعد الفدائية في لبنان بوصفها نقطة مكث ومعايشة وتصارع للأفكار والرؤى والأحلام مجالاً مكانياً لها، يضاف إليه المجال المكاني الآخر المتمثل ببيروت بوصفها رئة مدينية غير قارة من جهة، وبوصفها حلماً مشتهى لا بدّ من مراودته أو الاقتراب منه بين حين وآخر من جهة ثانية.

لقد كانت الحال الفدائية بالنسبة لـ رشاد أبو شاور، وغيره من المثقفين الفلسطينيين الذين عملوا في مجالي الإعلام والثقافة، منجماً بشرياً متعدد الضفاف، واجتماعاً محتشداً بالحيوات، والحكايات، والأسرار، والرؤى، والجدل، والأحلام، والمتغيرات.. فالقواعد الفدائية، وعبر اجتماع الفدائيين الآتين من أحياز مكانية وجغرافية متعددة، منها القريبة ومنها البعيدة، والآتين من قوميات، وطوائف، ومذاهب، وطبقات اجتماعية، وثقافات إنسانية شديدة التنوع والثراء.. منحت مجتمع الفدائيين الكثير من الخصوبة والتعددية، والمناددة، والحيوية، والتجدد، والمضايفة المستمرة.. بقولة أخرى إن مجتمع الفدائيين الذي هو مقلع اجتماعي نحو الغياب.. في حالات ثلاث هي: الاستشهاد، أو الأسر، أو الفقد.. كان عالماً يحرص على موجوديته الاجتماعية كي لا تلتهمه غولُ الغياب.. لذلك فإن الحكايات، والأخبار، والهجس بالوطن، والرسائل، والأشواق، والتشوفات، وحالات الوداع المستمرة في الحضور،.. وشيوع رائحة الموت والحديث عنه.. كل ذلك جعل الفدائيين يقاومون هاجس الفقد، والرحيل، والغياب.. بقص الحكايات تماماً مثلما فعلت (شهرزاد) في (ألف ليلة وليلة).. لذلك ما كان من أحد يرث الفدائي الذي يغيب (استشهاداً، أو أسراً، أو فقداً) سوى حكاياته، فهي التي يتناقلها رفاقه، وهي التي ستصير قصصاً في أوراق رشاد أبو شاور ورفاقه أيضاً. وهنا لا بدّ من القول إن رشاد أبو شاور نفسه يجمع إلى يومنا الراهن، أطال الله في عمره، شأنه شأن الشاعر خالد أبو خالد، بين شخصيتين اثنتين، هما: الفدائي والأديب، أحياناً تطغى إحدى الشخصيتين على الأخرى.. لكنها لا تمحوها.. فرشاد أبو شاور، ومثله أبو خالد، ليس كائناً مدنياً صرفاً لأن الروح الفدائية.. روح الرضا بالقليل القليل، والانتظار الحُرّ للمجهول الآتي لا ريب، وروح المفاجأة، وهاجس التنقل، والنفور من المكث في مكان معلوم، والسرانية في الحركة.. والقلق، والخوف، والأحلام.. كلّها تحيل الشخصية المدينية إلى كائن مشطور إلى نصفين؛ نصف يمثله الجسد في حضوره وحراكه، ونصف يمثله الحلم في توثبه واشتعاله الدائمين. إن رشاد أبو شاور المديني اليوم غير حافل بالتمظهرات المدينية ليس لأن المال لا يجري بين يديه وحسب، وإنما لأن حياة الفدائي روّت روحه بأسرارها الثقال.

هذه هي السيرة الأولى لـ رشاد أبو شاور، سيرة الحياة التي عرف فيها معاني الألم والغُصات، والعَوَز، والظلم، واليتم، والعزلة، والصبر، والعزيمة على التحصيل، والاجتهاد، والعمل وفق طريقة الخطأ والصواب، فإن أخطأ رجع إلى نقطة الانطلاق، وإن نجح مضى إلى النقطة الأبعد.

والسيرة الثانية لرشاد أبو شاور هي سيرة كتابية، تلخصها رحلة البحث عن الكتاب والمعرفة.. فقد بدا ومنذ عتبات العشرين من عمره يطارد الكتاب ويبحث عنه تماماً مثلما طارد جلجامش عشبة الخلود وبحث عنها، فقد عدّ، وفي سن مبكرة، أن الاستحواذ على الكتاب هو استحواذ على العالم، والعمل على تنمية العقل وتثقيف النفس هما من أرفع الأعمال التي يقوم بها الإنسان تكريماً لذاته، ومجتمعه، وتاريخه. وقد قرَّ في واعيته أن امتلاك المعرفة يعني امتلاك فن السباحة في عالم من البحار الهوج.. لذلك مضى إلى عالم الكتب كي يقرأ، ويتعلم، ويتعرف إلى الآخرين والعالم، لقد قام رشاد أبو شاور وهو في العشرين من عمره بدورين أساسين كي يثقف نفسه، الدور الأول تمثل في رشاد أبو شاور المعلم الذي أتي بالكتب (من أين؟ لا أحد يسأل ابن مخيم مثل هذا السؤال)، يضع المعلم الكتب أمام رشاد أبو شاور الذي يقوم بدور التلميذ المطيع الذي عليه أن يلتهم الكتب خلال ساعات أو أيام.. كي تعود الكتب إلى أمكنتها قبل اكتشاف غيابها (أخذاً)، أو كي تعود الكتب إلى أصحابها وفاءً بالوعد المقطوع على رشاد أبو شاور المعلم من أجل أن يعيدها.

ولليوم لا يزال الكتاب هو أهم وأثمن شيء عند رشاد أبو شاور. ولليوم، وكلما جاء إليَّ زائراً عزيزاً في مكان عملي.. يسألني سؤاله المحفوض غيباً وبلهجته المحببة: (شوفي كتب جديدة وهامة؟)، ولليوم أراه كيفما دار أو مشى يسأل سؤاله الأزلي عن الكتب. ولأن رشاد أبو شاور يحب الكتب فقد عقد صداقات هائلة في أهميتها ومكانتها مع الكثير من الأدباء والكتّاب العرب من دون أن يلتقيهم أو يعرفهم.. فهو يعتقد اعتقاداً راسخاً أن الكتاب الجيد لا يصدر إلا من ذات جيدة. وفي سيرة الكتابة والمعرفة لا بدّ من القول إن رشاد أبو شاور لا يفعل كما يفعل مجايلوه الذين لا يسألون إلا عن رفاق العمر وكتبهم، وإنما هو يسأل عن الكتّاب الجدد، وعن المواهب الجديدة، وعن أعمارهم الشبابية، وهو بذلك توأم الأديبة كوليت خوري التي جعلت من قضية الشباب قضية إبداع، وقضية حياة، فلا حياة فوّارة حارة خارج حياة الشباب، ولا إبداع متوهّجا نافرا خارج إبداع الشباب.. كما لا يمكن تصور كوليت خوري من دون حماستها الشابية، وفورتها الإبداعية الدائمة، فهي تقول دائماً الشباب هم المستقبل، أما أنا... فمولودة في المستقبل ...

وبسبب حب الكتاب، كوّن رشاد أبو شاور أكثر من مكتبة حقيقية في المنازل التي عاش فيها في المنافي المتوالدة، كلّها آلت إلى أيدي الأصدقاء.. لأن غربته الدائمة حالت دون أن يمكث طويلاً في أي من الأمكنة التي عاش فيها (دمشق، عمّان، بيروت، بغداد، طرابلس..)، والكتب، كتب رشاد، هي التي كانت تتحدث عنه لأنه مرَّ بصفحاتها حرّاثاً لمعرفتها، وناهلاً من روائها.. وفي هذه المدن كوّن رشاد أبو شاور صداقات ثمينة مع أدبائها (الشعراء والقاصين والروائيين والمترجمين والدارسين والمسرحيين).. كان صديقاً لـ ياسين رفاعية، ونصر الدين البحرة، وزكريا تامر، وهاني الراهب، ونذير نبعة، وعبد النبي حجازي، وسعيد حوارنية، وحسيب كيالي، ووليد إخلاصي، وكوليت خوري، وعلي عقلة عرسان، وسعد الله ونوس، وحنا مينة، وممدوح عدوان، وعلي الجندي، ومحمد عمران، وعلي كنعان، وفواز عيد، ويوسف الخطيب، وسليمان العيسى، وأحمد دحبور، وصالح هواري.. في الشام، وله مثل هذه الصداقات في بيروت، وعمّان، وبغداد، وطرابلس، والقاهرة.. لقد حرص أن يقرأ كل هؤلاء في مدوناتهم، وأن يقرأ المدونات الإبداعية العربية في تجاربها الأهم في البلاد العربية، بعد أن قرأ مدونة الأدب الفلسطيني في أجيالها المتعددة، ومدونة الأدب الروسي والسوفييتي في أعلامها العظام: تشيخوف. دوستويفسكي. تورغنيف، تولستوي، غوغول، بوشكين، جنكيز ايتماتوف، رسول حمزاتوف، فالنتين راسبوتين،.. وراح يتلقف كل ما تصدره وزارة الثقافة السورية من ترجمات اهتمّت بها شخصياً وأشرفت على طباعتها سيدة الثقافة السورية د. نجاح العطار، فراح الإبداع الإنكليزي والفرنسي والأسباني والإيطالي والألماني والبرتغالي يتوالى تترى عبر كتاب أو كتابين في الأسبوع الواحد.

وحين حلّ به الترحال نزيلاً على بيروت (فدائياً وأديباً) راح ينهل من ينابيع دور نشرها، وخصوصاً دار الآداب التي عنيت بالكتب الفلسفية، فعرف عالم الفلسفة في نظرياتها الوجودية، والعدمية، فقرأ البيركامو، وجان بول سارتر، وجان جينيه، بعدما قرأ في بيت والده الفكر الماركسي ليس من أجله هو وحده، وإنما من أجل والده الذي لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك كان يصر على أن يكون مثقفاً ماركسياً، يحفظ مقولات ماركس، وأنجلز، ولينين.. عن ظهر قلب.. وحين صارت بعض دور النشر اللبنانية تتعاون مع دائرة الإعلام والثقافة في م.ت.ف.. صار رشاد أبو شاور جهةً لاختيار بعض منشوراتها كي يتثقف بها ومن خلالها أهلُ القواعد الفدائية قبل أن تأخذهم يد الغياب والفقد.. وقد صارت هذه القواعد الفدائية أشبه بالمراكز الثقافية التي رادها رشاد أبو شاور ورفاقه الأدباء (أحمد دحبور، يحيى يخلف، محمد القيسي، محمد لافي، محمود درويش، توفيق فياض، مي صايغ،..) كي تصير منصات إلقاء للشعر والقصة القصيرة، أو منصات للتثقيف السياسي. وقد أسهم عمل رشاد أبو شاور في الإذاعة الفلسطينية، والصحف والمجلات الفلسطينية في صقل موهبته، وقدرته الإبداعية كي يكون حاضر الذهن، متحفزاً دائماً للكتابة في كل لحظة ووقت..

بدايات رشاد أبو شاور القصصية (نشراً) كانت في عام 1966 حين ظهرت له أول قصة منشورة في جريدة ذات أهمية قصوى في أيامها، أعني جريدة (الجهاد) المقدسية حيث نشر قصته الأولى (الليل) التي طوّبته قاصاًَ بادياً، هذه القصة ستظهر في مجموعته القصصية (بيت أخضر ذو سقف قرميدي)، (والتي سيراها القارئ الكريم منشورة هنا في هذه المختارات القصصية)، أما القصة الثانية فقد نشرها في جريدة (الجهاد) المقدسية أيضاً، وعنوانها (أحذية الآخرين) والتي لن تظهر في أي من مجموعاته القصصية التي نشرت له (لعلها فقدت مع البيوت والناس والحقول حين حلّت هزيمة 1967).. أما القصة الأولى التي نشرها رشاد أبو شاور في الصحف والمجلات العربية، فكانت قصته (ذكرى الأيام الماضية) التي ستكون عنواناً لمجموعته القصصية الأولى التي صدرت في عام 1970 عن دار الطليعة في بيروت، وقد نشرت هذه القصة في صحيفة الأحد لصاحبها المرحوم رياض طه، وقد كان نشرها في 11 حزيران 1967 أي بعد خمسة أيام من نكسة 1967.

وقد نال رشاد أبو شاور تقريظاً طيباً ماشى قصصه التي راحت تظهر هنا وهناك، وبات خلال فترة قصيرة من الزمن واحداً من أبرز كتاب القصة القصيرة الفلسطينية، وراحت مجموعاته القصصية تظهر تباعاً مرّة في بيروت، وأخرى في بغداد، وثالثة في دمشق، كما راح يكتب الرواية، فظهرت له وخلال عامين روايتان شغلتا الساحة الثقافة العربية هما: (أيام الحب والموت/ 1973)، و(البكاء على صدر الحبيب/ 1974)، ومن بعد صدرت روايته الأشهَر (العشاق/ 1977) التي طوّبت رشاد أبو شاور روائياً من طراز نادر، فكتب عنها خيرة النقاد العرب، لا بل إن الشاعر سليمان العيسى قرظها بقصيدة تحمل العنوان نفسه وأهداها إلى (الأديب الفلسطيني الرائع رشاد أبو شاور).

ولم يقف رشاد أبو شاور عند حدود الكتابة القصصية والروائية، وإنما مضى إلى الكتابة إلى الأطفال فأصدر عدداً من كتب الأطفال هي: (عطر الياسمين) و(أحلام والحصان الأبيض) و(أرض العسل)، وكذلك مضى إلى كتابة المسرحية فكانت مسرحيته المهمة (الغريب والسلطان)، يضاف إلى ذلك كتاباته النثرية التي تراوحت بين السيرة الذاتية (تمر حنة) والنقد الذاتي والسياسي للحال الفلسطينية مثل: (ثورة في عصر القرود) و(آه بيروت)..

ومن خلال هذه الكتب أولاً، والحضور الثقافي الذي شكّله وأوجده رشاد أبو شاور الذي يشبه طائرة حوّامة في إحاطته المتعاظمة ثانياً.. صار اسم رشاد أبو شاور جهة للأدب المقاوم، والثقافة المقاومة، والحوار الوطني الصلد، كما صارت مؤلفاته وإبداعاته جهة للترجمة إلى اللغات العالمية (الإنكليزية، الفرنسية، والألمانية، الفارسية، الأرمنية، الإيطالية..) ليس بوصفها ممثلة للحال الفلسطينية وتشققاتها الكثيرة، وطموحاتها النبيلة وحسب، وإنما بوصفها نصوصاً تمثل الإبداع العربي في نماذجه الأصفى والأرقى والأهم، وكلّ هذا جعل من رشاد أبو شاور الكاتب، والوطني.. جهة خطاب ومخاطبة، وجهة سؤال وإجابة، وجهة معنى..

وبعد، فإنني مترع بالاعتزاز، وقد قيضت لي الظروف الفرصة كي أكتب عن أديب ثقّف نفسه بنفسه، أديب تعلّم في مدرسة الحياة، تعلم من الطبيعة، ومن أمه، ومن محمود أبو شاور (والده)، ومن رحيل الرفاق، وعزله القواعد الفدائية، وغربة المدن، وأوجاع المنفى، ومن تاريخ فلسطين العزيزة وتراثها، فلسطين أمنا الكبرى، والجهة التي تدق لها قلوبنا.. كما تعلّم من تجارب الآخرين، تعثر كثيراً وأحبط كثيراً، وصادفته عداوات ومكاره كثيرة أيضاً... لكنه لم يسقط، وقاوم كثيراً بالمحبة، والصبر.. كي لا يُهزم، وناضل كثيراً ليس من أجل أن يصل إلى غاياته، وإنما من أجل أن تصل فلسطين العزيزة إلى غاياتها..

هاهو ذا رشاد أبو شاور الإنسان أولاً، وها هوذا الأديب رشاد أبو شاور ثانياً... كلاهما يبدو أمامنا، وفي توحّد عجيب، بكل طيبته، ولهفته، وأشواقه، ونصوصه.. في مرآة لا أجمل منها ولا أبدع.. ها هوذا يبدو بكامل قامته.. في مرآة المحبة.

التعليقات