ساراماغو : الواقع وجدلية التاريخ/ د. فؤاد خطيب

ساراماغو  : الواقع  وجدلية التاريخ/ د. فؤاد خطيب
في مقال سابق ِ كتبنا عن اليسار العربي وأزمته ألراهنة . ذكرنا بسياق ذاك المقال أسباب أو حالة ضعف اليسار العالمي بشكل عام . نَو هنا الى ذالك اليسار الذي قصدناه وخاصة الاحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية بالتحديد

وخصوصا في فرنسا وايطاليا واسبانيا والبرتغال . اذ أن بعض تلك الاحزاب في السبعينيات والثمانينات وخصوصا الحزب الشوعي في فرنسا وايطاليا والبرتغال كانت قريبة من الوصول للحكم ديموقراطيا لولا ألأنتكاسة الكبيرة التي اصابت المنظومة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وفي اوروبا الشرقية انذاك. لو وصلت تلك الاحزاب حينها الى الحكم لرأينا عالما مختلفا عما نراه اليوم ولامجال لنا هنا للتفصيل والتنظير.

كتبنا هذه التوطئة لنصل الى بيت القصيد وهو الكاتب الراحل العالمي الشيوعي خوزية ساراماغو الذي ترك بصمة فريدة من نوعها على الادب العالمي بالقرن العشرين برمته. ساراماغوا ذهب الى عالمه الخاص قبل ايام ولم يحدد وجهته بل تركها لنا ولاعماله وللتاريخ من بعده ان يحددها .

ساراماغو لم يؤمن بالبعث والجنة والنار بل كان ماديا حتى النخاع في حياته وأدبة . عاش حياته يبحث عن الحقيقة وأقرَ لنا بكتاباته الرائعة ان الطريق الى الحقيقة التاريخية الجدلية ربما أجمل من الحقيقة ذاتها .

بعثهُ وخَلاصه هي حياته و طفولته التي خلدها في عزبة جده الفلاح الفقير وهو يراقب النجوم ويعدها ويحلم بها من بين أغصان التبنة العتيقة أالمُتشابكة الاغصان. هناك في عزبة في الاصقاع البرتغالية كانت جنته على الارض وربما جنته الخالدة ولم يبدل تبديلا حتى عندما فرض نفسه على الادب العالمي وحصل على جائزة نوبل للاداب عام 1998 وكان ثاني كاتب شيوعي اذ لم تخني ذاكرتي يحصل عليها بعد أن حصل عليها الكاتب الروسي الشيوعي شولوخوف عن رائعته " الدون الهادئ " عام 1958 .

أصبح بلا منازعاً أشهر كاتب برتغالي عَرفة الناريخ واحد أهم كتاب القرن العشرين على الاطلاق . سارا ماغو انظم الى الحزب الشيوعي البرتغالي عام 1969 وقاوم مع رفاقة دكتاتورية سلازار التي انهزمت كسابقتها في اسبانيا امام ارادة الشعوب عام 1974 . بقي هذا الكاتب الفذ شيوعيا مقاتلا ممارسا باحثا عن الحقيقة التي ضاعت تحت اقدام الديكتاتوريات في النصف الاول من القرن العشرين والرأسمالية التي قويت وتطورت في البرتغال وفي أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية على وجه الخصوص.

بقى خلف متراسه ماركسياً مقاتلاًً حتى يومه ألاخير بعد أن تبوأ ارفع المناصب الحزبية ووصل الى المكتب السياسي للحزب الشيوعي البرتغالي. في احاديثه الصحفية قبل فترة وجيزة من مماته صَرحَ بفم ِ ملأن وثقة الواثق من نفسة ومن مبادئه وخصوصا بعد أن عاقر الرأسمالية على مختلف أاشكالها القديمة والحديثة منها والتي يعيشها ألأنسان المعاصر . نعم بفم ملأن وبدوت تأتأة ولا وجل قال بان الماركسية ألأن قابلة للتطبيق في هذا الوقت من التاريخ بالذات وخصوصا في العالم الرأسمالي الاكثر تطورا والذي سحقته الامبريالية والنيوليرالية والعولمة مما أدى الى ألأزمات الاقتصادية الاجتماعية التي يعيشها ذاك العالم والتي بدأت بأزمة العقارات في الولايات المتحدة الامريكية والتي هزت العالم وبعثت ارتجاجاتها القوية الى كل الدول الرأسمالية التي تتعامل بالدولار .

لحقتها أزمة اليورو في الاتحاد الاوربي بعد اعلان افلاس اليونان الاقتصادي رسميا ...ومن ثم أزمة العقارات في دبي وغيرها . بمقولته أكد ساراماغوا المقولة الماركسية التي أطلقها ماركس في كتاب رأ س المال وهي أن الاشتراكية تنتصر أولا في الدول الراسمالية الاكثر تطورا وخاصة في أوروبا الغربية .

رحلتي ألأولى مع هذا الكاتب الفذ بدأت مبكرًا عندما كُنت طالباً في مدينة براغ التشيكوسلوفاكية الاشتراكية الجميلة - مدينة كفكا ومركز العالم الاشتراكي الثقافي في ذاك الحين . وجدتُ صُدفة وكانت خيراً من مليون ميعاد كتاب " أرض الخطيئة " لكاتب برتغالي شيوعي . لَفتَ نظري للوهلة الاولى أسم الكتاب وليس أسم الكاتب . تركت كافكا في ذاته الميلانخولية يبحث عن ذاته الميتا فيزيقية وقرأت هذا الكتاب الذي شَدني من أول كلماته . كافكا رأى الوجودَ ألأنساني في بداية القرن العشرين بعيون سوداوية مرضّية عُرفت فيما بعد وأ شتهرت بالكفكائية . قرر كافكا أن حقيقة العالم ألى زوال ربما بزوال الجنس البشري أو على ألأقل تَحولة - ميتافورموزا - الى حشراتِ ِقميئة بعد أن سَلبت مَدنية وتَقنية القرن العشرين وتحولاته الكبرى الاخرى ألأنسان انسانيته وجَعلته مَخلوقا عديماً عبدا للألة والتقنية التي جردت الحياة البشرية من حقيقتيها تلك الجميلة والاخرى المأساوية وجَعلتها خاوية المعنى لا تستحق أن تُعاش . أما ساراماغو الماركسي في " أرض الخطيئة " صَور بِدوره بصورة قاتمة تلك التحولات القاتمة التي عصفت بالانسانية لكونها بذاك الوقت كانت خارجة من حرب كونية مدمرة دمرت العالم وخاصة القارة القديمة . حصلت لاول مرة الانفجارات الجهنمية الحقيقية النووية الرهيبة التي حرقت ألأنسانية بأجمل صورها وجَعلتها عدماً في عدمِ في لحظاتِ . الفارق بنظرنا أن كافكا وجد أن الحقيقة مُرة ولم يجد طريق الخلاص منها أما ساراماغو فوجد بدوره تلك الحقيقة وفَسرها ورأى قبسا من نور احمر خارج من النفق المظلم قادراً ليس فقط عى تحويل هذه الحقيقة بل أعادتها الى حقيقة واقعة تستحق ان تُعاش متسلحة بالفكر الماركسي وبالمادية التاريخية الجدلية الذي أوجدها ذاك الفكر العبقري.

دارت الايام .. ومرت السنوات حتى وجدت ساراماغوا ثانية . كانت رحلتي الثانية مع هذا ألأديب الجميل . وجدته برائعته " الكهف " ُمترجما ألى الانجليزية في احدي دور بيع الكتب في لندن . يجب أن نعترف أن هذا الكاتب الفذ لم يكن معروفا ً في عالمنا العربي بصورة عامة والفلسطيني بصورة خاصة الا بعد حصولة على جائزة نوبل للاداب عام 1998 . عَرفناه اكثر وأحببناه واصبح واحد منا بعد زيارته التاريخية لياسر عمار الرمز الفلسطيني في حصاره في رام الله عام 2002 . لقد تحدى الحصار وتحدى الاحتلال ولسان حالة يبحث عن تلك احقيقة التاريخية التي نَست فلسطين وشعب فلسطين ورائها وكان الاحتلال ومازال تلك الحشرة القميئة التي تنغل في أجمل معاني ألأنسانية هنا في فلسطين في قلب العالم.

ركبت الشاحنة وقتها مع بطل الرواية الكهل " سيبريانو الغّور" وصهره " مارسيل كاتشو " من قرية نائية في وسط البرتغال الى المدينة الكبيرة . ذاك الكهل البسيط الذي وُلد وعاشَ كل حياته في قريته الوادعة المتواضعة الجميلة حيث عرف الجميع وعَرفه الجميع . باعهم تحف وثماثيل من السيراميك صنعها في مشغله اليدوي البسيط مع ابنته الوحيدة . كانت في غالبها تماثيل للعذراء والسيد المسيح وتماثيل أ بطال خرافيين وحقيقيين , لصوص وقراصنة وحراس ووحوش الغابة . عاش مع ابنته عيشة راضية هنية متواضعة أجمل ما فيها على حد تعبيره زيارة يوم ألأحد لقبر زوجته الحبيبة مع باقة نرجس او ورد جوري نبت في حدبقته المتواضعة حول داره البسيطة او حتى ضمة أزهار برية وفرتها طبيعة البرتغال الجميلة . زار قبرها بعد أن لبس أزهى ثيابه وحلق ذقنه وشَذَب شاربه وكأنه ذاهب للقاء حب تحت أغصان الصفصاف الباكي في المقبرة على حافة القرية . قصة حبه لم تنته ولم يبددها حتى الموت . جاء اللواث للقرية ووصل الطاغوت الذي خاف منه منذ نعومة أظفاره بعد أن سمع عنه الكثير في حكايا جده الذي لم تنته وسمع عنه الكثير ايضا ولو بصورة مغايرة في كنيسة القرية المتواضعة . عرف أن ألأ فة قادمة ولن تبق على شيء جميل من حياته . ابنته أحبت مارسيل الذي عمل حارسا لاحدى المتاجر الكبيرة في المدنية التي جائها الطاعوث من كل حدب وصوب. اصبح الطاغوت في كل مكان ووصل ألى كل مكان . تجارته أفلست بعد ان امتلأت الدكاكين الحديثة من التماثيل المستوردة التي فاقت تماثيلة بهاءاً وزهواً ولم يبق أمامه ألأ السفر الى المدينة للسكنى مع ابنته وصهرة في احدى عماراث اللواث التي ملأت المدينة من كل صوب . وجد سيبريانو الطاغوث هناك متربصا له في كل زاوية وبدأ يبحث عن كهف خلاصة " كهف أفلاطون " ليستعيد شيئا في أنسانيته التي هربت منه أمامه حتى توغل عميقاً في نفق تحت العمارة الضخمة ووجد ذاك الكهف ووجد الكثيرين من سكان العمارة يزورونه مثله باحثين ايضا عن خلاصهم . مع كل هذا ضاعت انسانيته منه وخصوصا أنه ذاك القروي الذي كان وحدة من وحدات الطبيعة هناك بما فيها من جمال وحزن وسرمدية البقاء وصيرورة الحياة. فقد أجمل ما عندة وهي مناجاة زوجته الحبيبة على قبرها أيام ألأحاد .



صَور سارا ماغو في رائعته تلك ضراوة الاقتلاع وقسوته وقصد اقتلاع الانسان من قريته- انسانيته حيث ولد وشب وحب وعاش أجمل لحظات حياته . ما بالكم باقتلاع شعب كامل من وطنه كما هو حاصل لشعبنا منذ ستة عقود . لهذا ولغيره أفهم مَوقف الكاتب الكبير مناصراً لقضية شعبنا الحيّة ووقوفه ذالك الموقف الشجاع في رام الله وفي القدس وفي تل ابيب وفي لشبونة ولندن وباقي أرجاء الارض. ألأمر الثاني الذي حير الكاتب وأقلقه تلك العولمة الزاحفة الكاذبة التي كسحت شعوب الارض في العالم الفقير ونهبتها حريتها ووطنيتها وثرواثها الوطنية الاقتصادية والثقافية وجعلتها بالكثير أرقاما ووحدات اقتصادية استهلاكية لا غير كما هو حاصل اليوم أمامنا . ها نحن بالذات العرب نعيش صراعاً حضارياً وثقافيا ً واقتصادياً ينهبنا ثرواثنا وثراثنا كما حصل و حاصل في العراق وكما هو حاصل في غالبية الفضائيات العربية التي تخلوا من أية اثر حقيقي وجيد للثقافة العربية العربية –الاسلامية الاصلية . حسب ساراماغوا لا يرحم الضعفاء الا فكر مادي مؤمنا بالجدلية التاريخية القادر وحده على تحقيق الحقيقة الحقيقية المادية الوحيدة بعيدا عن الاوهام التى خلقتها المؤسسة الدينية- اللاهوتية قرونا طوال. نحن ضعفاء الارض وخصوصا الارض العربية نبرر ضَعفنا بما قالة رهين المحبسين فيلسوف المعّرة وطلب من أحفاذه أن يكتبوه على قبره " هذا ما جناه أبي علي وما جنيت على أحد " .

رحلتي الثالثة مع هذا الكاتب اليساري الحقيقيي الفذ بدأت قبل عامين في قاهرة المعز قلب العرب النابض في ميدان طلعت حرب وعلى رف قديم من رفوف مكتبة " مدبولي " الشهيرة . رأيت ساراماغوا لاول مرة بالعربية بروايتة " العمى " التي حُولت مؤخراً الى فيلم سينمائي . في رائعته هذه أيضا يقول لنا ساراماغوا هذه المرة بالبنط العريض بان ألأ نسانية ماضية ولا شك الى نهايتها بعد ان أصابها العمى الابيض أي عمى البصر والبصيرة وبعد أن باعث قيمها الراقية كلها لهذا الطاغوث الاستهلاكي الشرس الذي ينهش بشراسة ما تبقى مناه هنا وهناك . رغم قتامة جو الرواية وبشاعة مصائر أبطالها لم يستسلم ساراماغو وبقى يدافع على الانسانية برمقه الاخير بل ابقي بصر الحقيقة في عيني زوجة طبيب العيون الذي فقد ايضا بصره وبصيرته . بقت عيونها منارة تهدي الانسانية وهي في أحلك ايام ضياعها . بقت تومئ و تكشف الحقائق المروعة الحاصلة حينا واخرا تومئ الى الضمير

الانساني ليبقى حيا رغم كل القذورات والغائط والقتل والاغتصاب الذي ملأ الوجود . أجمل مافي الرواية مرأى النساء العاريات فاقدات البصر تقودهم زوجة الطبيب الى تيههم وغربتهم وهي تنظر أمامها علها ترى نور الحقيقة أي نور الخلاص في الصباح القادم ولا محالة ..تبقى تلك المرأة المبصرة والتي ربما رمز بها ساراماغوا الى بقايا الضمير الانساني حتى وان فشلت في اقناع زوجها طبيب العيون ان نور الحقيقة الساطع َات مع الفجر القادم ولا محالة.

نور الحقيقة الساطع ات رغم هذا الهلاك وهذا الضياع . سارماغوا شانه شأن الماركسيين الحقيقيين يؤمن بحقيقة وجدلية التاريخ ويصدق بشدة أن هذا الهوان التي تعيشه البشرية زائل لابد من نهاية حتمية له ولابد للعدالة الاجتماعية من أن تسود العلاقات البشرية على مستوى الفرد والشعب وألامة والبشرية قاطبة خصوصا بعد ان هلت بشائر الازمات الاقتصادية والاخلاقية التي تعصف في قلب النظام الرأسمالي الشرس المتوحش . لابد للبشرية ان تعود لقيمها التي خسرتها في القرن العشرين ولا بد من استغلال هذه القدرة التقنية الهائلة الحاصلة في صالح البشرية العام في كل مكان . رحلاتنا الممتعة ستستمر مع هذا الكاتب الانساني الشيوعي الكبير بعد ان قرع لنا وعنا الخزان مرات ومرات

وبعد أن أضاء لنا الطريق بفكرِ نير مُتجدد قلما نجده في عالم اليوم الذي فقد بوصلة الخلاص ..ولكنه لن يفقدها الى الابد .

لقد مات الكاتب الكبير وهو يعيشُ حُلمه الصغير ألأبدي بالعدالة الاجتماعية واخوة الناس والشعوب تحت تينة جده وعلى أحاديثه العذبة التي تمنى لها ان لا تنته . تعالوا بنا نبحث عن احلامنا الحقيقية مثله التي ولا شك تنتظرنا كما له في غابات الزيتون والصنوبر وفي غابات العقل و ودهاليز القلب البعيدة.



.

التعليقات