"اسمي راشيل كوري" تتألق في المهرجانات التونسية بقلم الأستاذ الباحث: محفوظ غزال

مِنْ سرير الطفولة إلى صُخُور غَزَّة، رِحْلَةُ الإنسَانِ يُولَدُ فَرِحًا مُهَلِّلاً ثم ينْتَهِي إلى ضُعْفٍ إلى عَجْزٍ إلى ألَمٍ إلى فنَاءٍ وأيُّ فناءٍ، إنه الموتُ تحت البلدوزيرات بعد أن لَقِيَتْ النفْسُ مِنَ الآلاَمِ والرُّعْبِ مَا أنطَقَ ابنَةَ الثالثة والعشرين .إنه الإنسان يقْتُلُ الإنسان.
كان الحاضِرُونَ في مهرجَانِ "الفرْجَانِي منَجَّة" للمسرح على مَوْعِدٍ معَ المسرَحِ والتَّمْثِيلِ لكنَّهُمْ لم يكونوا عَلَى موْعِدٍ معَ ما حَدَثَ. أمْرٌ عَجِيبٌ أنْ يَجْتَثَّكَ ما ترَاهُ مِنْ أعْمَاقِكَ فيُلْقِيَكَ على شَاطِئِ الحيْرَةِ تعْصِفُ بِكَ في غير لُطْفٍ وَتُرْغِمُكَ عَلَى أنْ تكُونَ مِنْهَا في قَرَارٍ مَكِين. فألَمُ القَلْبِ يُعْتَصَرُ تَحْتَ نِيرَانِ الدَّبَّابَاتِ وَالبَنَادِقِ وَريحُ الخيانة والظلْمِ تعْصِفُ في كلِّ مَكَانٍ تَمْنَعُ الماءَ وَتَحْجِبُ الهَوَاءَ وَتُرَوِّعُ وَتُقَتِّلُ وَتُيَتِّمُ والعَالَمُ في صَمَمٍ.
كانت راشيل كوري "لنا زريق" كأعظم ما يكون الإنسانُ امْتِلاَءً بالإيمان وَسُرُورًا بما يَصْنع، ما أشْرَفَ الإنسانَ ساعة عظَمَتِهِ. وقد كانتْ "لنا زريق" عَظِيمَةً في بُعْدَين:
بُعْدٍ فني أَدَاءً وقُدْرَةً على امْتِلاَكِ النصِّ بعَرَبِيَّـتـِهِ الفصيحة وروحِهِ الدَّرَامِيَّة .
بُعْدٍ إنسَانِيٍّ أنْ كانتْ مُعَبِّرَةً عَمَّا لَمْ نَرَ راشيل نفْسَها تعَبِّرُ عنْه.
كانَ الجمْهُورُ في قابس علَى مَوْعِدٍ معَ نوْعٍ جَدِيدٍ من الأعمال المسْرَحِيَّة: مُذَكَّرَاتٌ تتَحَوَّلُ عَمَلاً فنِّيًّا دراميًّا وهي مذَكَّرَاتٌ أُرْسِلَتْ عَبْرَ الإيميل. وَرَغْمَ بَسَاطَةِ الدِّيكور وَعَفْوِيَّتِهِ المتنَاسِبَةِ معَ ابنَةِ الثالثة والعشرين، اسْتَطَاعَ المخْرِجُ رِياض مصاروة المشهودُ له بالاقتدار أن يَجْعَلَ مِنْهُ بَدَائِلَ رَمْزِيَّةً حُبلى بما أوحى به النصُّ المكْتُوب. فَسَرِيرُ الطُّفولَةِ الذي مِنْهُ انطَلَقَ العَرْضُ سَيَتَحَوَّلُ صُخُورًا بانتِقَالِ الأَحْدَاثِ إلى فلسطين لِتُوحِيَ بالتَّشَظِّي بالتَّلاَشِي بالهمِّ الدَّفينِ الذي لم تستَطِعْ راشيل نفسها كتمانَهُ يحرِّكها في كلِّ ذلك شعورُها الإنسانيُّ بأنَّ هؤلاءِ الـمُرَوَّعينَ لهمُ الحقُّ أيضا في أنْ يحْيَوْا كما نحْيا.
ومما تجدر الإشارة له أيضا أن لعبة الأضواء قد حَقَّقَتْ للمُشَاهِدِ نوْعًا منَ الكَشْفِ بالمعْنَى الصُّوفي إذ رغم كون السلطان في المسرحية للكلمة وَنَبْرَتِها كانت الأضواء التي أتقن تكييفَها تقنِيُّ الإضاءَةِ المقتَدِرُ "نزار خمرة" حامِلَةً الـمُشَاهِدَ عَلَى أنْ يَتَلَظَّى بِحِمَمِ ما يُقَالُ في الخطاب المسرحي تمامًا كما تَلَظَّى الفلسطينيُّونَ بِحِمَمِ المدَافِعِ وَشُوَاظِ القنابل.
عظيما كان الفريق المسرحيُّ الفلسطيني في انسجامه وتناغمه فقد أحْسَنَ إدَارَتَهُ مدير مسْرَحِ الميدان "سليم ضو" دون تعالٍ في هدوء مَنْ آمَنَ أنَّ كامِلَ الفريقِ مَسْكُونٌ بنفْسِ الهَمِّ الذي جَعَلَ الـمُهَجَ مِزَقًا. وقد خُتِمَ العَرْضُ بدُروعٍ قَدَّمَهَا عضوُ هيأةِ الإدارة "حسن شحادة" اعترافًا بالفضل وتقديرًا للجهد.
كانت "لنا زريق" عظيمةً تفْتَرِسُ باقتدارها كامل أرجاءِ الركح خاصة وقد كانت اختصاصية الصوت "نجدية إبراهيم" تشحَنُهَا في كلِّ مرَّةٍ بما يزيدها عظمةً وقوَّةً من جميلِ الألْحانِ والحرصِ على الدقة في المقاطع بدءًا ومنتهى.
إنَّ هَذَا العَمَلَ حَقِيقٌ بأنْ يكونَ محطَّةً هامةً في عالم المسرح فهو أوَّلاً قد عَرَّضَ بكلِّ مَنْ سَكَتَ عَنْ حَقٍّ وَكَشَفَ ثانيا أنَّ اللغة العربية التي يدَّعِي بعضُ مناوئيها غرْبتَها عن المسرح في حِلٍّ مِنْ كلِّ مَا رُمِيَتْ بهِ، فقد جَرَتْ على لِسَانِ "لنا زريق" عَذْبَةً صافِيَةً كما تجري عند منْ حَفِظَ للعربيَّة عهْدًا.
لقد نطَقَ العَرْضُ بما تعْجِزُ عنه الألسنة وحَاوَرَ باطِنَ الإنسان ذي الإنسانية اللطيفة. وانتهى الجمهور إلى تصفيق رضا وانبساط رغم مأسوية النهاية وهو ما يتوق إليه المسرح: التوعية والحث على الفعل لا الانفعال .
وَبعْدُ، لقَدْ رَحَلَتْ راشيل وَنَطَقَتْ "لنا زريق" بِوَصِيَّتِهَا، فهَلْ نحنُ مُنْتَهُون؟
.

التعليقات