أشتغلُ شِعرًا تحتَ ضوءِ القلبِ وبرْقِ المخيلةِ وشعاعِ الذّاكرةِ! حوار: أيهم أبو غوش

أشتغلُ شِعرًا تحتَ ضوءِ القلبِ وبرْقِ المخيلةِ وشعاعِ الذّاكرةِ!

حوار: أيهم أبو غوش
محمّد حلمي الرّيشة شاعرٌ يشتغلُ على القصيدةِ منذُ أكثرَ مِن ثلاثةِ عقودٍ، يعملُ بهدوءٍ وعزلةٍ كي يُتقنَ قصيدتَهُ كلّما جاءتْهُ مرّةً، حيثُ يُؤمنُ أنّ الإبداعَ عملٌ فرديٌّ، لهذا فهو يحتملُ العزلةَ كشاعرٍ، لكنّهُ لا يحتملُ عزلةَ الشِّعرِ. كانَ منذُ بداياتِهِ ولم يزلْ خارجَ السِّربِ مهما كانتِ الظّروفُ، لأنّهُ دائمَ القلقِ على قصيدتِهِ التّاليةِ، لا يُحبُّ الظّهورَ، لأنّهُ يُفضّلُ الشّعرَ على الشّاعرِ، لا يكتبُ زمنَ الألمِ، لأنّ هذا ضدُّ التّأمّلِ الإبداعيِّ. شخصيّةٌ متفرّدةٌ متمرّدةٌ بصمتٍ وحكمةٍ، فلا صخبَ لها ولا ضجيجَ، لا يحتملُ التّأطيرَ الثّقافيَّ مهما كانَ نوعُهُ، لأنّهُ يعتقدُ أنّهُ يُعطِّلُ الإبداع ويُضعفُهُ، ويُلهي المبدعَ عن إبداعِهِ. حياتُه شعرُهُ الّذي يكتبُهُ، منطلقًا مِن ذاتِهِ، حيثُ يؤمنُ أنّها مركزُ الإبداعِ. أفضلُ صفةٍ تناسبُهُ أنّهُ ناسكُ شعرٍ بامتيازٍ، رغمَ أنّهُ لم يزلْ يحلمُ أن يكونَ شاعرًا!

* تعملُ بهدوءٍ دائمًا وبعيدًا عن الأضواءِ لماذا؟ هل تكرهُ الأضواءَ والضّوضاءَ؟
- أنا أشتغلُ شِعرًا تحتَ ضوءِ القلبِ، وبرْقِ المخيلةِ، وشعاعِ الذّاكرةِ.. كلُّ هذهِ بحاجةٍ إلى الهدوءِ الّذي يحتضنُ التّأمّلَ مِن أجلِ الإبداعِ، لهذا أنا لا أكتبُ لتظهرَني كتاباتي، ولستُ أريدُ هذا الظّهورَ الشّكليَّ، بل أريدُ أن أُظهِرَ كتاباتي، لأنّها وسيلةُ الهدفِ مِن الكتابةِ. فعلا أنا أكرهُ الصّخبَ والأضواءَ، لأنّها تُعتمُ النّتاجَ وتُظهرُ المنتِجَ! كثيرٌ من الكتبةِ الكذبةِ يمسحونَ بأوراقِ كتاباتِهم عدساتِ المصوِّرينَ، وزجاجَ الأضواءِ، ويُديرونَها نحوَهم بشكلٍ مفتعَلٍ، فهُم معنيّونَ بشُخوصِهم أوّلاً وآخرًا، لهذا فهدفُ الكتابةِ وهي في غالبِها مكرّرةٌ أو ممجوجةٌ، هو في جعْلِها سُلّمًا نحوَ الظّهورِ؛ قد يسحرونَ الآذانَ والأعينَ في البدايةِ، لكنّهم لا يستطيعونَ أن يصِلوا القلبَ مُطلقًا، لهذا ما مِن إبداعٍ في نِتاجِهم، لأنّ الإبداعَ أعلى مِن أضوائِهم الشّخصيّةِ، وأقربُ إلى الحقيقةِ والجمالِ والإنسانِ الإنسان!

* هناكَ مَن وَصَفكَ أنّكَ نوستالجي مُتمرِّدٌ على العالمِ، لماذا أنتَ كذلكَ؟ وعلى ماذا ومَن تتمرّدُ في هذا العالمِ؟
- كلُّ إنسانٍ يجبُ أن يكونَ متمرِّدًا، ويجبُ عدمِ تعطيلِ هذهِ الصّفةِ في النّفسِ البشريّةِ، فالخنوعُ والرّضا والقناعةُ السّلبيّةُ، كلُّها وغيرُها، تجعلُ الإنسانَ كائنًا عرَضِيًّا، وهو ليسَ كذلكَ طبعًا؛ لأنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى كرّمَ آدم، وخلقَهُ على أحسنِ صورةٍ، وشكّلَهُ أجملَ تشكيلٍ، وقوّمَهُ أحسنَ تقويمٍ، كذلكَ كي لا يكونَ عُرضةً لانتهاكِ إنسانيّتِهِ مِن كائنٍ بشريٍّ فقَدَ إنسانيّتَهُ، لهذا، فالتّمرُّدُ الإيجابيُّ ضرورةٌ بشريّةٌ دائمًا، فما بالُكَ بالشّاعرِ، أو المبدعِ عمومًا؟ لا بدَّ مِن تفعيلِ هذهِ الحالةِ باستمرارٍ، لتقويمِ ما ينحرفُ مِن الحياةِ، وما يُبعِدُ الصّدقَ والجمالَ والحُبَّ عنها، لأغراضٍ شخصيّةٍ بحتةٍ. بالنّسبةِ لي، أنا دائمُ التّمرُّدِ على سلبيّاتِ الحياةِ، شِعرًا وشاعرًا، وأدعو للإبداعِ في كلِّ شيءٍ يكونُ لصالحِ الحياةِ، كي تبدو أصدقَ وأجملَ وأنقى، لهذا أتمرّدُ بِدءًا مِن الصّوتِ/ الكلامِ، وليسَ انتهاءً بالصّمتِ/التّأمُّلِ.

* قلتَ في حوارٍ سابقٍٍ: لستُ أُحدِّدُ لمَن أكتبُ ، أشعاري طيوري المريضةُ بالحُبِّ، أُطلِقُها مِن عزلةِ القلبِ إلى فضاءِ الفراغِ، لا أُريدُها أن تعودَ إليَّ، خشيةَ أن أُفسِدَها بوحشةِ الحنينِ"! أليسَ غريبًا أن لا يعرفَ الشّاعرُ لمن يكتبُ؟
- أن تُحدِّدَ لمن تكتبُ، يعني أن تكونَ المُرسِلُ والمُستقبِلُ في آن، أو أن تكونَ صدى الرّسالةِ! بمعنى؛ أن تعرفَ الجهةَ الّتي تكتبُ لها، لن يعدو هذا خطابًا شخصيًّا ولو كان إبداعًا. الشِّعرُ والكتابةُ عمومًا، هي طيورٌ (ليستْ حمامًا زاجلاً كما يريدُها الكثيرون)، تُطلَقُ في فضاءاتِ الرّوحِ والقلبِ والعقلِ، لهذا فهي لإنسانٍ في هذه الحياةِ، وليستْ تخصيصًا لإنسانٍ، أو جهةٍ معيّنةٍ، أو ما شابهَ ذلكَ، وخشيتي عليها نابعةٌ مِن أنّني لستُ أريدُها أن تعودَ إلى عزلتي الّتي انطلقتْ منها؛ أنا أحتملُ العزلةَ شاعرًا، لكن لا أحتملُ عزلةَ الشِّعرِ مُطلقًا.

* قلتَ إنّكَ لا تكتبُ الشِّعرَ مِن ألمٍ، ولا تُحبُّ أن تُقدّسَ الألمَ وتتغنّى بهِ، لكن، أليسَ الشِّعرُ النّابعُ مِنَ الألمِ والقلبِ يكونُ أصدقَ؟
- لا أكتبُ في وقتِ الألمِ، لأنّهُ مدى لحظاتٍ ساخنةٍ وكاويةٍ، فكيفَ يُمكنُ الشِّعرُ في وقتٍ كهذا، خصوصًا، وأنّ ذلكَ الوقتَ خارجَ نطاقِ التأمُّلِ الشِّعريِّ، وبالتّالي خارجَ نطاقِ الإبداعِ وديمومتِهِ؟! ما يُكتب فيه يكون تسجيلاً وتصويرًا فوتوغرافيًّا، أقربُ إلى التّأريخِ منهُ إلى الإبداعِ. أنا قلتُ وأقولُ: "السّيفُ للشّرِّ.. الطّيفُ للشِّعر"؛ أي يجبُ مقاومةُ الشّرِّ بالفِعلِ وليسَ بالقولِ، لأنَّ الكتابةَ وغيرَها مِن الفنونِ الإبداعيّةِ، ما عادتْ تُوقِفُ الأشرارَ في هذا العالمِ، أو حتّى تحُكّ ضمائرَهم، أو تُخجِلهم في أدنى هدفِها.

* هل تعتقدُ أنّ للشِّعرِ زمانًا ومكانًا؛ بمعنى هل يوجدُ وقتٌ ومكانٌ تكتبُ فيهِ الشِّعرَ؟
- ما مِن زمانٍ ولا مكانٍ لكتابةِ الشِّعرِ، هذا لأنّهُ شِعرٌ، ولأنّهُ يختلفُ عن كافّةِ الفنونِ الكتابيّةِ وغيرِ الكتابيّةِ الأخرى. الشِّعرُ يَحضرُ مِن تلقاءِ نفسِهِ، ولا يُخبرُ عن موعدٍ، لهذا على الشّاعرِ أن يكونَ عاليَ الانتباهِ لهُ، إذ لهُ إشراقةٌ أولى، على الشّاعرِ أن يكونَ مُستعِدًّا لها، وإلاّ انطفأتْ أمامَ عينيْهِ. بالنّسبةِ لي، فأنا ضمنَ هذه الفكرةِ، فلا مكانَ ولا زمانَ لكتابةِ الشِّعرِ، لكن لي اللّيلُ كي أُراجعَ ما كتبْتُهُ، أي حينَ يمنحُني اللّيلُ الوعيَ الّذي غابَ، حينَ كانَ الشِّعرُ يُهطِلُ صوَرَهُ على الورقِ الأصفرِ بمدادٍ أزرق.

* لماذا دائمًا تنحى إلى صياغةِ تشكيلاتٍ مختلفةٍ في إخراجِ نصِّكَ الشِّعريِّ؟ ولماذا تميلُ بالأكثر إلى الغموضِ؟
- أنا لا أكتبُ شِعرًا أُسمّيهِ الشِّعرَ التّشكيليِّ، لهذا فإنّ الشّكلَ البَصَريَّ في النّصِّ الشِّعريِّ له علاقةٌ مهمّةٌ جماليّةٌ، أي إبداعيّةٌ أيضًا، لأنّهُ مُتعلِّقٌ بالصّوَرِ، فهو كتابةٌ بالصّورِ، إذ ثمّةَ علاقةٌ وطيدةٌ بينَ الشِّعرِ والرّسمِ التّشكيليِّ، خصوصًا في الشِّعرِ الحداثيِّ، لهذا تأتي صياغةُ التّشكيلاتِ الفنّيّةِ مُتعلِّقةً بحركةٍ/حركاتِ المقطعِ، أو القصيدةِ كلّيّةً، لأنَّ النّصَّ الشِّعريَّ الحداثيَّ نصٌّ قرائيٌّ وليسَ نصًّا سماعيًّا، وبالتّالي مِن الصّعبِ متابعةُ حركةِ تشكيلاتِ الصُّورِ المُتخيّلةِ والمُتوالدةِ والمُتناميةِ، لهذا يَعتقدُ الكثيرونَ أنّ لغتي الشِّعريَةَ فيها الكثيرُ مِن الغموضِ، معَ العِلمِ أنّها لغةُ رسمٍ، أي لغةٌ بصَريّةٌ، بحاجةٍ إلى قارئٍ مبدعٍ أيضًا، كي يشتغلَ عليها مِن حيثُ التّأويلِ والتّفكيكِ، وإعادةِ تركيبِ النّصِّ مُجدّدًا، كأنّه يُعيدُ تمثيلَ دوْرِ الشّاعرِ، لكن بأسلوبِهِ الخاصّ.

* قلتَ بأنّ القراءةَ الشّاعرةَ تَشُدُّكَ إلى تجويدِ لغتِكَ الشّعريّة.. كيفَ ذلك؟ وهل هناكَ أهمّيّةٌ بمكانٍ، أن يتمكّنَ الشّاعرُ العربيُّ مِن القرآنِ الكريمِ؟
- بالعودةِ إلى كلامي السّابقِ، فإنّ ما عنَيْتُهُ هو القراءةُ الشّاعرةُ، إذ لا بدَّ منها في قراءةِ النّصِّ الشِّعريِّ الإبداعيِّ، وأنا كقارئٍ/كشاعرٍ/أقرأُ بهذهِ الطّريقةِ الّتي تُثري نصّيَ الشِّعريَّ جدًّا، كذلكَ فأنا أتعايشُ معَ النّصِّ الّذي أقرؤُهُ كأنّي كاتبُهُ، وهذهِ الحالةُ تمنحُني متعةً كبيرةً، خصوصًا إذا كانتْ درجةُ الاندهاشِ عاليةً ومتشاسعةً في مخيّلتي. بخصوصِ الجانبِ الآخرِ مِن سؤالِكَ، فإنَّ قراءةَ القرآنِ الكريمِ قراءةً مُتعدِّدةَ الاتّجاهاتِ تُثري كلَّ مبدعٍ، وليسَ الشّاعرَ فقط، ولقدِ انتبهتُ إلى هذا مِن خلالِ قراءتي، في بدايةِ تجربَتي الشِّعريّةِ، إلى كتاب سيّد قطب، "التّصويرُ الفنّيُّ في القرآنِ الكريم"، ومنهُ اشتغلتُ على لغتي الشِّعريّةِ، وحتّى غيرِ الشِّعريّةِ، لأنّ لغةَ الشِّعرَ غيرُ اللّغةِ العاديّةِ، ومبدئيًّا، فإنّ الشِّعرَ لغةٌ؛ هذا ليسَ أحدُ تعريفاتِهِ، بل مِن تكوينِهِ.

* تقولُ: "كتابةُ الشِّعرِ هي شمسُ السّؤالِ وظِلُّ إجابتِهِ". ما هيَ الأسئلةُ الّتي أجابَ عنها الشِّعرُ في زمانِنا؟ وماذا كانتِ الإجاباتُ؟
- إحدى وظائفِ الشِّعرِ أن يَطرحَ نوعيْنِ مِنَ الأسئلةِ المُهِمّةِ؛ الأسئلةَ الّتي أجوبتُها تكمُنُ في أداءِ الفِعلِ/الأفعالِ، أي أنّها أسئلةٌ تعملُ على التّحريضِ مِن أجلِ التّغييرِ نحوَ الأفضلِ والأجملِ والأنقى، والنوعَ الآخرَ مِن الأسئلةِ تُثيرُ التّأمُّلَ في كلِّ شيءٍ مِن أجلِ الصِّدقِ والحقيقةِ. إذًا؛ فالشِّعرُ لا يُقدِّمُ إجاباتٍ عن أسئلتِهِ، ولا يُجيبُ عن أيّةِ أسئلةٍ أخرى، فهذا ليسَ مِن أدوارِهِ أو مهمّاتِهِ، لأنّ "الشِّعرَ مُساءلةٌ للماهيّةِ لا تعبيرٌ عنها"، كما قالَ مارك دوتي.

* أنتَ ترى أنّ القصيدةَ تكتملُ بنقصانِها. كيف؟
- ما مِن قصيدةٍ كاملةٍ، لأنّ الشّاعرَ مهما بلغَ مِنَ الموهبةِ والثّقافةِ وأدواتِ الشِّعرِ، يَعجزُ عنِ الإحاطةِ الكلّيّةِ بالموضوعِ الّذي يُثيرُ شهوةَ الشِّعرِ لديهِ، حتّى لو كانَ الموضوعُ/المضمونُ صغيرًا، لأنّ عملَ الشّاعرِ المُبدعِ كمَنْ يُحاولُ نسْجَ سجّادةٍ مِن خيوطٍ متناثرةٍ/متطايرةٍ/متشابكةٍ، أي أن المخيّلةَ والثّقافةَ واللّغةَ واللاّوعيَ و...، تَنشطُ حركاتُها أثناءَ الفِعلِ الشِّعريِّ، لأنّها عواملُ تلقيحٍ للنّصِّ الشِّعريِّ، وبالتّالي فإنّ قدرةَ الشّاعرِ تعجزُ عن تحقيقِ/كتابةِ كلِّ ما يُحاولُ أن يجعلَهُ في قصيدتِهِ. هنا يكونُ اكتمالُ القصيدةِ بنقصانِها، أي بانتهائِها، بمعنى أنّ القصيدةَ لا تكتملُ لكنّها تنتهي. الانتهاءُ هو إحساسُ الشّاعرِ بعدمِ قدرتِهِ، بعدَ محاولاتٍ عدّةٍ، على فِعلِ أيِّ شيءٍ أخرَ للقصيدةِ، وهنا يُمكنُ أن نُسمِّيَها القصيدةَ الجاهزةَ، وهي الّتي بإمكانِ الشّاعرِ أن يَنشرَها، لتَخرجَ مِن بينِ احتراقاتِهِ طائرًا مُستعِدًّا أن يَحُطَّ على يدِ قارئٍ يُشيرُ إليهِ بعينِهِ الثّالثة.

* أيّةُ مجموعةٍ مِن مجموعاتِكَ الشِّعريّةِ أحَبُّ إليكَ؟ ولماذا؟
- كلُّ قصيدةٍ كتبتُها في زمنِها الخاصِّ بها، كانتْ أقصى ما احترقتُ لأجلِها آنَها، لهذا لا قصيدةٌ ولا مجموعةٌ شعريّةٌ مفضّلةً لديَّ على غيرِها. لستُ مِنَ الشّعراءِ الّذينَ يَندمونَ على قصائدَ سابقةٍ لهم، أو يعدمونَها في طبعةٍ تاليةٍ بحُججٍ ما، حتّى لو كانتْ حجّةً تتعلّقُ بفنّيّةِ الشِّعرِ كما يَزعمونَ، لأنَّ الفنّيّةَ متعلِّقةٌ بزمنِ القصيدةِ كما ذكرتُ. أولئكَ الشّعراءُ الّذينَ يَفعلونَ هذا، هم شعراءُ مُتقلِّبونَ كلّما تقلّبتِ المواقفُ، وأعرفُ شعراءَ معروفينَ ومشهورينَ فعلوها. المفروضُ أنّ للشّاعرِ مواقفٌ أبديّةٌ، وبالتّالي يَكتبُ قصائدَ دائمةَ الخضرةِ، وليسَ قصائدَ تتلوّنُ بألوانِ الفصولِ الشّخصيّةِ.

* أنتَ ترى أنّ كثيرًا مِنَ الشِّعرِ العربيِّ هو في نطاقِ النّظمِ، أي ليسَ بشِعرٍ قياسٍا لمفهومِ الشّاعريّةِ والشِّعرِ، ألا تعتقدُ بأنَّ ذلكَ تَجَنٍّ على مسيرةِ الشِّعرِ العربيِّ؟
- معظمُ الشِّعرِ العربيِّ قديمُهُ وحديثُهُ واقعٌ في مجالِ النّظمِ واللّغةِ العاديّةِ الخاليةِ مِن أيّةِ مخيلةٍ، ربَما لأنّهُ أقربُ إلى الشّفاهةِ والاستماعِ منهُ إلى القراءةِ. الشِّعرُ أثرةُ لغةً، وأعلى فضاءً، وأكثرُ شساعةً مِن هذهِ الرّؤيةِ. قلْ لي أينَ الشِّعرُ في هذا البيتِ: "ألقاهُ في اليمِّ مكتوفًا وقالَ لهُ/ إيّاكَ إيّاكَ أن تبتلَّ بالماءِ"؟ ثمّ وإذا لم يكنْ مكتوفًا، ألا يبتلُّ أيضًا؟ قياسًا لهذيْنِ البيتيْن: "ولقد ذكرتُكِ والرّماحُ نواهلٌ/ منّي وبيضُ الهندِ تقطرُ مِن دمي/ فوددْتُ تقبيلَ السّيوفِ لأنّها/ لمعتْ كبارقِ ثغرِكِ المبتسِمِ"! هذا ما أعنيهِ في رأيي؛ أعني الفارقَ بينَ الشِّعرِ واللاّشعرِ. الشِّعرُ أكثرُ مِن كلماتٍ مصفوفةٍ لحاجةِ العروضِ، أو لا تُشكَّلُ مِن خلالِ لغةِ الشّاعرِ الفارقَ بينَ الواقعيِّ المحسوسِ والمُتخيَّلِ المبدَعِ. ما زالَ كثيرٌ مِن النّاسِ يبحثونَ عنِ الموضوعِ المباشرِ مِن أجلِ الفهمِ المباشرِ، لهذا ما زالوا يَعزفونَ عن قراءتِهِ بحجّةِ الغموضِ واللاّفهمِ وهكذا. الشِّعرُ يَختلفُ عن كلِّ الفنونِ الكتابيّةِ الأخرى، ولا بدَّ مِنَ ارتقاءِ القرّاءِ إلى لغتِهِ أوّلاً.

* على هامشِ "فعاليّاتِ أسبوع حسين البرغوثي للثّقافةِ الفلسطينيّةِ" الّذي نظّمَهُ بيتُ الشِّعرِ الفلسطينيِّ، منتصفَ العامِ 2008م جرى تكريمُكَ.. خلالَ تكريمِكَ انهمرَتْ دموعُكَ كطفلٍ.. لماذا كلُّ هذا الانفعالِ بسببِ تكريمٍ بسيطٍ؟
- لم تكنْ بسببِ التّكريمِ، لقد حبستُ دموعي قبلَ أن تسبقَ كلماتِ كلمتي، وحاولتُ التّماسُكَ جيّدًا، لكنّها انهمرتْ حينَ وصلتُ إلى الحديثِ عنِ المعاناةِ المريرةِ الّتي عشناها في "بيتِ الشِّعر" منذُ انتفاضةِ الأقصى، ومرحلةِ الاجتياحِ الدّمويِّ، حيثُ آثرْنا البقاءَ هنا نعملُ، على أن يَظلَّ هذا البيتُ مفتوحًا وفاعلاً، وأن تظلَّ هويّتُهُ الأولى "مجلّة الشّعراء" تصدرُ كلَّ فصلٍ، حيثُ كانَ الإخلاصُ والصّدقُ وأداءُ الأمانةِ، على حسابِ عائلاتِنا الّتي تركناها وحدَها ونحنُ بعيدونَ عنها، مسافةَ ما بينِ الأرضِ والقمرِ، بسببِ حواجزِ الاحتلالِ الّتي كانتْ أكثرَ مِن عددِ خطواتِنا، لدرجةٍ كدْنا أن ننسى عائلاتِنا الّتي تحتاجُنا، ونحنُ في خِضمِّ الأحداثِ الخارجيّةِ والعملِ الدّؤوبِ الدّاخليِّ.

* ما الّذي تعنيهِ لكَ المرأةُ؟ ولماذا تميلُ إلى التّأنيثِ في كثيرٍ مِن أشعارِكَ؟
- كشاعرٍ، فإنّ المرأةَ هي الضّلعُ الرّئيسُ للحياةِ الّتي تُبرعمُ أزهارَها شعرًا يتجمّلُ بها، أمّا التّأنيثُ في شعري فهو ظاهرةٌ لم أنتبهْ إلى أنّني أشتغلُ عليها، رغمَ أنّها كانتْ منذُ بداياتي، فقد لفَتَ انتباهي إلى أنّها ظاهرةٌ شعريّةٌ لديَّ، مثلَ ظاهرةِ التّأنيسِ والأنسنةِ، هو د.خليل حسّونة في كتابِهِ "ضفاف الأنثى- سطوةُ اللّحظةِ وطقوسُ النّصِّ- مقارباتٌ في شِعرِ محمّد حلمي الرّيشة، الصّادر سنة 2005، حيثُ تناولَ عَشرًا مِن مجموعاتي الشِّعريّةِ، رغمَ اللاّوعيِ حينَ كتابةِ القصيدةِ، وبرزتْ هذهِ الظّاهرةُ أكثرَ في المجموعاتِ الشِّعريّةِ "هاوياتٌ مخَصّبةٌ" 2003، و"أطلسُ الغبارِ" 2004، و"معجَمٌ بِكِ" 2007، و"كأعمًى تقودُني قصبةُ النّأيِ" 2008، لقد منحتْني هذهِ الظّاهرةُ أفقًا شِعريًّا أوسعَ، وفضاءً أبعدَ مدًى، مُنطلِقًا مِن بؤرةِ التّأنيثِ في أغلبِ أشياءِ الحياةِ.

* أنتَ تُؤْمِنُ بأنَّ المُبدعَ يجبُ ألاّ يكتفيَ بقراءةِ نتاجِ أُمّتِهِ.. إلى أيِّ الثّقافاتِ تميلُ في قراءتِكَ؟ وما هي الفوائدُ المَرجُوّةُ مِن أن يَطّلعَ المُبدعُ العربيُّ على ثقافةِ الآخرينَ؟
- بالضّرورةِ أن تتقاطعَ وتتلاقحَ الثّقافاتُ على اختلافِها في العالمِ، فهذهِ الحركةُ تُثري التّجاربَ الثّقافيّةَ بينَ الأممِ، وتُقرّبُ المعرفةَ نحوَ فهْمِ الآخرِ، وحتّى الآخر النّقيض، فالآخرُ حُمِّلَ بأفكارٍ سلبيّةٍ عنّا، وما زلنا نُعاني منها حتّى الآن، لهذا علينا أن نشتغلَ على إيصالِ ثقافتِنا المتميّزةِ بشتّى الوسائلِ، وأن نسبُرَ أغوارَ الثّقافاتِ الأخرى، كي يَسْهُلَ علينا أن نعرفَ كيفَ يُفكِّرونَ، خصوصًا تجاهَنا، وبالنّسبةِ لي، فأنا لا أميلُ إلى ثقافةٍ معيّنةٍ، بل إلى كلِّ ما يمكنُ الوصولُ إليهِ منها، ليسَ لغرضٍ شخصيٍّ إبداعيٍّ فقط، بل لهدفٍ أسمى يَكمُنُ في مسْحِ الغبارِ، ومعالجةِ الخدوشِ الّتي تَضِجُّ منها صورتُنا.

* كيفَ تُقَيِّمُ حركةَ النّقدِ الأدبيِّ في فلسطين؟ وأيُّ النّقّادِ تتوسّمُ فيهم خيرًا؟
- ما مِن حركةٍ نقديّةٍ أدبيّةٍ هنا يمكنُ الإشارةَ إليها حتّى بنِصفِ إصبعٍ، أو نظرةِ عينٍ عابرةٍ. ثمّةَ إبداعاتٌ تمُرُّ دونَ أن يَلتفتَ إليها حتّى المبدعينَ أنفسِهم والمتخصّصينَ في قراءتِها ودراستِها، وكلُّ ما نراهُ ونقرؤُهُ مجرّدَ دراساتٍ أكاديميّةٍ جامعيّةٍ لنيْلِ درجاتٍ عليا، وبالتّالي تكونُ ضمْنَ إطارٍ محدودٍ، ومنهجٍ لا يُطلقُ النّقدَ الإبداعيَّ، أو أنّ الّذينَ يشتغلونَ على هذا ليسوا مبدعينَ أصلاً، كما أنّها غالبًا ما تكونُ دراساتٍ أو أشباهَ دراساتٍ، غيرَ متعلِّقةٍ بإبداعِنا الفلسطينيِّ، أو يتمُّ التّركيزُ على بضعةِ مبدعينَ، دونَ متابعةٍ لِما يُنتَجُ كلَّ وقتٍ مِن إبداعاتٍ تستحقُّ الاهتمامَ النقديَّ. هذا ما لاحظتُهُ منذُ متابعاتي للنّقدِ الأدبيِّ لسنواتٍ طويلةٍ، معَ التّأكيدِ بأنّ النقدَ عمومًا لا يصنعُ مبدِعًا، حتّى ولو كانَ نقدًا إبداعيًّا. الفكرةُ الأفضلُ برأيي هي، أن لا حاجةَ لنقدِ الشّعرِ الإبداعيِّ، لأنّهُ لا يستطيعُ أن يتحسّسَ غِلافَهِ، وإن حاولَ أن يَسبُرَ أغوارَهُ، فإنّهُ لا يستطيع سوى خدْشِ الجمالِ فيهِ.

* هناكَ الكثيرُ مِن المجلاّتِ الأدبيّةِ في فلسطين الّتي احتجبتْ عنِ الصّدورِ.. ما الّذي يَعنيهِ أن لا يكونَ هناكَ ولا مجلّةٌ أدبيّةٌ واحدةٌ في فلسطين؟
- ثمّة مسألةُ القراءةِ عمومًا، فالقرّاءُ يتناقصونَ بشكلٍ مستمرٍّ أمامَ اجتياحِ المرئيِّ المُدمّرِ، وكذلكَ المثقَّفونَ وهُم الشّريحةُ الأهمُّ، إذ ما عادتْ أهمّيّةُ القراءةِ تَعنيهِم، وحتّى الأدباءِ وهنا الأسفُ الأكبرُ، فلا أحدَ يقرأُ لأحدٍ، ولا أحدَ ينادي على أحدٍ! ثمّةَ مسائلُ خارجَ نطاقِ الإبداعِ تعنيهم شخصيًّا، وتَحْكُمُ العلاقاتِ بينهم، لهذا فالكثيرونَ منهم لا يقرؤونَ بعضَهم بعضًا، وإنْ فعلوا فلا يتعدّى اسمَ الكتابِ على الأغلبِ. هذهِ هي حالةُ معظمِ الكتّابِ، وهذا انعكسَ على المجلاّتِ الأدبيّةِ أيضًا، فلا قرّاءَ لها، وهذا مُحبِطٌ جدًّا، كذلكَ فإنّ التّمويلَ توقّفَ عن بعضِها، مثلَ مجلّةِ "الشّعراء" الّتي يُصدرُها "بيتُ الشِّعرِ الفلسطينيِّ"، وكانَ محمود درويش قد أوقفَ مجلّةَ "الكرمل" قبلَ رحيلِهِ بسنتَيْنِ، رغمَ توفُّرِ التّمويلِ لكنّها كانتْ بلا قرّاء. هاتانِ المجلّتانِ كانتا الأبرزَ، وإنّني أعتبُ على الأدباءِ قبلَ جهاتِ التّمويلِ الرّسميّةِ، الّذينَ لم يُحافظوا بإمكاناتٍ بسيطةٍ منهم على مثلِ تلكَ المجلاّتِ المُهمّةِ، وبِتْنا هنا بلا أيّةِ مجلّةٍ أدبيّةٍ لغايةِ الآن.

* اتّحادُ الكتّابِ الفلسطينيّينَ دخلَ في مرحلةِ المجهولِ.. إلى أينَ تتّجهُ الأمورُ بهذا الخصوص؟ وما هي الأسبابُ الّتي تَحُولُ دونَ ترتيبِ الأدباءِ والكُتّابِ لأوضاعِهم؟
- لستُ مِنَ الّذينَ يَعتقدونَ بأهمّيّةِ أيّةِ أُطُرٍ ثقافيّةٍ مهما كانتْ، لأنّها لم تُثبِتْ حتّى الآنَ فاعليّةً حقيقيّةً للكُتّابِ. لقد جرّبَ الكُتّابُ الاتّحادَ أكثرَ مِن مرّةٍ، وكانَ كلَّ مرّةٍ يتميّزُ بالتّسييسِ والفرديّةِ، معَ العِلمِ أنّهُ يجبُ أن يتميّزَ بدوْرِهِ في الإبداعِ، دونَ حساباتٍ فصائليّةٍ أو حزبيّةٍ أو تنظيميّةٍ، حيثُ كانتْ تصيبُهُ كلَّ مرّةٍ في مَقتلٍ، لكنَّ الحالَ هو هكذا دائمًا، لهذا كانَ بفشلٍ كلَّ مرّةٍ، حتّى بوجودِ المُوازناتِ مِنَ الجهةِ الرّسميّةِ.

* أنتَ تتمتّعُ بعلاقاتٍ جيّدةٍ مع الكُتّابِ الفلسطينيّينَ داخلَ الخطِّ الأخضرِ.. كيفَ تُقيِّمُ العلاقةَ بينَ الأدباءِ على طرفََي الخطِّ الأخضرِ؟
- ليسَ ثمّةَ تواصلٌ وتفاعلٌ بينَهم! لقد سعيْتُ بشكلٍ شخصيٍّ منذُ مدّةٍ طويلةٍ، كي يبقى الجسرُ الثّقافيُّ ممتدًّا بينَنا بشكلٍ دائريٍّ، بينَ الجزءِ الفلسطينيِّ المحتلِّ سنة 1948، والجزءِ الفلسطينيِّ المحتلِّ سنة 1967 وكذلكَ الشّتاتِ، على اعتبار أنّ الثّقافةَ الفلسطينيّةَ هي ثقافةُ شعبٍ واحدٍ، لا يُمكنُ القبولَ بتجزئتِها استنادًا إلى مقياسٍ جغرافيٍّ. لقد أصدرْنا السّنةَ الماضيةَ كتابًا بعنوان: "نوارسُ مِن البحرِ البعيدِ القريبِ - المشهدُ الشِّعريُّ الجديدُ في فلسطين المحتلّةِ 1948"، كي نُبرزَ هذا المشهدَ ونُخرجَهُ مِن عزلتِهِ الّتي تُضعفُ هويّتَهُ، ونَسحبَهُ باتّجاهِ فلسطين كلِّها، وذلكَ بتركيزِ الضّوءِ عليهِ، وليسَ لتخصيصِهِ جغرافيًّا. لقد قلنا في تقديمِ الكتابِ ما يوضحُ وجهةَ نظرِنا واعتقادِنا الدّائمِ: "لم نشعرْ أو نؤمنْ نحنُ الكثيرونَ مِنَ الشّعراءِ، وغيرُنا مِنَ المبدعينَ على اختلافِ نتاجاتِهم، وغيرُنا الكثيرون أيضًا، أنّ فلسطينَ التّاريخيّةَ باتتْ أكثرَ مِن كيانٍ جغرافيٍّ، بأفعالِ السّياسيِّ المزمنةِ مِن أيِّ طرفٍ، إذ إنّها لا تحتملُ بل ولا تُطيقُ غيرَ أهلِها الأصلِ في حضنِها، وإنَّ ما حدثَ ويحدثُ، أو سوفَ يحدثُ لجسدِها المشروخِ مِن أكثرِ مِن جهةٍ فيهِ وعليهِ، لن يمحوَ أنّها واحدةٌ بأرضِها وبحرِها ونهرِها وسمائِها.. هي فلسطينُ كانتْ مذْ يومَ وُجدتْ، وستبقى بهذا ابتداءً مِنَ اسمِها، وليسَ انتهاءً بأيِّ شيءٍ ينتمي لها، إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ وما عليها"، وكذلكَ أشَرْنا بوضوحٍ إلى أنّ: "ثمّةَ تقصيرٌ واضحٌ فاضحٌ بخصوصِ تبنّي المشهدِ الثّقافيِّ في الجزءِ الفلسطينيِّ المحتلِّ سنة 1948، مِن قِبَلِ المؤسّسةِ الثّقافيّةِ الرّسميّةِ وغيرِها، في اجتذابِ الطّاقاتِ الإبداعيّةِ، وترْكِها عُرضةً للتّهميشِ والإهمالِ، وإذا كانتِ الحواجزُ المصطنعَةُ تَحولُ دونَ التّواصلِ الجغرافيِّ، فإنّنا بهذا العملِ نُضيءُ ونجمعُ ونُعيدُ المشهدَ الجزئيَّ إلى كلّيّتِهِ، ونُعيدُ حتّى الولدَ الضّالّ والمُضلَّلَ بالقذى، إلى حاضنِتِهِ الأمّ".

* في مقالةٍ لكَ في ذكرى استشهادِ غسّان كنفاني تقولُ: "في ذكرى الموتِ يَذكرُ الفلسطينيُّ الولادةَ، لهذا لا أخشى الموتَ حتّى وإن لوّح لي بعذاباتِهِ مرارًا.. لا أخفي أنّني لستُ شجاعًا إلى درجةِ الانتحارِ، لكنّي أحاولُ البطولةَ بتفاؤلٍ لأنتصرَ في يومٍ ما، فهُم لا يستطيعونَ أن يقتلوا النّصَّ الفلسطينيَّ". أما زلتَ تعتقدُ أنَّ الفلسطينيَّ لم ينْحَنِ أمامَ كلِّ العواصفِ العاتيةِ الّتي تهُبُّ عليهِ. وهل ما زالَ يتذكّرُ الولادةَ ويؤمنُ بحتميّةِ الانتصارِ؟
- لا شكَّ أنّ الإنسانَ الفلسطينيَّ أشبهَ بالعنقاءِ أو الفينيقِ، لهذا سرعانَ ما تراهُ ينهضُ بعدَ كلِّ مأساةٍ/مجزرةٍ/محرقةٍ مِن رمادٍ كماردٍ معجَزٍ، يُثيرُ دهشةَ وحيرةَ العدوِّ قبلَ الأخِ الصّديقِ، لهذا فإنَّ موتَهُ المتكرِّرَ هو ولادةٌ متجدّدةٌ دائمًا، لأنّهُ مؤمنٌ بوجودِهِ الإنسانيِّ، وبحقِّهِ في الأرضِ والماءِ والهواءِ والحياةِ، لهذا عجزَ الآخرُ النّقيضُ عن محوِهِ وإفنائِهِ، أو تذويبِ هويّتِهِ، أو حتّى سلْبِهِ إيمانَهُ بها.

* هل تعتقدُ أنّ أبناءَ جيلِكَ مِنَ الشّعراءِ والأدباءِ الفلسطينيّينَ قد تعرّضوا لظُلمِ ذوي القربى؟ كيف؟
- رغمَ عدمِ قبولي لفكرةِ "المُجايلةِ" في الإبداعِ، وكذلكَ إيماني بأنَّ الإبداعَ عملٌ فرديٌّ، فإنّني أعتقدُ أنّ ثمّةَ ظلمًا بيِّنًا وإنكارًا دائمًا، مع سبْقِ الإصرارِ لغرضٍ مريضٍ في النّفوسِ، حاولتْ وما زالتْ تحاولُ أن تمحُوَ المبدعينَ في فلسطين التّاريخيّةَ، ليسَ مِن جيلِنا فقط، بل مِن كلِّ الأجيالِ الّتي غرستْ أصابعَ يدِها في التّرابِ الممزوجِ بدمِها، وغرستْ أصابعَ يدِها الأخرى في رقاعِ جِلْدِها المُعذَّبِ، كي تكتبَ ديمومةَ هويّتِها ووجودِها على أرضِ وطنِها. لقد صدرتْ عدّةُ أنطولوجيّاتٍ ومختاراتٍ شِعريّةٍ، عملَ واضعوها بكلِّ سوءِ نوايا ولاعتباراتٍ شخصيّةٍ مريضةٍ، على التّعتيمِ على معظمِ الأسماءِ وإن ذُكِرَ بعضُها، فهي إمّا لرفعِ العتبِ المشبوهِ، أو لها مصالحُ شخصيّةٌ، مع أنّنا أنجزنا في "بيتِ الشِّعرِ الفلسطينيِّ" عدّةَ أنطولوجيّاتٍ ومختاراتٍ شِعريّةٍ، مثل: "شعراء فلسطين في نصف قرن 1950-2000"، و"إيقاعاتٌ برّيّةٌ- شعريّاتٌ فلسطينيّةٌ مختارة"، و"نوارسُ مِنَ البحرِ البعيدِ القريبِ- المشهدُ الشِّعريُّ الجديدُ في فلسطينَ المحتلّة 1948"، وكانَ شعارُنا الأساسُ أن نُزيلَ العتمةَ أو الظِّلَّ الثّقيلَ، عن كثيرٍ مِنَ الأسماءِ الشِّعريّةِ الّتي تستحقُّ الوجودَ والحضورَ في المشهدِ الشِّعريِّ الفلسطينيِّ، ولم يكنْ في نوايانا أيَّ غرضٍ شخصيٍّ تجاهَ شاعرٍ دونَ آخر، سوى الفنّيّةِ الشّعريّةِ وإن تعدّدتْ مستوياتُها. لا بأس، لأنّ ما مِن أحدٍ يستطيعُ أن يمحُوَ أحدًا مبدعًا، مهما كَبُرَ حجمُ غربالِهِ تحتَ الشّمسِ.

* هناكَ مَن يتحفّظُ أو حتّى يرفضُ أن يكونَ المثقّفُ قريبًا مِنَ السُّلطةِ.. هل تعتقدُ أنّ قربَ المثقّفِ مِنَ السُّلطةِ يَدفعُهُ إلى التّنازلِ عن كثيرٍ مِن مبادئِهِ؟
- لا بدَّ أن يكونَ المثقّفُ خارجَ نطاقِ السُّلطةِ، كي يتمتّعَ بمساحةِ حرّيّةٍ لرأيِهِ الآخر، والّذي هو بالضّرورةِ رأيٌ مغايرٌ، لأنّ السّياسيَّ محكومٌ بالواقعِ ولهُ اعتباراتُهُ الدّنيا، بينما المثقّفُ الوطنيُّ الحقيقيُّ يُؤمنُ بالأفكارِ الكلّيّةِ الّتي يلتزمُ بها، حارسًا لها، قارعًا أجراسَ الإنذارِ حينَ يستشعرُ أمرًا يخرجُ عن إطارِ الأهدافِ الوطنيّةِ، مهما كانتْ مِن سياسيّةِ ،اجتماعيّةٍ، اقتصاديّةٍ،...، لهذا لا يمكنُ أن يكونَ المثقّفُ في السُّلطةِ أو قريبًا منها، لأنّهُ سيقعُ في إحدى حالتين: إمّا أن يقعَ في التّناقضِ في مواقفِهِ بينَ الفِعلِ والقوْلِ، وإمّا أن يقعَ في النِّفاقِ، وكلتا الحالتانِ أكذوبةٌ مهما كانَ لونُها وشكلُها وحجمُها، لأنّهُ غيرُ مقنعٍ مهما قدّمَ مِن دفاعاتٍ أو ادّعى مِن ثقافةٍ، وللأسفِ ما يزالُ مثلُ هذا "المثقّفِ" موجودًا، بل ويتكاثرُ لاعتباراتٍ أنانيّةٍ وفرديّةٍ وتمركزيّةٍ، لهذا هو خارجُ نطاقِ الحقيقةِ مهما حاولَ إثباتَها.

* هل هناكّ ثمّةَ شيءٌ تندمُ عليهِ في مسيرتِكَ الأدبيّةِ؟
- ليس بمعنى النّدمِ، إنّما بمعنى العبثِ! ثمّةَ شعورٌ تكرّرَ لديَّ، أنّ الكتابةَ عبثٌ. لقد كتبتُ عن هذا أكثرَ مِن مرّةٍ خلالَ مسيرتي الشِّعريّةِ، وأكثرَ مِن مرّةٍ هربتُ مِنَ الشِّعرِ وبي رغبةٌ أن لا أعودَ إليهِ، لكنّهُ ظَلَّ يأتيني، وهذا أكّدَ لي أنّ الشّاعرَ لا يذهبُ إلى القصيدةِ، بل هي الّتي تأتيهِ بإشراقتِها، لهذا عليه أن يكونَ منتبهًا وحاضرًا لها، وإلاّ خسرَ تلكَ اللّحظةِ الّتي قد تكونُ قصيدةً.

* ما الّذي يحلمُ به الشّاعرُ محمّد حلمي الرّيشة؟
- أحلمُ بأشياءَ كثيرةٍ؛ أحلمُ بقرّاءَ شِعرٍ يعشقونَ لغتَهم العربيّةَ، كي يرتقوا بها إلى لغةِ الشِّعرِ، وأحلمُ بجريدةٍ أدبيّةٍ يوميّةٍ، وأحلمُ بمجلّةٍ أسبوعيّةٍ، وأحلمُ بدارِ طباعةٍ ونشرٍ وتوزيعٍ، وأحلمُ بإلغاءِ وزارةِ الثّقافةِ أسوةً بالدّولِ الّتي فعلتْها، لأنَّ الثّقافةَ يجبُ أن تكونَ خارجَ المؤسّسةِ الرّسميّةِ، حيثُ الثّقافةُ عملٌ فرديٍّ يؤدّي إلى عملٍ جماعيٍّ حرٍّ ومسؤولٍ في آن، وأحلمُ أن أرى فلسطينَ دولةً حرّةً، وذاتَ أنموذجٍ ثقافيٍّ يسطعُ على الأخرياتِ عربيًّا وعالميًّا، و.... لم أزلْ أحلمُ أن أكونَ شاعرًا.
.

التعليقات