أطياف "الأب الحنون" / أحمد إغبارية

-

أطياف
تبدو العبارة المأثورة عن الطالب الذي يغرف من العلم ما يعادل "حمولة بعير"، أو تلك المنسوبة إلى حكيم وصف مثقف زمانه بأنه "رجل يعرف عن كل شيء شيء، ويعرف عن الشيء كل شيء" عبارتين من عصر ديناصوري ما عادت دقائق الحياة المعاصرة تتسع لهما. فالثقافة بالنسبة للحكيم هي العلم، والمثقف هو العالِم، ولمّا كان العلم يقاس بكميته وحجمه وتشعبه، فإن المثقف\العالم هو الشخص الذي يعرف أكثر من سواه، بل إن معرفته تطال جملة من العلوم وتحيط بتفاصيل بعينها ("الأخذ من كل شيء بطرف").

بمنأى عن ذلك، نجد أن المعادلة الحداثية تقتضي علاقة ثقافية تقوم على المعية التفاعلية، فالأكاديمي المثقف ليس مجرد ناقل للثقافة بل هو منتج لها، وإنتاجها مشروط بنجاعة الدور الذي يناط بها وبمدى استلهامها وتذويتها وتسليط الضوء عليها، لا لتبجيلها وتحنيطها ولكن لنقدها، لا لقولبتها وسَرْدَنتها ولكن لمناقشتها وتقييمها. وشخصية الأكاديمي، في هذه الحالة، أبدًا متطورة لأنها في سعي دؤوب نحو قبول النقد والمراجعة، وقبول النقد، أساسًا، من متلقيها الأول: الطالب سواء كان في سنته الدراسية الأولى أو في دراساته العليا المتقدمة.

لا يبدو أن الأكاديمي العربي قد تمثل الطفرة التي طرأت على مفهوم الثقافة حداثيًا، فهو إلى الآن لا يزال معلقًا بربقة من مفاهيم الثقافة الأبوية ومعانيها ووظائفها، ولا يزال حبيس أبراج المعرفة والمكتبات المقفلة، ينظر إلى نفسه باعتباره خزانة للعلوم ومرجعية معلوماتية متفردة وظيفتها تقديم الأجوبة الجاهزة والناجزة والانتقائية في عصر فُتحت فيه أبواب المعرفة على مصراعيها وصارت في متناول الجميع. ليس هذا فحسب، بل نجده في كثير من الأحيان رافضًا للشراكة المعرفية والتعاون البحثي مع الآخرين على اعتبار أن هذا مجاله الحيوي الاختصاصي الذي لا ينازعه فيه منازع ولا يفوقه فيه أحد، وهو بسلوكه هذا يحتكر المعرفة، يسلّعها ويتعامل معها بلغة المادة ووفق مفاهيم السوق.

ومع أن كثيرًا من هذه الملامح راسخة في شخصية الأكاديمي أيًا كان، فهي في حالة الأكاديمي العربي تأخذ طابعًا ذا فرادة، سيما وهذا الأخير يمثل سلطتين في آن معًا: "الأب الحنون" من ناحية، ومحتكر المعرفة من ناحية أخرى. وطبيعي أن تتفاعل هاتان السلطتان في شخصيته وتولدان أنماطًا سلوكية من قبيل الحفاظ على مسافة فاصلة بينه وبين طلابه، اللجوء إلى إستراتيجية التعامل البيروقراطي، الاهتمام بالمظهر الخارجي الرسمي المتكلف والتشدد في ثياب تعطي هيبة وتسريحات تنمّ عن محافظة (المِفرق الجانبي، غالبًا). أقول هذا مفترضًا مقارنة ضمنية يعقدها القارئ مع الأكاديمي اليهودي الذي يمثل نموذجًا مغايرًا أولاً، ومن باب جلد الذات ثانيًا، على اعتبار أن كاتب هذه السطور أكاديمي هو الآخر.

تتجلى الأبوية الأكاديمية في التعامل المباشر بين المحاضر العربي وتلميذه العربي، ففي حال عدم اعتبار المحاضر تلميذه منافسًا مستقبليًا فإنه لا يلبث يسرد عليه قصة حياته بجزئياتها المتعبة: كيف بدأ وكيف ثابر وكيف تدرّج إلى أن وصل إلى ما وصل إليه، ثم يُفهمه - على طريقته - بأن نجاحه مشروط بالإخلاص له ولسيرته. والطالب العربي، الذي لا يجد خيارات كثيرة أمامه، يتورّط في علاقة تماهٍ مع أستاذه (الأب الأكاديمي) إلى درجة قد تنتهي بكبت انطلاقاته، استلاب شخصيته وإجهاض إحساسه بالنقد وقدرته على التحري.

أن ينظر الأكاديمي إلى نفسه بوصفه ناقلاً للمعرفة لا صانعًا لها، بدراية أو بغير دراية، معناه فرض علاقة من التبعية مع طالبه بشكل يتحدد فيه دور الأكاديمي بما يعرضه من بضاعة معرفية ودور الطالب بمدى ما يستهلكه ويخزنه من هذه البضاعة، ويصبح نجاحه مرهونًا بمدى اقتفائه نهج أستاذه، أي، أن يحذوه حذو النعل بالنعل، أن يكرره، أن يقتبسه وأن يحيل إلى كتاباته وأبحاثه قدر المستطاع.

الجامعة الإسرائيلية تعمل على تجريد الأكاديمي العربي من وجدانه الوطني ومن إبائه القومي، فلا يبقى له إلا أن يتصرّف بمنطقه الأبوي، وفي بعض الأحيان الطائفي أو المناطقي، وهو بدوره يعمل على تجريد طالبه العربي من كبريائه الشخصي ومن خصوصيته.

ما معنى أن يطالب البعض بزيادة الأكاديميين العرب في الجامعات الإسرائيلية؟ هل هي مسألة تكاثر كمي؟! ما جدوى الكثرة إذا كانت العينات، في غالبها، من تلك التي حاولنا وصفها؟!

التعليقات