أيرضيك هذا الغناء يا ابن خلدون؟/ رشاد أبو شاور

-

أيرضيك هذا الغناء يا ابن خلدون؟/ رشاد أبو شاور
جاء في مقدمة جدنا عبد الرحمن (ولي الدين)، بن محمد بن أبي بكر محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون، وهو تونسي يرجع أصل عائلته إلي (حضرموت) في اليمن، في المقدمة التي اشتهرت أكثر من كتابه الضخم الذي عنوانه كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيّام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر عن الغناء ما يلي: هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة، بتقطيع الأصوات علي نسب منتظمة معروفة، يوقّع علي كل صوت منها توقيعاً عند قطعة فيكون نغمة. ثمّ تؤلّف تلك النغّم بعضها إلي بعض علي نسب متعارفة، فيلذّ سماعها لأجل ذلك التناسب، وما يحدث من الكيفيّة في تلك الأصوات. وذلك أنّه تبيّن في علم الموسيقي أنّ الأصوات تتناسب، فيكون: صوت، نصف صوت، وربع آخر، وخمس آخر، وجزء من أحد عشر من آخر.

واختلاف هذه النسب، عند تأديتها إلي السمع يخرجها من البساطة إلي التركيب. وليس كل تركيب منها ملذوذاً عند السماع، بل للملذوذ تراكيب خّاصة هي التي حصرها أهل علم الموسيقي، وتكلّموا عليها كما هو مذكور في موضعه.

وقد يساوق ذلك التلحين في النغمات الغنائيّة بتقطيع أصوات أخري من الجمادات، إمّا بالقرع أو النفخ في آلات تتخذ لذلك، فيزيدها لذّة عند السماع. فمنها لهذا العهد بالمغرب أصناف: منها المزمار ويسمونه الشبّابة، وهي قصبة جوفاء بأبخاش في جوانبها معدودة، ينفخ فيها فتصوّت. ويخرج الصوت من جوفها علي سدّادة من تلك الأبخاش، ويقطع الصوت بوضع الأصابع من اليدين جميعاً علي تلك الأبخاش وضعاً متعارفاً، حتي تحدث النسب بين الأصوات فيه، وتتصل كذلك متناسبة، فيلتذ السمع بإدراكها للتناسب الذي ذكرناه.

ومن جنس هذه الآلة آلة الزمر التي تسمّي الزلامي، وهي شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب، جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها من قطعتين منفوذتين كذلك بأبخاش معدودة، ينفخ فيها بقصبة صغيرة فينفذ النفخ بواسطتها إليها، وتصوّت بنغمة حّادة. ويجري فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشبّابة.

ومن أحسن آلات الزمر لهذا العهد البوق، وهو بوق من نحاس، أجوف في مقدار الذراع، يتسّع إلي أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دور الكّف في شكل بري القلم. وينفخ فيه بقصبة صغيرة تؤدي الريح من الفم إليه، فيخرج الصوت ثخيناً دويّاً، وفيه أبخاش أيضاً معدودة. وتقطع نغمة منها كذلك بالأصابع علي التناسب فيكون ملذوذاً.

ومنها آلات الأوتار وهي جوفاء كلّها: إمّا علي شكل قطعة من الكرة كالبربط والرباب، أو علي شكل مربّع كالقانون، وتوضع الأوتار علي بسائطها مشدودةً في رأسها إلي (دساتر) بجائلة ليتأتّي شدّ الأوتار ورخوها عند الحاجة إليه بإدارتها. ثمّ تقرع الأوتار إمّا بعود آخر، أو بوتر مشدود بين طرفي قوس يمرّ عليها، بعد أن يطلي بالشمع والكندر.

يوضّح جدنا ابن خلدون سرّ تلذذ الأذن والنفس، فيقول: ولنبيّن لك السبب في اللذة الناشئة عن الغناء، وذلك أنّ اللذة كما تقرّر في موضعه هي إدراك الملائم، والمحسوس إنما تدرك منه كيفيته. فإذا كانت مناسبة للمدرك وملائمة كانت ملذوذة، وإذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة، فالملائم من الطعوم ما ناسبت كيفيته حّاسة الذوق في مزاجها، وكذا الملائم من الملموسات، وفي الروائح، ما ناسب مزاج الروح القلبيّ البخاريّ لأنه المدرك، وإليه تؤديه الحّاسّة.

ولهذا كانت الرياحين والأزهار العطريّات أحسن رائحة وأشّد ملاءمة للروح، لغلبة الحرارة فيها، التي هي مزاج الروح القلبي.

ثمّ ينتقل جدنا ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع، والعارف بأحوال البشر، والمعني بالتطور المدني والحضاري، ونشوء وزوال الدول، وأسباب الفساد في حياة الناس إلي فن العمارة، للعلاقة الوثيقة بين العمارة وبين الموسيقي، ولارتباطهما بتطوّر حياة البشر المدنية وانحطاطها: وإذ قد ذكرنا معني الغناء، فاعلم أنه يحدث في العمران، إذا توفّر وتجاوز حدّ الضروري إلي الحاجي، ثمّ إلي الكمالي، وتفننوا فيه، فتحدث هذه الصناعة ـ يقصد فنّ الغناء ـ لأنه لا يستدعيها إلاّ من فرغ من جميع حاجاته الضروريّة والمهمّة من المعاش والمنزل وغيره، فلا يطلبها إلاّ الفارغون عن سائر أحوالهم تفنّناً في مذاهب الملذوذات...

ويصل جدنا ابن خلدون إلي الخلاصة، فيكتب: وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كماليّة في غير وظيفة من الوظائف، إلاّ وظيفة الفراغ والفرح، وهي أيضاً أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه..والله الخلاّق العليم.
هذا بعض ما جاء في مقدمة جدنا ابن خلدون عن فنّ الغناء، وفي الفصل المعنون: في صناعة الغناء.

فلنطرح علي أنفسنا الأسئلة، ولنأخذ العبر مّمن سلف وعبر من أجدادنا، ونحن في زماننا الأغبر...

لقد وضع جدنا إصبعه علي مظاهر الداء، وترك لنا أن نبحث عن الدواء. ومن مظاهر الداء أننا لم نعد نلتذ بالغناء العربي الذي تبثّه الكباريهات الفضائيّة، والإذاعات الزاعقة، فالغناء غير الملذوذ الذي لا يطرب هو الدليل علي فساد المدن العربية غير الفاضلة، فهذه المدن تثير ضجيجاً وصخباً لتغطي علي احتضارها الطويل وجثامينها المتفسخة الحجريّة والإسمنتيّة لا تتحرّج وهي تعلن عن موتها بهذا الذي تسميه غناءً...

نعم: أول من يموت هو الغناء، فقد مات عبد الوهاب،وأم كلثوم، والعندليب... وأمّا فيروز فهي تذكار من زمن أفل تقاوم حقول الشوك بوردة صوتها لتدعونا لإنقاذ أرواحنا من هذا الخراب...
فساد الغناء ليس نشازاً طارئاً، فالعمران فاسد..انظروا إلي مدننا العربية الركامية البشعة الملوثّة التي تفتقد للجمال والانسجام، أهي مدن صناعة وابتكار وعطاء، أم تراها مدن طفيلية دعيّة في زمن ما بعد الحداثة؟!

مدن تغطي فسادها بالطبول والزعيق، تبدو بطرة وكأنها أنجزت وأتخمت وحقّ لها أن تغني، مدن تغنّي فرحة بهزائمها، ركام حجارة وإسمنت وبيوت صفيح، ومقابر تؤوي أحياء تتساوي حياتهم مع الموتي، مدن موات، ماذا تغنّي المدن الموات؟
الغناء (العربي) هو الإعلان اليومي الجنائزي مع الموسيقي الهجينة، الذي يعلن موت المدن العربية، وإفلاس ما تمثّله...

التعليقات