إستعارات الأبيض والأسود ومبدأ التباين الإستقطابي/د. سمير خلايله-سخنين

-

إستعارات الأبيض والأسود ومبدأ التباين الإستقطابي/د. سمير خلايله-سخنين
تجتهد هذه المقالة أن تظهر أنّ التباين بين اللون "الأبيض" والأسود" يتجسّد لغويا على مستوى الدلالة الإستعارية. على الأغلب تصنّف في خانة الإستعارات الايجابية الجمل الإستعارية في اللغة العربية الفلسطينية التي تحتوي على فعل أو خبر من مجال الدلالة للون الأبيض, كالجمل الممثلة في (1), امّا الجمل التي يتصدرها المحمول من اللون الأسود تقع في خانة الإستعارات السليبة, كما هو بائن في (2).

(1)ا. علي بيّظ وجِ العيله
ب. علي بيّظ وجي
ج. علي قلبو إبيظ
د. الله يبيّظ وجك!

(2)ا. علي سوّد وجِ العيله
ب. علي سوّد وجي
ج. علي قلبو إسود
د. الله يسوّد وجك!

كل متكلم للغة العربية الفلسطينية يفهم أنّ الفعل "بيّظ" في الجملة (1ب) لا يدل على المعنى الحرفي الذي يصف حدث قيام علي بدَهن وجه المتكلم بدهان أبيض في الزمن الماضي بل يعبر عن القيمة الدلالية الإستعارية التي تتمثل بتوصيف الحالة التي يشعر بها المتكلم أثر تصرف أو إنجاز إيجابي لعلي الذي سبب للمتكلم أن يكون عنده مثل هذا الموقف الإيجابي من علي كالإفتخار والإعتزاز مثلا .

السؤال المطروح هو كيف نفسّر ايجابية الدلالة الإستعارية للون الأبيض وسلبية الدلالة الإستعارية للون الأسود في المنظور الحضاري للغة العربية الفلسطينية؟ كما هو معروف في تاريخ الفلسفة, تُعتبر الألوان صفات غير ماهية في الأجسام , رغم أنّ رؤية أيّ جسم في الطبيعة يحتّم إفتراض حضور اللون. نستطيع أن ننسب التصور الايجابي لإستعارات اللون الأبيض الى المستوى الأنطولوجي الذي يأثر بالحسبان الأخير على أمن الإنسانة بعكس الأسود الذي يتمثّل بالظلام والعتمة ويعرض الإنسانة الى خطر وتهديد أمنها. فمنذ الطفولة, تبكي الطفلة إذا ُتركت لوحدها في الظلام. فعدم حظور النور أو الضوء بالحقل البصري للإنسانة يخلق عدم إرتياح الى درجة الخوف. اللون الأبيض يرتبط بالضوء والنور وحضوره يؤمّن رؤية الأشياء التي يمكن أن تشكل خطرا وتهديدا للإنسانة او الإنسان. (أنظري Black: Usage, Symbolism, and Colloquial Expressions in http://en.wikipedia.org/wiki) فرفع الراية البيضاء ترّمز نوايا الصلح والسلم. بالمقابل, رفع الراية السوداء تمثل رموزا للخطر والموت والعزاء. ليس صدفة إذا أنّ حمامة السلام هي البيضاء والغراب الأسود يبشر بالشؤم والمصيبة وحتى بالموت (أنظري سورة المائدة 32). اللغة العربية الفلسطيينية تجسد هذه الإستعارة في عبارة "وجو/وشو زي غراب البين". إستعارة قبح الوجه عند المرأة تتمثل بتعابير "عبده سوده" "إم وجه اسود" وجمال الوجه تتجلى في تعابير "وجِ إبيظ زي القمر" "بيظه زي اللبن/الحليب/الثلج" بسب ندرة لون البشرة عند العرب. تباين الأبيض والأسود إستعاريا ببعدهما الايجابي والسلبي يمتد للحالة النفسية الشعورية عند الإنسانة أو الإنسان. فقد نسمع تعابير مثل (3).

(3) ا. علي مَشَفِشْ يوم إبيظ بحياتو
ب. كان يوم أسود اللي تعرفت فيه عليك
ج. علي كل أيامو بيظه

تبرز الإستعارة السلبية في إستخدام اللون الأسود للتعبير عن عدم الرضى في الآية "وإذا بشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مُسودّا وهو كظيم" (سورة النحل 58) والجملة (4) في العربية الفلسطينية.

(4) ليشْ إسودّ وجك؟

النص القرآني في سورة آل عمران (آيات 106-107) يصنّف المؤمنين والكافرين يوم الدين حسب إبيضاض أو إسوداد الوجه. الذين تبيضَ وجوههم يدخلون في رحمة الله خالدين في الجنّة, امّا الذين تسودّ وجوههم يذوقون العذاب في نار جهنم. فابيضاض وجه المؤمن يوم الدين هو إنعكاس لبياض قلبه الطاهر واسوداد وجه الكافر هو تجلٍ لسواد قلبه الشرير. مفهوم الأبيض إذا يتمفصل مع مفهوم الخير إستعاريا ومفهوم الأسود يتتوأم مع مفهوم الشرّ حسب هذا التصور الميتافيزيقي عند البعث الجديد ويوم الحساب في العالم الآخر.

قد لا نندهش ايضا من حقيقة أنّ اللغات العربية ُتمَعْجِم (lexicalize) مفهوم الظلم ومفهوم الظلام من حقل دلالي مشترك ونقبل "الكذبه البيظه" التي لا تضرّ ونرفض الكذب بشكل عام ونتخذ الحكمة في الإدخار والتوفير لوقت الحاجة في المثل الشعبي "الإرش لِبْيظ بنفع باليوم لِسْوَد".

لا نتوقع طبعا أنّ توظيف مفهوم اللون الأبيض بالضرورة يدّل على مجموعة إستعارات ايجابية في كل السياقات اللسانية بشكل مطلق. فالإستعارة السلبية في تعبير "تبييظ المصاري" بالرغم من حضور مفهوم الأبيض ناتج عن السياق السلبي للسوق الأسود الذي تتم فيه عملية "شرعنة" الأموال. الحقيقة اللسانية المذهلة هنا أنّ عبارة "السوق السوده" تحمل دلالة إستعارية سلبية وتوحي بفعل أو عملية ننسب اليها موقفا سلبيا غير قانوني وغير أخلاقي. (في اللغة الهولندية يوجد تعابير مثل zwarte rijder "راكب أسود" و zwarte kijker "متفرّج أسود" حيث أنّ اللون الأسود هنا يعبر عن عدم الدفع لبطاقة الركوب في القطار وبطاقة مشاهدة لعبة كرة القدم وليس كون الشخص أسودا مثلا) مثلما لا تبنى الحقيقة على أرضية أساساتها باطلة, لا ينتج عن أستعارة سلبية في سياق اللون الأسود دلالات ايجابية حتى باستخدام مفهوم اللون الأبيض بالسياق الإستعاري.

لا نستطيع أن نتجاهل أنّ العرب ترى في ال"عيون السود" او ال"عيون التي في طرفها حَورٌ" قمة الجمال الجذاب الذي يردي عاشقها قتيلا. فشدة السواد في العين تضيف محورا جماليا على الوجه وتكسب اللون الأسود في هذا السياق إستعارة ايجابية. (لا عجب أنّ عبارة "Black is beautiful" كشعار لقبول الذات والإعتزاز بها من قبل حركة "القوة السوداء" (Black Power) للأمريكان الأفارقة في نضالهم لنيل الحقوق المدنية في أمريكا كانت تردد وترفع عاليا في مظاهراتهم.)

هذا التوجّه في التحليل يستمد بعضا من الحقيقة والمصداقية من وجود الإستعارة المُعبرة في (5) باللغة العربية الفلسطينية. الإستعارة الحاضرة في(1ج) تتباين مع الأستعارة في (5). المحمول "قلبو إبيظ" في (1ج) يمثل المعاني الايجابية للطهارة والصفاء والأخلاق الجميلة. أما المحمول "عينو بيظه" يوحي بدلالات سلبية. الجملة (5) تصف موقفا مميّزا لشخصية علي بتجلي سلوك غير مستقيم على مستوى توجيه نظره الى الإتجاه الغير ملائم الذي يرافقه حركة عينيه الى الأطراف مما يكون على حساب المساحة الغير بيضاء في العين. عملية تجاوز توزيع اللون البيض والغير أبيض في العين (حدقة العين) تشكل إختراقا غير لائق من وجة نظر جمالية وأخلاقية. البصبصة وإستراق النظر لهما دلالات أخلاقية سلبية في اللغة لأنّ عين الرائي لا تتوجّه بشكل مستقيم في الحقل البصري وتسلك طريقة "منحرفة" او "ملتوية" للتعرّف والحوار مع حضور جسد الشخص الآخر أو الأخرى في مجاله. لا نستغرب أذا أن المفهوم الهندسي الرياضي "المستقيم" له أبعاد أخلاقية أيجابية و"المنحرف" له أبعاد أخلاقية سلبية. فالإستقامة والمواربة ضدّان لا يلتقيان في بنية الشخصية الجوهرية للانسانة أو الإنسان.

(5) علي عينو بيظه (عينو زايغه)

إنّ التركيب الفسيولوجي للعين الإنسانية يُخرج منطقيا وجود تعابير باللغة الطبيعية " علي عينو سوده" توحي باستعارات سلبية بسب أنّ اللون الأسود قد يكون في مركز العين إذا كان لون العين أسود ولا يمكن للون الأسود أن يغطي ويسيطر على كل مساحتها. اللغة العربية الكلاسيكية تمكن توليد التعبير "...ابيضّت عيناه من الحزن" (في سورة يوسف84) لأن غزارة الدموع الساخنة التي تترجم شدة الحزن في القلب والروح تملأ العيون كليّا لدرجة أنها تُعميها.

قد يتبادر الى الأذهان السؤال حول التجاور للون الأبيض والأسود في لباس العروسين في الأعراس في مجتمعنا العربي الفلسطيني (ومجتمعات أخرى). لا شك أنّ لباس العروس الأييض يرمز الى العفة والطهارة والعذراوية. هذا لا يعنى أنّ لباس العريس الأسود يرمز الى نقيض هذه الصفات الأخلاقية الايجابية. تجاور الأبيض والأسود في هذا السياق يمثل تحقيق علاقة تباين الحد الأقصى ويعكس جمالية مفهوم التكامل. إنّ وعي مصمّمات ومصمّمي الأزياء ومروجات ومروجي الموضه لعلاقة التباين ومفهوم التكامل وتناغم الألوان قد يخلق نموذجا جماليا للباس الأسود على الإنسانة ذات البشرة البيضاء واللباس الأبيض على الإنسانة ذات البشرة السوداء.

إنّ مبدأ التباين الإستقطابي يحضر بقوة في تحديد عالم الإمكان المنطقي بالنسبة الى مجموعة التعابير الممكنة في اللغة الطبيعية. فاللغة العربية الفلسطينية تشتق أفعالا من مفهوم ال "الصيف" وال"الشتا" ولا يتسع هذا الإشتقاق الى ال"ربيع" أو ال"خريف", كما هو واضح في (6). الأشارة * تدّل على فساد التركيب النحوي للتعبير.

(6) ا. الدنيا عم بتصيّف (من أصل "صيف")
ب. الدنيا عم بتشتّي (من أصل "شتا")
ج. * الدنيا عم بتخرّف (من أصل "خريف")
د. *الدنيا عم بتربّع (من أصل "ربيع")

تطبّق اللغة العربية الفلسطينة نفس المبدأ في أشتقاق أفعال تتعلق بفترات زمنية لليوم. فهناك أشتقاق الفعل "صبّح" من مفهوم ال"صبح" و "مسّى" من مفهوم ال"مسا". فالصباح هنا يمثل أول النهار (يؤخذ مفهوم التجريد بعين الإعتبار طبعا) والمساء آخر النهار وهذا التباين أستقطابي كافٍ. أما الفترات الأخرى للنهار لا تجسد هذا التباين; لذا تكون النتيجة تعابيرا غير سليمة في اللغة وتعتبر فاسدة, كما هو ظاهر في (7).

(7) ا. ديانا صبّحت على علي (من أصل "صبح")
ب. ديانا مسّت على علي (من أصل "مسا")
ج. *ديانا ظهّرت على علي (من أصل "ظهر")
د. *ديانا عصّرت على علي (من أصل "عصر")

تجدر الملاحظة هنا أنّ مبدأ التباين الأستقطابي ينطبق على مستوى الدلالة الإستعارية بالإضافة للدلالة الحرفية في اللغة الطبيعية. الإستعارات في (8) ممكنة لأن جهة ال"عالي" وال"واطي" تتباينان بامتياز.

(8) ا. ديانا علّت/رفعت راسي (ديانا سببب إفتخاري وإعتزازي)
ب. ديانا وطّت راسي (ديانا سبب خجلي وإذلالي)

لا نستبعد أنّ الإنسانة أو الإنسان تُفهمن أو تُذهنن (conceptualize) عالم التجربة من خلال تركيب جسدها أو جسده; ولذا يشكل الرأس قطبا ايجابيا من ناحية أستعارية ويمكن أستخدامه للإشارة على الإنسانة أو الإنسان (الكل) والقدم أو الجزء السفلي من الجسد يشكل القطب السلبي إستعاريا كذلك (أنظري كتاب ليكوف وجونسون (1980) Metaphors We Live By ). من هذا المنطلق يمكن أن نفسر وجود التعبيرين المتناقضين "على راسي" و"على إجري" في اللغة العربية الفلسطينية. ونفس المنطق يفسّر وجود اسم العلم "سامي" وغياب الإسم "واطي" لأن التعبير الأخير يستخدم في تحقير الآخر بعبارة "واحد واطي".

نضيف الى هذا التذهنن تصور الإنسانة المؤمنة للذات المقدسة المطلقة (الله) بأنها "تسكن" في أعالي السماء (ولذا يُطلق عليها اسم "العليّ") والشياطين في العالم السفلي (الجهنميّ). نفس الإعتقاد كان عند أصحاب العقل الأسطوري في الحضارات القديمة مثل الحضارة اليونانية القديمة.

إنّ وجود مبدأ التباين في اللغة يمكننا أن نفسر ظاهرة أنّ بعض التعابير ذات الدلالة السلبية في اللغة تكتسب دلالة ايجابية في سياقات معينة. فالتعبير "ملعون" في سياق الجملة (9ا) لا يساهم دلالة سلبية ولا يقصد المتكلم بأنّ دلالة الإسم "علي" تتقيد بنعت أو بصفة الملعونية; على العكس تماما, المتكلم ل (9ا) ينسب صفة إيجابية لعلي خاصة صفة الحظ . القفز والتحوّل من قطب الى آخر متباين ليس صعبا كإمكانية دلالية. فالمحمول "بَلوه" أو "مصيبة" في (9ب) لا يُخبر صفة سلبية عن المبتدأ "علي". على العكس, ينسب المتكلم لعلي في هذا السياق صفة ايجابية, خاصة القدرة على القيام بأعمال كثيرة وصعبة. (قارني إستعمال cool بالإنجليزية بمعناها الايجابي وعبارة גנוב بمعناها الايجابي أيضا.)

(9) ا. علي الملعون جاب ميّه بلحساب
ب. علي بَلوه/مصيبه/شيطان (مَ حده بغدرلو)

لا نستطيع أن نجزم أنّ الإستعارات التي تناولناها في جسد المقالة يمكن تعميمها لكل اللغات الطبيعية بالمطلق لأنّه يوجد هناك جانبا من الإستعارة يتعلق بالسياق الحضاري المميّز لكل لغة وشعب. لا نستبعد أنّ نظائر الأستعارات في (1) و(2) غير حاضرة في لغات أفريقية لأنّ أي تصوّر لمفهوم الأبيض باستعارات ايجابية ولمفهوم الأسود باستعارات سلبية بشكل قاطع من قبل الإنسانة السوداء أو الإنسان الأسود يكوّن استراتيجية انهزامية للذات ولا يعقل أن لا تتماهى الإنسانة السوداء مع لون بشرتها الطبيعية في الحالة الطبيعية السوّية (مايكل جاكسون حالة إستثنائية مثلا) وأن لا تنسب إستعارات ايجابية للون الأسود كتعزيز لصوره ذاتية إيجابية عالية. أمّا مبدأ التباين الإستقطابي فيمكن تعميميه لكل اللغات لأنّه يشكل جانبا بنيويّا ومنطقيا في تنظيم العلاقات الدلالية في فضاءاتها.

نأمل أن نكون قد ألقينا بعض الضوء على الإستعارات البارزة للأبيض والأسود في اللغة العربية الفلسطينية وعلى مبدأ التباين الإستقطابي كمنطق يُوّلد (أو يُجهض) عالم إمكان التعابير في اللغات الطبيعية. ندرك تماما أن تناول الموضوع يتطلب طاقة فكرية أكثر, غير أنّ السياق الحالي لا يضع شروطا وقيودا لاستنفاذ تفسير المعطيات بشكل شامل وكلي. فإن كنا "بيّظنا" وجه اللغة العربية الفلسطينية الى حد ما, نكون قد عطّرنا الفضاء اللغوي وجذبنا العقول الفضولية للتأمل والتفكير بهذه الجماليات اللغوية.

التعليقات