السينما الفلسطينية الحقيقية: سينما الكاتب والمخرج أم سينما المموّل؟!

-

 السينما الفلسطينية الحقيقية: سينما الكاتب والمخرج أم سينما المموّل؟!
لا يستطيع المبدع السينمائي في الداخل الفلسطيني (الوطني) التحرر من أزمة الاحتكاك مع الطرف الاسرائيلي، بينما المبدع العربي غير مجبر علي ذلك تحت طائلة التطبيع. هذه خلاصة ينبغي أن يستوعبها المتابع العربي.

السينما الفلسطينية الحقيقية هل هي أفلام روائية وحسب؟ أم هي خليط ما بين التسجيلي والوثائقي والدرامي (الروائي) والفني والفيديو آرت وسينما الشهادات الأدبية والتاريخية.. وغيره.

وما هي العوامل التي تؤدي الي صناعة سينما غير المال والوقت؟ بكل تأكيد لدي الفلسطينيين مقوّمات نشوء سينما أفضل من غيرهم لتوفـّر الأفكار والقصص والحكايا(جراء التواجد تحت الاحتلال: قصص تحت الاحتلال) وارادة الحياة والمبدعين من التقنيين كذلك، وليست المسألة بحاجة الي ارادة رسمية (ارادة حكومة)، وان كانت الحكومة في هذا المضمار كالوردة التي ستزيّن المعطف الثقيل.

لمن تُنْسَب السينما؟ هل للمنتج الذي أنتجها؟ أم الي الفنان الذي صنعها سواء كان مخرجا أم كاتبًا للسيناريو؟ باعتقادنا معشر المنشغلين بالهم السينمائي أن السينما الفلسطينية الحقيقية، هي سينما الكاتب أو المخرج. فالمخرج الفلسطيني الحر هو الذي لا يخضع لشروط المموّل، فالممولون كثر وقد يغرف المخرج الفلسطيني من أين شاء حتي ولو من الحقيبة الاسرائيلية، طالما لا توجد شروط مسبقة، تتعارض مع رؤية الكاتب أو المخرج.

تعاني السينما الفلسطينية من معضلة التلقي والتوزيع العربيين. فمثلاً حاول الناقد السينمائي الفلسطيني بشار ابراهيم تمرير فيلم يد الهية للمخرج الفلسطيني ايليا سليمان لعرضه ضمن مهرجان دمشق السينمائي الدولي (قبل الأخير)، ولكنه لم يفلح، بحجة أن الفيلم (من الناحية الانتاجية) تلقي أموالاً من الحكومة الاسرائيلية أو من ممولين اسرائيليي الهوية (وينبغي فحص دقة هذه المسألة). فابن الناصرة المواطن الفلسطيني في ظل الدولة الاسرائيلية نتيجة هذا الأمر وقع في فخ (اشكالية التمويل) التي أعاقت ترويج فيلمه الجميل يد الهية عربياً، علماً بأن الاحتفاء الفلسطيني في داخل الداخل (1948) والداخل (1967) كان ساطعاً ومثيراً، وظهر ذلك من خلال شباك التذاكر ونسبة الحضور. كما أن الاحتفاء عالمياً بالمخرج الفلسطيني وفيلمه كان منقطع النظير.

مشكلة النسب والهوية باتت ملتبسة (أو مربكة) عند الخارج (خارج الداخل الفلسطيني: العربي والاسلامي)، بينما هذه المشكلة غير واردة وغير مشكوك فيها لدي الخارج الأجنبي، فمثلاً تعرض فيلم يد الهية ذاته الي محاربة في مهرجان كان لهويته (الاخراجية) ذات الأصول الفلسطينية. هذه مفارقات يجب الالتفات اليها وفحص دلالاتها.

ومثال آخر نطرحه أمامكم: يندرج فيلم الجنة الآن للمخرج الفلسطيني(من الناصرة) هاني أبو أسعد، الي سينما الكاتب، أو سينما المخرج مثلاً. وكما تعددت الأسباب فالموت واحد. ففي صناعة السينما الفلسطينية يكثر الممولون أحياناً وتبقي رؤية الكاتب أو المخرج هي القائمة والغالبة، فشروط التمويل شروط ادارية بحتة، وقلما (أو لا) يتدخل الممول في الحكاية اذا لم تعجبه (أو لا يستسيغ) الفكرة . وعلي العموم المسألة بحاجة الي دراسة علمية، لفحص مدي تأثير التمويل علي الأفكار أو الرؤي الاخراجية أو حتي المضامين وآلية صياغتها.

ومثال الجنة الآن ، خير مثال علي مثل هذه الاشكالية. فالمخرج حصل علي تمويل هولندي وألماني وفرنسي، وما قدّر للفيلم أن يخرج للنور وقد صنع في فلسطين وعلي أرض تحت السيادة العسكرية والأمنية الاسرائيلية دون تدخل أو اسناد (لوجستي) من منتج اسرائيلي أمّن عملية تحرك الطواقم والممثلين وسير عملية الاخراج علي أكمل وجه دون تدخل قوات الاحتلال. هل اشراك فريق من الاسرائيليين في عملية الانتاج سينتقص من هوية الفيلم الفلسطينية، أعتقد لا.

وبعد، فما هي هوية الفيلم الفلسطينية؟ أهي في ظل العولمة، السينما المسلحة بعلم ونشيد فلسطيني وتحمل البندقية المقاومة فقط. أم هي السينما التي تتحدث عن أوجاع وآمال وطموحات الشعب الفلسطيني.. بغض النظر عن هويتها التمويلية. ألا تحسب أفلام عربية وعالمية تتناول المسألة الفلسطينية بايجابية (أو حتي حيادية) علي الفيلم الفلسطيني (من ناحية الهوية)؟

ومثال آخر: رفض المحتل الاسرائيلي السماح للمخرج الفلسطيني ايليا سليمان بتصوير لقطات من فيلمه يد الهية علي حاجز احتلالي اسرائيلي، فاضطر المخرج أن يبني حاجزاً بديلاً لأغراض التصوير زاد من ميزانية الفيلم وأرهق المخرج الذي غرف من الدعم الأجنبي.

ففي الحالة الفلسطينية، هناك اعتقاد (لدي أهل الداخل) بأن المخرجين الفلسطينيين متعددو المشارب والأفكار، يتمتعون بليبرالية عالية في التعاطي مع مسألة التمويل. ولا يتحرج أي مخرج فلسطيني (يعيش في اسرائيل ـ الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948) من أخذ أي تمويل حتي لو كان ذلك من الحكومة الاسرائيلية التي تقدم الدعم للانتاج السينمائي، طالما المسألة (التمويل) لا تتعارض مع الأهداف والرؤية الفنية والمضمونية الوطنية للمخرج أو الكاتب. فلماذا يتعفف الكاتب الفلسطيني (حامل الهوية الاسرائيلة كمواطن) من أخذ تمويل من الحكومة الاسرائيلية، فهو يعمل مع اليهودي ليل نهار في المكتب والحقل والمصنع ..الخ، ويدفع الضريبة للخزينة الاسرائيلية. ولهذا نحن لا ننعت الفيلم الفلسطيني الثماني والأربعيني (نسبة الي عام النكبة 1948) بالتطبيع أو بالصهينة أو الأسرلة، اذا ما غرف من الخزينة الاسرائيلية، طالما هو محافظ علي هويته الوطنية الفلسطينية وانتمائه الوطني والقومي(في تناوله للموضوع الفلسطيني).

مسألة التطبيع، تلك الفزاعة السينمائية التي تستخدم عربياً لرفض الفلسطيني (انتاجه وصناعته، وهويته من ناحية أخري) أعاقت وتعيق رواج الفيلم الفلسطيني عربياً، مع أن هناك لهفة عربية للتعرف علي حال الشقيق الفلسطيني دون الدخول في تفاصيل ثانوية كقضية التمويل التي تشغل المتفذلكين في السياسة.

في النهاية، لا يمكن محاكمة السينما الفلسطينية (فقط) من زاوية التمويل والحكم علي صلاحيتها. فالسينما الفلسطينية حياة كاملة، وروح، وطاقات فلسطينية شابة تنمو وتتطوّر وتزدهر دون اخلال بالميزان الوطني أو الهوياتي.

لنطرح مسألة أخري، ما هو اتجاه أو اتجاهات التعاطي العربي مع الممثل الفلسطيني الذي قام بأداء أدوار في أفلام اسرائيلية (غير صهيونية)؟ هذه اشكالية أخري تواجهنا نحن المنشغلين في الصناعة السينمائية الفلسطينية. فمعظم الممثلين الفلسطينيين الكبار شاركوا كممثلين في أفلام اسرائيلية ذات مضامين ايجابية حيال الفلسطينيين والقضية الفلسطينية.

لنسأل أنفسنا السؤال التالي: من يستطيع التشكيك في هوية المخرج والممثل الفلسطيني محمد بكري، الذي قام بأداء أدوار مهمة ورئيسة في العديد من الأفلام الفلسطينية (أولاً) والاسرائيلية (غير الصهيونية) ثانياً (وللعلم أن بكري لا يولي أهمية كبيرة لأدواره القديمة في أفلام اسرائيلية غير صهيونية، ويريد طي تلك الصفحة من العمل الذي يدخل في نطاق الهواية الطفولية). فمحمد بكري صاحب الفيلم التسجيلي جنين.. جنين (ويتحدث عن مجزرة جنين) لعب ويلعب العديد من الأدوار في معظم الأفلام الفلسطينية لمخرجين مثل رشيد مشهراوي وحنا الياس وغيرهما.
ما أجمل الدور الذي لعبه محمد بكري في فيلم موسم الزيتون لحنا لطيف الياس. لعب شخصية (أبو صالح) المتمسك بالأرض والزيتون، وبقي كذلك حتي نهاية الفيلم الذي يتحدث عن قصة حب في موسم الزيتون، موسم الأرض.

ماذا نقول عن فيلم الطريق 181 للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي (وشريكه الاسرائيلي ايال سيفان) ايال سيفان يهودي رفض هويته الاحتلالية الاسرائيلية(غير الأخلاقية) وهاجر الي فرنسا وأصبح شريكاً للفلسطيني ميشيل خليفي (ابن الناصرة) في انجاز فيلم تسجيلي وثائقي هام جدا مدته أربع ساعات ونصف عن مأساة القري والبلدات الفلسطينية التي دمّرت جراء قرار التقسيم الأممي (181). ماذا يعيب هذا الفيلم الذي يشرح القضية الفلسطينية(مأساة شعب وأرض) أهو الشريك في الاخراج اليهودي (الذي يحمل نفس رؤية ميشيل خليفي) ..ان الحكم علي الأشياء بهذا التعسف لبلاهة وسخف ما بعدها سخف. المسائل لا تقاس ولا يحكم عليها هكذا وبهذه المقاييس.

المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي الممنوع من دخول الضفة الغربية (لأنه من غزة) مثـّل في العديد من الأفلام الاسرائيلية والفلسطينية وأخرج العديد من الأفلام الروائية الفلسطينية (ونقول فلسطينية الهوية والانتماء والمسألة والموضوع) بالرغم من التمويل المتعدد. وآخر فيلم له حسب متابعتنا كان فيلم أخي عرفات (تسجيلي يتناول شخصية الرئيس ياسر عرفات من خلال شهادة أخيه د. فتحي عرفات أثناء مرض الأخير).

ماذا نقول بفيلم عرس الجليل (1987) للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي الذي يتحدث عن عرس فلسطيني يقتحمه ضابط اسرائيلي يشترط حضور حفل العرس حتي يتم، ويوافق الفلسطينيون المحتفون علي هذا التواجد (غير المرغوب به) لاتمام الزفاف، ويظهر الفيلم الضابط الغريب بسلوكياته العجيبة غير المتآلفة مع الزمان والمكان. فيلم عرس الجليل: تمويل أوروبي خالص وصور في الناصرة (فلسطين 48 التي تسمّي اسرائيل حالياً) دون علم الاسرائيليين أو بترخيص منهم.
ماذا نقول أيضاً بمخرج فلسطيني آخر رشيد مشهراوي الذي صوّر فيلم حتي اشعار آخر (1994) ويتحدث عن معاناة الفلسطينيين تحت الحصار ومنع التجوّل، واستعان في انجاز الفيلم بفنيين وتقنيين اسرائيليين.

للعلم فقط، يشتري الفلسطينيون المعدّات والأجهزة ومعدّات التصوير من السوق الاسرائيلي أحياناً اذا ما تعذّر الاستيراد من الخارج، ويستعين الفلسطينيون بخبراء وتقنيين اسرائيليين لحل بعض المسائل التقنية. فالسوق الاسرائيلي(معدّات التصوير) قد يكون أرخص لفلسطينيي الداخل وأقرب من السوق الأوروبي (المنشأ أوروبي).

من السخف مثلاً، اتهام فيلم درب التبانات (1998) للمخرج الفلسطيني علي نصار (عضو جماعة السينما الفلسطينية) الذي حصل علي جائزة وزارة الثقافة الفلسطينية، وحصل علي جائزة اسرائيلية، وهو من كتابة غالب شعث (سيناريو) الموالي لمنظمة التحرير الفلسطينية، من السخف اتهامه بأنه فيلم اسرائيلي صنع بأيد فلسطينية، حتي لو قامت جهات اسرائيلية بتوزيعه ضمن مجموعة أفلام كفيلم اسرائيلي. (أين الهوية هنا؟ سؤال الهوية ينبغي أن يطرح علي الموضوع الذي تناوله الفيلم علي الرغم من الحيثيات الخارجية، نقصد القشور).
اللغط حول فيلم سجل اختفاء للمخرج الفلسطيني ايليا سليمان، لحصوله علي تمويل اسرائيلي كونه صنع داخل اسرائيل والقانون الاسرائيلي يدعم تمويل أي فيلم بغض النظر عن هوية مخرجه الأصلية، باعتقادنا هناك لغط غير مبرر طالما نحن نريد العنب والانتاج السينمــائي الايجابي حيال قضية فلسطين وشعبها الفلسطيني في مواجهة الآخر.. حتي لو كان حياداً ايجابيا علي حد تعبير يحيي يخلف وزير الثقافة الفلسطيني، عندما وصف به فيلم الجنة الآن للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد .

سؤال نطرحه علي ضمائر العقلانيين: ماذا لو حصل وقامت الحكومة الاسرائيلية بمنح فيلم عطش للمخرج الفلسطيني توفيق أبو وائل (من أم الفحم) جائزة الأوسكار الاسرائيلية، هل ستنتقص هذه الجائزة من قيمة وهوية هذا الشريط الرائع؟ فالشريط من أوله حتي آخره يتحدث عن عائلة فلسطينية تعمل في صنع الفحم في أم الفحم. وقد أنجز الفيلم عطش بمواصفات فنية بصرية ولغة سينمائية راقية.

ماذا نقول عن الأديب الفلسطيني الكبير اميل حبيبي صاحب القلب والضمير الفلسطينيين، وهو الذي صاغ ووثق الذاكرة الفلسطينية طوال حياته في أدبه وأعماله الكثيرة، ماذا نقول فيه بعد أن منحته وزارة المعارف الاسرائيلية جائزة أدبية قبل وفاته بقليل، وقبلها . كيف يمكننا أن نحكم عليه، هل نسقط عنه وعن ابداعه الهوية الفلسطينية؟

باختصار وحتي نختم، فالمســألة طويلة وتحتــــاج لنقـاش ولدراسات مطوّلة (في الانتاج والتمويل والهوية)، ونقول، انه لا يمكن الحكم علي هوية السينما الفلسطينية من خلال زاوية التمويل فقط. فالسينما الفلسطينية هي صاحبة الهوية الفلسطينية الايجابية حتي لو كان صاحبها هندياً أو فنزويلياً أو عربياً أو اسرائيلياً أو فلسطينياً. من منّا (مثلاً) ينكر الهوية الفلسطينية لفيلم باب الشمس للكاتب اللبناني الياس خوري والمخرج المصري يسري نصر الله؟!!
(المنسق الاعلامي)
جماعة السينما الفلسطينية
دعوة للنقاش
لا يستطيع الفلسطيني المبدع السينمائي في الداخل الفلسطيني (الوطني) التحرر من أزمة الاحتكاك مع الطرف الاسرائيلي، بينما المبدع العربي غير مجبر علي ذلك تحت طائلة التطبيع. هذه خلاصة ينبغي أن يستوعبها المتابع العربي .
السؤال:
السينما الفلسطينية الحقيقية : أهي سينما الكاتب والمخرج أم سينما المموّل ؟

التعليقات