الفساد قصّة وظاهرة وثقافة... عالميّة./ ياسين تملالي*

-

الفساد قصّة وظاهرة وثقافة... عالميّة./ ياسين تملالي*
خصصت مجلة «نقد» الجزائرية، عددها الخامس والعشرين لظاهرة «الفساد»، ودارسة مختلف جوانبها، كالعلاقة بينها وبين الاحتكارات والريوع، والارتباط بينها وبين تركز السلطة السياسية في أيدي الهيئات التنفيذية دون الهيئات المنتخبة.

وإذ غلب الطابع النظري على بعض مقالات العدد، فإن بعضها الآخر فحص ميكانيزمات الفساد المعقدة في مجالات محددة (الصفقات العمومية، الدفاع...) أو من خلال وقائع حية كانهيار بنك الخليفة الجزائري وخصخصة قطاع الطاقة الروسي في التسعينيات.

ويقول المؤرخ دحو جربال، مدير «نقد»، في توطئته للعدد، إن القاسم المشترك بين مختلف الإسهامات هو تجنبها «الوقوع في فخ الإدانة الظرفية والوعظية لظاهرة ليست حكراً على المجتمعات التي تعرف بالنامية، ولا خاصية تنفرد بها البلدان المسماة بالناشئة».

ويتطرق القسم الأول من العدد إلى دور الاحتكارات (الاقتصادية، السياسية) في تفشي مظاهر الفساد، وتدرس فيه أناستازيا زاغاينوفا (جامعة غرونوبل الفرنسية) «تحدّيات المعركة ضدّ الفساد في المجتمعات الانتقالية» (أي ما بعد ـ الكولونيالية وما بعد ـ السوفياتية).

وتتلخص إحدى أطروحات هذه الباحثة في أن عجز الدولة عن الاضطلاع ببعض مهماتها الأساسية، وتزامن هذا العجز مع أزمة اقتصادية خانقة يميزها تراجع العرض وازدياد الطلب، يشوّشان الحدود بين الخاص والعام، بين الفرد والمجتمع، ما يحول توزيع بعض السلع والخدمات (السكن، الكهرباء...) إلى احتكارات يحصّل منها المسؤولون عنها ريوعاً شخصية.

ويبين مقال المحامي المغربي عبد العزيز النويضي، الدور الذي تلعبه الاحتكارات السياسية (احتكار سلطة القرار) في المغرب في تفشي ما يسميه «الرشوة السياسية»، وأبرز مظاهرها كما يقول، «التعيين في المناصب المدرة للمال»، والمحاباة في منح رخص بعض النشاطات وامتيازاتها (الصيد في أعالي البحار، استغلال المزارع المملوكة للدولة...)، وكذلك الدعم المالي الذي تقدمه خزينة الدولة إلى بعض الأحزاب دون سواها. أما مقال أستاذ الاقتصاد المغربي عز الدين أقصبي، فيقوم بعرض شامل لظاهرة الفساد في المملكة، معتمداً بالأساس على تقارير منظمة «الشفافية الدولية».

وتدرس كاترين مارسي ـ سويسا (جامعة ليون3، فرنسا) في القسم الثاني من العدد مظاهر الفساد في قطاع الطاقة الروسي، وتوضح كيف تمخضت عن انهيار الحكم السوفياتي خصخصةٌ سريعة لهذا القطاع ووقوعه في براثن مافيات خاصة قوية. هذه المافيات، تقول، استفادت من الفراغ القانوني الذي ميز الانتقال إلى الاقتصاد الحر فاستحوذت على جزء من موارد البلاد الطاقوية.

وتخلص كاترين مارسي ـ سويسا إلى أن تأميم بعض المؤسسات الطاقوية إبان حكم الرئيس السابق فلاديمير بوتين، وإن قلل من سطوة المافيات المذكورة (بل أجبر بعض زعمائها على مغادرة روسيا)، فهو في الحقيقة استبدلها بنخب منتفعة جديدة تستفيد بدورها من ريوع البترول والغاز.

وفي القسم الثاني نفسه، يدرس مارك بايمان أحد كبار مسؤولي «الشفافية الدولية» الفساد في قطاع الدفاع والتسليح، فيما ينكبّ الباحث رشيد سيدي بومدين والصحافي محمود الحيمر على وصف تجليات هذه الظاهرة في القطاعين العمراني والإعلامي في الجزائر.

ويتلخص القسم الثالث من العدد في مقال يتيم للأستاذ شريف بن ناجي (كلية الحقوق، جامعة الجزائر) عن الفساد في ميدان الصفقات العمومية في السياق الجزائري، وعن الطرق التي يُتحايل بها على القوانين المنظمة لهذه الصفقات.

أما القسم الرابع، فيتطرق في مقالين إلى الارتباط السببي بين نقص الديموقراطية واستشراء هذه الظاهرة. المقال الأول عن حدود تجربة المغرب في مكافحة الفساد (بتريس هيبو من مركز الدراسات والعلاقات الدولية، ومحمد توزي من جامعة أكس ـ أن بروفانس، فرنسا) والثاني عن انهيار بنك الخليفة الجزائري وما كشف عنه من تحول سلطة القرار الاقتصادي إلى بضاعة تباع وتُشرى (الصحافي إحسان القاضي).

وبالرغم من ثراء محتوياته، يؤخذ على العدد مأخذان: الأول عدم كفاية المادة المقترحة لتغطية كل محاور الدراسة. لا يضم القسم الثالث مثلاً سوى مقالة واحدة، كما أن عدد البلدان المدروسة قليل (أساساً الجزائر والمغرب وروسيا)، بالنظر إلى اتساع رقعة الفساد ولكونه، كما يقول دحو جربال في توطئته، «لا يعرف حدوداً سياسية أو إيديولوجية».

المأخذ الثاني هو اعتماد بعض المقالات على مصادر منظمة «الشفافية الدولية» دون النظر إليها نظرة نقدية، وخصوصاً أن هذه المنظمة ممولة من حكومات غربية، وأن بعض مؤسسيها ومسؤوليها سبق أن تقلدوا مناصب رفيعة في هذه الحكومات أو في شركات متعددة الجنسيات. ويبدو هذا الأمر حقاً مثيراً للاستغراب، إذ كان منتظراً من مجلة كـ«نقد» أن تمحص تاريخ «شفافية»، وأن تتوقف عند ارتباطاتها المفترضة ببعض الدول الغربية.
"الأخبار"

التعليقات