المخابرات تقتحم عتبة ذكرى الشهداء.. / جميلة عاصلة*

-

المخابرات  تقتحم عتبة ذكرى الشهداء.. / جميلة عاصلة*
جلست في قلب الليل كعادتي، اقهر الأرق الذي يداهمني كل ليلة، بعد أن تغيب كل الوجوه وتحضر وجوه الشهداء. مرات عديدة أعلنت انتصاري. أما هذه المرة فلم افلح في ذالك، رغم كل محاولاتي لقهر هذا الأرق اللعين. هذا بعد أن كانت لي إطلالة من خلال إحدى النوافذ لأستأنس بالقمر، وأطمئن على بقائه في سماء بلادي.
لكن المفاجأة أنه أطل بفجوره على غير عادته على جرحي المفتوح ليزيده نزيفا ويبشر بقدوم تشرين إلينا مغميا عليه.

احتدمت المعركة بيني وبين هذا الأرق ليكون أبطالها ثلاثة عشر شهيدا. منهم من أطل رافعا يده فخورا بشهادة تفوقه، ومنهم من ظهر بثوب زفافه.

ظلت كل الوجوه غائبة لتمتلئ ذاكرتي نهائيا بتفاصيل الشهداء. أصررت على النوم نكاية بهذا الأرق إلى أن وصل الصراع ذروته. عندها أعلنت انتصاري وسط هدوء ساد كل زاوية في البيت لتأخذني سريعا إغفاءة استيقظت بعدها واجدة ملامح الصباح قد ارتسمت نهائيا.

شلت قدرتي لساعات قليلة لم استطع خلالها القيام بأي عمل داخل البيت إلى أن أشرقت الشمس بخيوطها الذهبية. وكل خيط فيه تحريض ودعوة لي للنهوض والاستمرار في الحياة.

لا ادري بعدها كيف ساقتني قدماي وعلى غير العادة في هذه الساعة إلى بيت إحدى الجارات في الحي لأطمئن عليها، وأطمئن من خلالها في هذا الصباح الاستثنائي على كل المعارف وكل الأنقياء الذين لم تأخذ ظهورهم شكلا محدودبا.

جلسنا نتبادل أطراف الحديث لتتوج جلستنا بقولها: أحييك أم أسيل.. يبدو انك تعلمت حكمة العصافير. فمهما حصل لها تظل تطير. ها أنت ما زلت تحملين قضية الشهداء كما تحملين اسمك.. ثم أضافت سائلة: على فكرة ماذا أرادت الشرطة ليلة أول أمس؟ لقد جاءت سيارة شرطه وقد أزعجوا كل سكان الحي. وكان ملفتا للنظر أن أحد أفراد الشرطة قد ملا الحي بصراخه مناديا أبا أسيل باسمه. أظن أنهم لم يفلحوا في الدخول إلى البيت لأن البوابة الرئيسية كانت مقفلة.

أجبتها باستغراب: عزيزتي.. أتعين ما تقولين؟ أم أنك أصبت بداء الإشاعات؟ عبثا حاولت إقناعها بأن ذالك مستحيل، وقلت لها: نحن نعرف وندرك وقاحة الشرطة. ولكن كيف يمكن لقاتل أسيل أن يجرؤ ويقترب من البيت؟ ليتضح لي فيما بعد بأنني كنت واهمة.

غادرت بيت صديقتي هذه وأنا في حالة بين الشك واليقين. خاصة وأنني أدرك إدراكا تاما أن وقاحة هذه المؤسسة لا حدود لها.

بعد وصولي إلى البيت جلست في إحدى الزوايا علني أستوعب ما سمعت. لكن ذالك لم يحصل. فكل ما وقعت عليه عيناي في تلك اللحظة كان غير طبيعي، وبدت كل الأشكال من حولي بلا أشكال. قفزت بعدها وأنا في حالة توتر إلى الحديقة على أمل أن اخفف من حالة الاختناق التي اعترتني، وإذا بي أرى ورود الحديقة قد نكست رؤوسها، والأشجار قد غيرت شكلها،وكل شيء كان من حولي قد غير لونه.

انقضى النهار وجاء آخر. ليتعزز ما قالته لي صديقتي. إذ وصلت في ساعات بعد الظهر سيارة شرطة إلى مكان عمل أبي أسيل وسلمت كتابا لصبية تعمل هناك يتضمن دعوة لمساءلة ابننا براء البريء والذي هو اقرب إلينا من حبل الوريد كما هو أسيل.

مرت بضعة أيام إلى أن حان الموعد المحدد للمثول في مركز الشرطة حيث توجه إلى هناك ليجد رجل المخابرات بانتظاره.

بعد رجوعه إلى البيت وكما هو طبيعي أثار فضولنا معرفة ما دار في جلسة الشاباك تلك، ليتضح لنا أن رجل المخابرات ذاك أراد أن يتأكد من أن ابننا قد تقمص حنجرتنا أم لا. وأن صوته ما زال يحمل قضية الشهداء. هذا بالإضافة إلى أنه حاول معرفة تفاصيل سنواته الماضية، ناسيا أن هذه المؤسسة قد سرقت تسع سنوات من طفولته. بعد أن سرقت عمر أخيه أسيل وأعمار كل الشهداء وبسرقتهم هذه كانوا قد سرقوا الضوء من مصابيح بيوتنا والشمس من أيامنا.

أما أكثر الأمور التي حاول التركيز عليها رجل الشاباك هذا والتأكد منها فهي: إن كان قد أصاب ابننا عاهة ما وتحديدا عاهة اليأس. وأظن انه ومن خلال هذه المساءلة قصد أن يوصل له رسالة مفادها: أن التهمة الموجهة له أن صوته عال، وأنه يقف، حسب ادعائه، على الخط الرفيع الذي يحيط بديمقراطيتهم المزعومة. وقد لخص جلسته بلهجة وقحة قائلا: نحن نحذرك. ممنوع منعا باتا المرور في درب النضال. وكذالك الوقوف على أرصفة الحقيقة.

هكذا كانت رسالة الشاباك في الأيام الأولى من شهر رمضان المبارك وعلى عتبة تشرين. أما من جهتنا، وكما يعرفنا الجميع، فإننا نسير وفق الأصول. لذا وجدنا أنه من المناسب الرد على هذه الرسالة بأحسن منها. وهي في الوقت ذاته رسالة الشهداء ورسالة الأحرار وكل المقموعين من أبناء شعبنا.

نحن نعدكم بأننا سنبقى ندافع عن حقنا كما تدافعون انتم عن باطلكم. ها انتم قد أقفلتم كل المؤسسات وفروعها أمام أبنائنا ولم تبقوا سوى فروع المخابرات مفتوحة على مصراعيها لتستفيقوا كل يوم وتقبضوا على ضحية أخرى. ولم يعد خافيا على أحد أنكم تخترعون لكل شاب يقع في شباككم تهما تتقاضون عليها رواتبكم لدرجة أن الأوراق والحواسيب أصبحت مستودعا لأكاذيبكم. لقد بات معروفا أنكم في هذه المؤسسة تجتهدون دائما لاختراقنا من الداخل وتندسون في مؤسساتنا التعليمية وفي بيوتنا لتربية أجيالنا ليكبروا ضد أنفسهم. في حين تقضي كل أم من أمهات هذا الشعب سنوات عديدة لتعليم طفلها النطق ليدافع عن حقه لتأتي حضرتك أنت ممثلا لهذه المؤسسة لتعلمه الصمت. لقد أصبح كل عربي في نظركم مدانا سلفا لأنه جاء إلى هذه الحياة. بل أكثر من ذالك إنكم تعتبرون أرحام أمهاتنا أعداء لكم لأنهم ينجبون أطفالا ليضحوا الكاشف لكل ممارساتكم.

نعم.. نحن نعرف أنكم تراهنون على الزمن، وأن الشيخوخة تداهمنا. لكن هيهات من النيل منا ومن عزيمتنا. لقد تعودنا أن نعطي قضيتنا صدورنا، ولكن لم يحدث يوما، ولن يحدث أبدا، أن نعطيها ظهورنا.. فقضايا الشعوب تتحملها الأجيال المتعاقبة ولا يقتصر النضال على إنسان هنا وإنسان هناك. نحن على أمل أن جيل الشباب هذا يستطيع دائما تحريك الجهاز العصبي لكل قضايانا العادلة. ونحن متأكدون أنهم سيرفعون صوتهم دائما وأبدا ضد الظلم والتمييز.

فبئس الظالمين ونعم المحقين.
وتحية للشهداء كل الشهداء.
وكل تشرين وشعبنا بألف خير.

التعليقات