"المشهد الشعري الفلسطيني يتسم بسطوة الخطاب السياسي!"

لقاء مع الشاعر الفلسطيني أحمد يعقوب

أحمد يعقوب، شاعر ومترجم فلسطيني، تسحره اللغة علي المستوي الميتافيزيقي، يتمتع بتشظياتها ويداعبها كطفل صغير، مفعم بالتأمل الفلسفي والتحليق صوب كل ما هو جديد. ترحل قسراً بين عدد من العواصم العربية والأجنبية. نشأ في دمشق، انتقل (عام 86) الي بغداد ومنها الي تونس وهافانا ومدريد وغيرها، عاد الي أرض الوطن عام 1999، ويصر على أن يبقي الوطن حلماً ولا ينزل الى أرض الواقع. نقل من الاسبانية الي العربية عددا من الأعمال الشعرية والأدبية، بجانب نشره لعشرات المقالات الأدبية والنقدية والسياسية أيضاً.

"البقاء على قيد الوطن" أول مجموعة شعرية له، صدرت مؤخراً عن مركز أوغاريث الثقافي في رام الله. تبعها لقاء لنا معه كشف فيه عن رؤيا اعتقد أنه انفرد فيها كما كشف عن هم/ هموم عامة وخاصة تحدق بالمشهد الثقافي/ الشعري في فلسطين.

قبل الخوض في الحديث معه حول أول عمل يُنشر له وحول الحالة الشعرية في فلسطين، فضل أن ينوه الى أن "البقاء على قيد الوطن" هي مختارات من 5 مجموعات شعرية تغطي الفترة الزمنية 1986 ـ 2002 تغطي التنوع المكاني. بيد أنه لأسباب يجهلها، عزا بعضها للخلل الثقافي جعلها تخرج كمجموعة، بجانب تأخر نشرها. وأشار الشاعر الى أن هذه المختارات وضعها خلال رحلة الشتات في كوبا، مدريد، العراق، الامارات، تونس، الى جانب بعض منها وضعها بعد العودة الى ما تيسر من وطن.

وقال يعقوب انه وضع هذه المختارات بعد أن طرأ تطورٌ علي المهارات الفنية والثقافية لديه فجر بداخله ثورة كبيرة ضد الغنائية وضد الرومانسية أتلف بعدها كل ما كتبه حتى تلك الفترة. ثورة تُعتبر بالنسبة له حجر زاوية، جاءت بعد لقائه بالشاعر التشيلي، فلسطيني الأصل، محفوظ مصيص، في مهرجان المربد (1986) في بغداد، والاطلاع علي أعماله وترجمة مجموعته الشعرية من الأسبانية للعربية. وقد وصف الشاعر يعقوب المجموعة، التي افتقرت للغنائية والتفعيلة والموسيقى، بأنها فراق مع الشعر الفلسطيني، متفاخراً بأنه استقل في رؤيته التي لعب فيها بمناطق حسية أكثر منها ذهنية، ما جعله غير مقلد لتجارب سابقة.

الفراق و التطرف مزج عبرهما يعقوب الشعر بالمسرح والموسيقى، التي عزف على صفحاتها أكثر من أوتارها، لتقوده هندسته الي القصيدة البيضاء الى أمي، مواصلاً الفراق الذي يصارع عبره اليوم الضغوط التي يمارسها عليه الوطن للالتفاف الى الشعر التقليدي والعامودي والتفعيلي.

أين ر..و..ح..ي؟ ، مو. . مو. . و. . زة ، أس...ود/ أس...وأد، وتشظيات واشتقاقات وتجديدات وتطرف لغوي برز في المجموعة. فسرها يعقوب بـ "متعة الطفل خلال مداعبة اللغة واكتشاف تفاصيلها"، منوهاً أنه يتمتع في تشظية مفرداتها والبحث عن ملابساتها. فهي تسحره على المستوى الميتافيزيقي والوعي الجمعي.

وفي رده علي ما اذا وقفت أمامه حائلاً في بعض الأحيان قال يعقوب انه ليس صوفياً كي تخونه اللغة، ولتوضيح رؤيته التجأ الي مقارنة بين الشعر والصوفية فقال: الشاعر والصوفي يتفقان بالرؤية في تجسيدها، الصوفي يفني جسده ونفسه من أجل الوصول الي الجمالي المطلق، أما الشاعر فيقف وسط الخراب والفناء ويشيد هذا الخراب جمالاً مطلقاً بواسطة اللغة والهندسة المعمارية للمخيلة. يستعين النفري بحركة الجسد ليعبر عن اتساع الرؤية لديه، أما الشاعر فمن الضروري أن يكون سلاحه الوحيد في الشعرية هو اللغة فقط.

وافترض يعقوب أن يكون للشاعر قاموس لغوي شاسع، كمطواة لينة، غنى يتناسب ويتلاءم مع رؤياه الشعرية، علي عكس النفري الصوفي الذي قال: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة .
أما "الأنثى"، فينظر يعقوب اليها كمفهوم شعري، يبحث يعقوب عنها في الواقع، ويخلقها بمفهومه الشعري حسب رؤيته الخاصة به ويوزع لها الأدوار حسب اعتقاده. هناك أنثى أخلقها شعرياً، هي أنثي اليوتوبيا، أبحث عنها في الواقع، فهي لا تعني بالضرورة المرأة فقط؛ فهي الأنا وهي تفاصيلي وربما مفاهيم أخري أيضاً. لكن من الضروري أن نفهم أنها ليست هي أنثى نيتشه الذي قال: كلما خرجت الى النساء عليك أن تحمل السياط"، لهذا جردت نيتشه من سياطه في أحد نصوصي وعينت الأنثى مستشارة للقمر والبرتقال.

حسين البرغوثي، محمد البياتي، فريد دوهمان، صلاح القصب، وأسماء أخرى كثيرة لأدباء ومفكرين فنانين وغيرهم، توزعت على حواشي المجموعة، ما خلق انطباعاً بأنه استعراض من الشاعر لابراز علاقاته العامة، الأمر الذي أثار يعقوب في رده فقال: قبل التعليق على الحواشي يفترض التعليق على المتن، فالأسماء الواردة في النصوص هي أسماء مبدعين وأفتخر بها وأتباهى بأن تكون أحد مكونات نصوصي. وعندما كنت غريباً عن وطني توحدت مع غرباء في أوطانهم، نسجنا وطناً خاصاً بنا . وأضاف أن رحيل أي منهم عن الساحة الثقافية ترك/ أو سيترك فراغاً يصعب ملؤه، مستشهداً بالمفكر حسين البرغوثي الذي يُعتبر خسارة لا تعوض، والمشهد الثقافي الفلسطيني والعربي بحاجة الى عشرات من أمثال حسين البرغوثي.

ويعود يعقوب ليتذكر أن له محاولات سابقة للنشر لكنها باءت بالفشل، فبعد مغادرة بغداد انتقل الي تونس وتمكن من تحضير مجموعة شعرية قدمها لدائرة الثقافة في م. ت. ف. لكن لم تنشر لأسباب قيل انها تتعلق بالأزمة المالية التي عصفت بالمنظمة ابان الأزمة العراقية ـ الكويتية.

وأضاف انتقلت من تونس الى العراق في أزمة مالية حقيقية، والحصار علي بغداد حيث كانت الرواتب من م. ت. ف. تنقطع 6 ـ 7 شهور ولا تكفي للطباعة. إضافة الى أن انشغالي في البحث عن نص جديد جعلني أفكر كثيراً قبل أن أصدر مجموعة شعرية. مع ذلك كنت أراكم مسودات وأسجل تجربتي الحياتية والفنية الى الدرجة التي وصلت بها الى قناعة بأنني ليس من الضرورة أن أطبع مجموعة، بل سأحافظ على أن أبقى صاحب قصيدة واحدة موزعة على أكثر من لغة.

تحت الحاح الشاعر غسان زقطان جمع يعقوب ما تيسر له من نصوص وقصائد، وأودع مكتبته في بغداد كما أودع مكتبات أخرى في عواصم عديدة، وكان لزوجته الصحافية سهام أبو شباب دور كبير في تجميع النصوص التي احتضنها "البقاء على قيد الوطن".

شجون الحديث جعلت من الهم الثقافي الفلسطيني يحتل نصيباً لا بأس به من اللقاء، وفي هذا الاطار قال يعقوب ان الحركة الثقافية الفلسطينية ـ بعد نشوء م. ت. ف. ـ غلب عليها الطابع الأيديولوجي والسياسي والدعائي الاعلامي. كان من الضروري أن يكون لصوت الرصاص صوت فني موازٍ، لهذا تم الاحتفاء بعدد كبير من الأدباء والكتاب والشعراء وهم يتعكزون بشكل مباشر علي القضية والخطاب السياسي والتراث بفنية متواضعة جداً. ففي جانب الرواية، بعد اغتيال غسان كنفاني تم تلميع وتقديم عدد من الروائيين/ القاصين وكوادر الاعلام الفلسطيني، الذين يكتبون قصة ومقالة قُدموا علي أنهم روائيون واستجاب لهم السوفييت وترجم لأحدهم 130 لغة، يرجع الفضل في ذلك الي الحرب الباردة.

حول المشهد الشعري بشكل خاص قال يعقوب انه يتسم بسطوة الخطاب السياسي والوطني على النصوص، والشاعر أمثال خالد أبو خالد ويوسف الخطايب وشعراء كبار وغيرهم، يتغنون بالوطن وأنا، حين أكتب نصاً يومياً حياتياً أو عندما أجرب فهذا التجريب وهذا النص لا يتعارض مع الانتماء الثوري، لكنني أريد أن أنتمي الي الوطن بطريقة فنية، طريقة الشعر والشعراء.

وحول دور المثقف في الحياة السياسية، قال يعقوب: ان التخبط السياسي الذي تشهده الساحة الفلسطينية منذ 1936 حتى يومنا هذا يعود أحد مسبباته الرئيسة الي الجانب الثقافي والمعرفي، المهمش. فليس للمثقفين أي دور حاسم في الحياة العامة، ولا في اتخاذ القرار السياسي والا التربوي ولا التعليمي ولا في مختلف مناحي الحياة.

وأضاف أن الحياة الثقافية في فلسطين هي انعكاس للحياة السياسية، قائمة على جماعات وشلل وليس على تيارات لها منظومة فكرية تخوض جدالاً وصراعاً حقيقياً... القائمون على الحياة الثقافية هم متسيسون أكثر منهم مثقفين. مفهوم السلطة أفسدهم، وفتح شهوتهم وشهياتهم، لهذا يتعاملون مع المنبر الثقافي كوسيلة للحضور الاجتماعي وللحضور السياسي كمخترة.

سيطرة الخطاب السياسي لم تلغِ تفهم يعقوب للأوضاع الثورية التي مر بها الشعراء والتغيرات السياسية والثقافية، معتقداً أنه عندما يسحب هذا المفهوم الي الشعر يجد نفسه في قالب النص المفتوح بلا قوالب وتفعيلات وأجراس، ولا يلزم الكثير من الغناء كي أتحدث عن وردة.

في مدينة أصيلة المغربية نُظم الشهر الماضي، احتفاء بالشاعر التشيلي الثوري الشهير بابلو نيرودا . خلال الاحتفاء قال الشاعر الفرنسي ألان سيكار أن قوة نيرودا لا تكمن في حديثه عن الثورة في شعره وانما في قوة تعبيره عن الحب ووصف الطبيعة والمشاعر الانسانية القوية والعميقة. وهذا ما يؤمن به يعقوب الذي قال ان الفن يخدم القضية وليس العكس، مضيفاً أن الشاعر الحقيقي هو الذي يعيش من أجل الشعر، ويمتلك أدوات فنية وجمالية متميزة كي يخدم قضيته.

ويعتقد الشاعر يعقوب أنه نجا من الانزلاق في هذا المنحدر وأبسط دليل علي ذلك أنه مزق نتاجات سابقة كانت قريبة من هذا المنحى على الرغم من أنها احتوت علي بعد رومانسي.

الحنين الي الغربة، بكل مراراتها وأنواع الذل التي مر ويمر بها الفلسطينيون في الشتات، حنين لا يعدو عن كونه ضرباً من المازوخية أو رد فعل لأوضاع لم ترق لناظريها. حول هذا الحنين الغريب، و صدمة الوطن قال يعقوب ان هذه الفكرة هي ليست مأساته فحسب، بل مأساة الذين اقتلعوا من وطنهم، فقد عرف وطنه فلسطين بالفكرة، ولم تكن له علاقة حميمة مع تفاصيل وتضاريس الوطن مع الانسان والخير والشر، فيقول: عرفت الوطن من خلال فكرة انتميت اليها عقلياً بطابع سياسي ووطني، ولدت في المنفى، قامت علاقات حميمية في المنفى وعشقت المدرسة وسجنت في سورية والامارات، في المنفى كانت جملة من التفصيلات الحياتية... عندما عدت، عدت بذاكرة مثقلة بالمدن والعواصم والوقائع والسير والتفاصيل... أشعر أنني بدأت أنشئ علاقتي مع المكان كأي طفل يبدأ بالتعرف على الأشياء ومطابقة النيغاتيف في الذاكرة مع ما هو قائم في الوطن، لهذا أصر على أن يبقى الوطن حلماً وأن لا ينزل الي أرض الواقع.. فمهما تعددت السياسة والأيديولوجيا، فالوطن في المقام الأول هو الحرية والعدالة والمساواة والابداع والجمال.

وفي مقارنة بين تجربة الوطن والمنفى أشار يعقوب الى أن لكل شاعر وطنا خاصا به، فالوطن في نظره الآن هو سجن كبير فاقد للحرية بكل معانيها، هذا السجن فيه مشهد واحد هو الموت والقيد واستباحة الانسانية بشكل مستفز، والموضوع خارج عن السياسة الأيديولوجية. أنا لا أوافق سارتر الذي يقول: عندما تكون مسجوناً تخيل أنك حر. أنا أقوم بترويض السجن خلال مقاومتي له عبر الابداع الفني أولاً وغرس جذوري في المكان، وهذا ما أحاول القيام به.

حول تجربته في ما تيسر من الوطن، قال يعقوب انه صُدم للحالة العامة، والحالة الثقافية بالتحديد، ليصبح الوطن بالنسبة له وطن الصدمات. فهو يرى أن الشعر لدي الكثيرين هو وسيلة حضور اجتماعي وسلطة من نوع ما، بعيداً عن الشعرية والجمالية والمعايير الفنية للعملية الابداعية وبعيداً عن طقوس الحياة الشعرية المعروفة عن الشعراء عبر التاريخ. مضيفاً أن هناك حالة من المباهاة بين المفهوم الشعبي والثقافي السائد في فلسطين، يتمثل في ضرورة نشر الشاعر عشر مجموعات شعرية.

القلق الذي برز في حديثه حول الحالة الثقافية الفلسطينية فسره الشاعر يعقوب على أنه قلق عام/مؤسساتي قبل ان يكون فنيا. ملقياً اللوم علي المؤسسة الفلسطينية الرسمية. فهو يرى أنها أصيبت بعدوى النظام السياسي العربي وليست كفؤاً ولا أهلاً أن تمثل وزارة الثقافة الفلسطينية الحقيقة، لأنها موجودة كديكور فقط. كما عرج الى قصور السلطة في رفد المشهد الثقافي متسائلاً: كم مسرحا بُُني. هذا الى جانب تدخل المنظمات غير الحكومية في الحياة الثقافية بشكل مفرط يصل الى التدخل في النص المسرحي مما أدى الي انحدار النتاج الأدبي ليهوي في حفرة التجارية.

ثم تساءل يعقوب: لماذا وزارة الداخلية هي التي تجيز الجمعيات الثقافية؟ ان هذا الأمر جعلها وهمية، أما الجمعيات غير الوهمية فهي أماكن للارتزاق، أما اتحاد الكتاب، فقد تم تهميشه بشكل متعمد من قبل الساسة، لأن المؤسسة السياسية تتعامل مع المثقفين تعاملاً مناسباتياً ودعائياً وكأنهم موظفون لدعاية سياسية.

كما رفض الشاعر يعقوب أن يجعل من الاحتلال، الذي حول الوطن الى سجن كبير لا يحوي الا مشهد الموت، شماعة نعلق عليها فسادنا وغياب العقلية الذهنية الاستراتيجية لبنية تحتوية وفوقية لدولة اليوتوبيا الفلسطينية التي حلم بها الشاعر والفيلسوف الفلسطيني محمد زايد.

(سامي أبو سالم- "القدس العربي")

التعليقات