الوزن أم الإيقاع .. أين نجد موسيقى الشعر؟/علي نصار

-

الوزن أم الإيقاع .. أين نجد موسيقى الشعر؟/علي نصار
غالبا ما نحصر موسيقى اللغة في ضروب الشعر، والأسوأ، حين نحصرها في الايقاع، لا سيما ونحن نحصر الايقاع في الوزن، لننتهي الى اطلاق مصطلح <<موسيقى داخلية>> على كل ايقاع او لحن خارج الوزن.

قبل البحث في ماهيتها وموقعها داخل اللغة، فلنلق نظرة على العناصر التي تحويها الموسيقى، ثم نحاول المقاربة بين الموسيقى التي نسمعها والموسيقى التي نقرأها.

تحتوي الموسيقى على أربعة عناصر أساسية: الايقاع، اللحن، الهارموني، اللون النغمي. أما العناصر التي تحويها اللغة، عضويا، فتنحصر بالايقاع واللحن. وهما موجودان بشكل ملموس و(بنيوي) في هيكلية النص مطلق نص بغض النظر عن وجود الجمالية اللفظية او عدمها. فيما العنصران الآخران (الهارموني، واللون النغمي) يبقيان في الميدان النظري، او ضمن دائرة الترادف في أحسن الأحوال. فالهارموني، الذي يعني توافق الاصوات المترافقة في اللحن، لا وجود له في النص المكتوب.

ولو اننا نستطيع ايجاد مرادف (عملي) له، كالانسجام الوقعي بين المعنى واللفظ (أحد أشكال البلاغة). أما <<اللون النغمي>> فهو ذو طبيعة سماعية صرفة، لذا يستحيل وجوده في النص المكتوب، ولن نجد له أي مرادف. إلا إذا وافقنا على وجود موسيقى داخلية، عندها يصبح الأمر موضع نقاش. وهو خارج موضوعنا الآن، لأننا بصدد الموسيقى المادية التي تكوِّن البناء اللفظي للغة. سنبدأ بالايقاع الذي يُشكِّل، او يتشكّل، من التقطيع داخل الجملة او الفقرة. ويرتكز على انتقاء العبارات وصياغة التصاريف المتناسبة ان من حيث الزمن او من حيث الوزن الوقعي. ومن ثم التحكم بحجم الكلمات او مواضع الوقوف كالفواصل والنقط والاشارات... اما ما يستطيعه القارئ (عبر التفخيم والترخيم، والتسريع والتسكين، والتحكم بمدى اطلاق حروف العلة او كبتها) فيتبع لايقاع التلاوة، وليس لايقاع التأليف.
كثيرا ما نخلط بين الوزن والايقاع (في الموسيقى كما في الشعر) فنتعاطى مع الاوزان بوصفها ايقاعات، والعكس بالعكس. بالرغم من ان الوزن، ليس سوى، تقطيع ثابت للأزمان. فيما الايقاع، حركة وخلط وتكسير دائم (ضمن الوزن، او خارجه). فعندما ننظم بيتا من الشعر (على بحر من البحور) انما نوزِّع تفاعيل ثابتة داخل الاطار الوزني. وهو، بالضبط، ما نفعله في الموسيقى عندما نقسّم الأزمنة ونضعها في مازورات موحّدة، لنشكِّل وزنا ثابتا. اما الايقاع (في الموسيقى كما في اللغة) فتشكله الاصوات الناقرة والضابطة، والسكتات، ونقاط القوة في اللحن، لفظا كان او موسيقى مجردة. لذلك، نرى قصائد تحمل اختلافات وتفاوتات على مستوى الايقاع، بالرغم من نظمها على البحر ذاته.. لنأخذ مثلا، هذين البيتين من البحر الطويل:

1) مكرٍّ مفرٍّ مقبل مدبر معاً
كجلمود صخرٍ حطّه السيل من علِ
2) رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم

واضح اننا، لا نحتاج الى الكثير من التدقيق كي نرى الفرق في حركة الايقاع، ففي البيت الأول، نرى تقطيعا زمنيا متجانسا، رشيقا، وانسيابيا (من حيث التوالد الوقتي واللفظي للكلمات) إذ يبدأ بكلمة (مكرٍّ) يليها (مفرٍّ) وهي على ذات الوزن الجزئي، وتتشارك بنفس الأحرف التي تشكِّل المواقع اللافتة والجاذبة، ما يجعل حرفي (الكاف) و(الفاء) الذين يتوسطا الكلمتين، كحرف لفظي واحد.

ثم ينتقل الى كلمة (مقبل) التي يوحي دخولها بأنها تكرار وزني للكلمتين السابقتين، ولكن، عند انتهاء الكلمة نكون أمام وزن جزئي آخر، تليها كلمة (مدبر) على ذات الوزن. وبهذا، نكون قد انتقلنا من وزن ثنائي الكلمة (مكرٍّ مفرٍّ) الى وزن آخر (مقبلٍ مدبرٍ) من دون ان نشعر بذلك الانتقال. وكذلك يحصل مع كلمة (معاً) إذ تبدأ وكأنها تكرار وزني لما سبقها، ثم تقطع فجأة منهية الشطر الأول من البيت، ومكوِّنة (إضافة الى ذلك) وزنا ثنائيا آخر (مدبرٍ معاً). هذه بعض مكوّنات البيت ايقاعيا، أما من الناحية اللحنية، فلننظر الى حرف الميم الذي يحتكر بدايات الكلمات الخمس، ونرى هذه الجملة الصوتية: <<مي، مي.. مو، مو.. ما.>> او الذي ينتج عن صوت الحرفين الأولين: <<مِكا، مِفا.. مُثْ، مُدْ.. مع.>>.

سنكتفي بهذا القدر من التحليل الصوتي، وننتقل الى البيت الثاني (رأيت المنايا خبط...) لنرى ايقاعا خافتا، لا سبيل لوزن كلماته، ولا لرصد ارتكازاته. ويتبين لنا ان الأوزان الجزئية بداخله، ما هي الا تسويات تتطابق مع تفاعيل البحر الطويل، من دون التركيز على نقاط القوة والضغط داخل التفعيلة. ويبدو واضحا، ان هذا البيت رصف رصفا، عكس البيت الأول مكرٍّ مفرٍّ...) الذي خرج من حالة لحنية راودت الكاتب.

ولنقارن هذين البيتين من البحر البسيط:

1) الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
2) بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيّم إثرها لم يُفْدَ مكبول

صحيح ان هذين البيتين على وزن واحد، ولكن، هل من ايقاع، حركي، مشترك بينهما؟ ألا يبدو ايقاع (الخيل والليل...) أقرب الى (مكرٍّ مفرٍّ...) منه الى (بانت سعاد...) الذي يشاركه البحر البسيط؟!

خلاصة القول، ان الايقاع هو الحركة داخل الوزن، وليس الوزن ذاته. وأكثر، ان الايقاع الذي يترسخ كمرجعية يصبح وزنا يبنى عليه. وما (جوازات البحور) وبعدها شعر التفعيلة، سوى ايقاعات شكلت اوزانها من رحم الاوزان الثابتة، ولكن جرأتها لم تصل الى حد كسر القالب.. خوفا من التحجُّر الذي ما زال طاغيا حتى يومنا. وما زال يتعاطى مع كل طارئ على انه.. نشاز و(ديكلاج) واستسهال.إذا عدنا الى القرن التاسع عشر، نرى ان معظم الإضافات، الإيقاعية واللحنية، التي طرأت على الموسيقى الغربية (ذاتها التي عادت ووسمت القرن العشرين) كانت تعتبر من ضروب النشاز (حركيا و، او، نغميا) مع ان العديد منها كان يتحرّك على قواعد ثابتة، او، تبيّن لاحقا (بعدما ترسخت) انها موسيقى لها قواعدها ومبادئها. وهذا يثبت ان الخروج عن الأوزان الكلاسيكية، ليس، بالضرورة، خروج عن الايقاع، لا بل العكس.

ان الكثير من التفلُّتات الحرة، تودي الى ايقاعات ليست على بال، فبوسع المرء ليس مطلق مرء تركيب ايقاع جديد في كل لحن جديد. وهذا ينطبق على الايقاع خارج الأوزان. فهناك قصائد رشيفة، ذات ايقاع حفيف تكرج تحت ناظريك كرجاً، وأخرى لشدة التعثُّر في حركتها، تخالها مراوحة مكانها. لا أتكلم، فقط، عن الأشعار التي تحمل غنائية وتدفقا عاطفيا، فذلك ينسحب، ايضا، على الأشعار المشذّبة، والمحددة. مثلا، هذين المقطعين من قصيدتين مختلفتين ليوسف بزي:

1) لنشطب عينا،
لنحذف كبدا،
او، لنطبق فما على انبوب
على هذا المنوال/ ندمِّر الأسماء/
إذ نحبها أو نعضها.
2) حشوة المدينة في البحر أخيراً
نرمق لوناً ذهبياً
في العين الرجيفة
هذه أيضا علامة فأل.
صحيح ان لا تفاعيل متراصفة وكاملة، ولا أوزان ثابتة في هذين المقطعين، ولكن، هل يصحّ وضعهما في الخانة ذاتها؟ او، هل يجوز ان نعتبر المقطع الأول عديم الايقاع مشوّشة (كما المقطع الثاني)؟ لا، فالمقطع الأول يحمل ايقاعا واضحا وحاسما، ابتداء من الوزن الجزئي المكرر في السطرين الأولين، ثم بالعطف (اللحني) الذي يجعل من السطر الثالث (المبني على وزن جزئي مختلف) متمما لوزن يجمع الأسطر الثلاثة. ثم في السطر الرابع، حين يخرج الكلام (على هذا المنوال...) عن الوزن الذي جمع الأسطر السابقة، يأتي كتوطئة لوقع عبارة (ندمِّر الأسماء)، فوقع هذه العبارة <<لفظيا>> يأتي كتهيئة عذبة.. وحاسمة لاقفال المقطع على ايقاع متناغم، ولكنه يقفل بوزن جزئي يخلخل البنية الشاملة للمقطع، إذ يفضّل الشاعر، او يكتفي، او ربما يعجز، فيترك الجملة الأخيرة (... إذ نحبها او نعضها) رخوة، او مفتوحة، من دون اقفال (من حيث اللحن لا المعنى).

نعم، ان الموسيقى هي احد الاركان الرئيسية للشعر.. الموسيقى وليس الوزن.. فكم من موسيقى تلعب خارج الوزن، كالموّال والتقاسيم ومعظم العزف المنفرد. وكم من ايقاع او وزن بليد، لا طعم له، كصوت عجلات القطار او قطّاعة العجين. لذلك علينا التعاطي مع بحور الخليل (مع ما انبثق عنها من جوازات، ومن ثم اشكال الشعر التفعيلي) كقوالب وزنية، لا كقواعد تحتكر الايقاع واللحن، والانطلاق منها، كمخزون تراثي، الى فضاءات تبوح بها ايقاعات حياتنا وهواجسنا ومراحلنا. فالشعر الحر، إضافة الى اتساع احتمالاته، سينزع الى لحنية ما، ليعوِّض الايقاع (النافر)، وهو ما يتجه بالنص الى أغوار تناغميته، تواكب تطوّر المعنى ونبض العصر (بالطبع، لا ينسحب هذا الكلام على كافة الشعر الحرّ). فتطورية اللحن، مقارنة بالايقاع، امر مسلّم به، إذ يتفق معظم المؤرخون على ان الايقاع هو اول عناصر الموسيقى التي صدرت عن الانسان البدائي ثم اتت الميلودي وبعدها الهارموني والبوليفوني... ولكن الايقاع ظل الأكثر تأثيرا وارتباطا ببدائيتنا.. يمكننا ادراك ذلك، عند سماعنا موسيقى يغلب ايقاعها على لحنها، لنرى مدى تحفُّز غرائزنا البدائية والفطرية. كما نستطيع ذلك من مراقبتنا الطبيعية الموسيقى في المجتمعات القبلية، التي
تعيش خارج الحضارة الراهنة.
يجب ان نعترف، وببساطة، اننا حين نستمع الى ايقاع واحد ومتكرر، لا نستطيع سوى الاستسلام لتأثيره الذي يشبه التنويم المغناطيسي، وهو ما يعيدنا الى بدائيتنا ويغمرنا بدفء التقوقع داخل حيوانيتنا. بالرغم من كل ما تحمله، هذه الايقاعات البسيطة، من رتابة ومحدودية. وهذا ليس بعيدا عن ما يفعله سماع الشعر الموزون على بحر واحد. (هنا بيت القصيد).

هذا لا يعني ان شعر البحور اكثر ايقاعا، لكنه أكثر تحديدا وتبسيطا وابرازا له. بينما، في الشعر الحر، يتماهى الايقاع مع حركة الكلمات ما يفسح المجال أمام التنوُّع اللحني، ويزيد من طواعيته كخادج لوقع الصورة والفكرة وموسيقى اللفظ وهو ما يطلق عليه البعض، صفة (الموسيقى الداخلية). وهذا برأيي اصطلاح خاطئ، لأن الموسيقى فن سماعي، وهي حين تصدر عن اللغة، إنما تصدر عن وقع تناغم الألفاظ وحركيتها. أما عن وقع المعنى في النفس (حين ينتج حالة انطرابية) فيكون من خلفيات القارئ، وهو يختلف من شخص لآخر. لذا لا علاقة له بالموسيقى كمادة ملموسة.وهذه المادة نجدها، ليس فقط في الشعر الحرّ، بل في المقالة والقصة والخطاب، وفي كل أنواع الكتابة دون استثناء. فربّ مقال علمي تجد فيه من التناغم، بين مفرداته وحروفه وأزمانه، أكثر من بيت شعر موزون بلغة بليدة ومبعثرة الارتكازات.

التعليقات