جوان تتر: ولد خورخي فرانسيسكو لويس بورخيس أسيفيدو في مدينة بوينس أيرس 24 آب 1899 وتوفي في جينيف 14 حزيران 1986، بورخيس الذي طالما أدهش العالم بثقافته الغنية، ومقارناته يمكن وصفها بالغريبة.
ولكن في الحقيقة هي الأصح والأقرب إلى الواقع، خورخي لويس بورخيس الشخصية الفريدة من نوعها في الثقافة العالمية والذي لعب دورا بارزا في التأكيد على الإرادة القوية للمكفوف تلك الارادة التي لا تتوقف عند حدود تعطيل الحواس ليغدو الظلام بالنسبة إليه نورا يحيك منه أساطيره وحكاياته عن الكائنات الخيالية، في إحدى قصصه سيتذكر ذلك الطفل الجالس على كرسي في الحديقة، مستسلما لتأملاته: "ستصير كفيفا، لاتخشى أمرا ما، إن ما سوف تراه يشبه نهاية طويلة لليلة صيف" وأيضا سيقول عن العمى الذي أصابه تدريجيا في محاضرته عن العمى "أعيش في ذلك العالم من الألوان وإذا تحدثت عن عماي المتواضع أولا لأنه ليس بالعمى المطلق الذي يتخيله الناس وثانيا لأنه يتعلق بي، حالتي ليست درامية بشكل خاص، إنه هبوطٌ بطيء لليل".
كما أنه سيوضح العلاقة القائمة بين الشعر والعمى مستشهدا بمقولة لأوسكار وايلد: "إن العصور القديمة قدّمت هوميروس عن عمد كشاعر أعمى"، وكمثال أيضا على العمى وفائدته لبورخيس بالتحديد أسوق مثالا آخر "للعمى منافعه، إنني أدين للظلام ببعض الهبات، معرفتي بالايسلندية، متعة الكثير من أبيات الشعر والكثير من القصائد وتأليفي لكتاب آخر هو "مديح الظلام"" وكأن بورخيس هنا يقدّس العمى.
العمى لدى بورخيس يحفزه على إثبات ابداعه والقول إن الابداع لا يقف في وجهه إي شيء المهم أن هناك فكرة تتبلور، فكرة تقدم شيئا مفيدا للبشر ولو على الصعيد النفسي، الذائقة والارتياح "إلى حد ما" الذي تخلفه قراءة بورخيس، يقول كلود موريان: "يعتبر بورخيس من بين عشرة أو خمسة كتاب معاصرين الذين نالوا حظا وافرا من طرف النقاد والقراء.
إننا كلما قاربنا أعماله الأدبية نشعر بتغير ما يغمرنا، كما أن رؤيتنا للإنسان والأشياء تتغيرهي أيضا، إننا نشعر كما لوأننا لم نعد أذكياء".
إضافة إلى كتب بورخيس "الألف"، "كتاب الكائنات الخيالية"، "صنعة الشعر"، هناك كتاب أنيق وثري بمعلوماته ونقصد "سبع ليال" التي هي عبارة عن سبع محاضرات ألقاها بورخيس للطلاب في جامعة تيترو كوليسيو، بيونس أيرس بين شهري تموز وآب من العام 1977، وهي في الحقيقة ليست سبع محاضرات بالمعنى "المبسّط" بل سبع كتب، حيث كل محاضرة كتاب، متاهة من متاهات بورخيس المعروفة.
في كل محاضرة يفتح بورخيس آفاقا لإعادة النظر إلى كل موضوع يناقشه، يُشغل مغناطيسه الذي لا يقاوم وسعيه الدائم إلى ايصال الفكرة للمستمع بطريقة شيقة هُنا يختلف بورخيس المحاضر عن بورخيس الكاتب حيث تراه لفترة يصفن أو يبحث في رفوف المكتبة في دماغه عن مثال يستحضره ليستخدمه بطريقة بهية تشعر وأنتَ تقرأ أن بورخيس يهمس في أذنك ويفني نفسه في سبيل أن تصلكَ الفكرة.
يقول الستر ريد الذي ساعد بورخيس في تحويل المحاضرات تلك إلى كتاب: إن المحاضرات الواردة في هذا الكتاب تكشف جميعها عن القفزات المتتالية في انتباه بورخيس، عن سيلان ذاكرته وعقله وإذا أردنا أن نفهم بورخيس فمن المهم أن نتذكر ذلك إذ أن التجربة الأدبية لديه هي أكثر توهجا وتأثيرا من التجربة الحقيقية"، تضم هذه الليالي سبع محاضرات تناقش كل محاضرة فكرة معينة وهي: "الكوميديا الإلهية" و"كوابيس" و"ألف ليلة وليلة" و"البوذية" و" الشعر" و" القابالا" و"العمى".
إلى جانب كل تلك المحاضرات هناك محاضرة ملفتة وهي "ألف ليلة وليلة"، تكشف هذه المحاضرة انبهار بورخيس بالشرق وسحره وهذه أول مرة يكشف فيها بورخيس ولعه بالشرق حيث سبق وأن كتب في اكثر من مكان عن هذا الولع، هنا يكشف سحر الشرق وتأثير اكتشاف الغرب للشرق كحدث مِفصَلي ويتحدث عن الاسكندر المقدوني حيث أول لقاء مع الشرق إلى درجة أن الاسكندر لم يعد أغريقيا بل أصبح جزئيا فارسيا كما أنه سيتذكر فيرجيل وهو يتلمّس قطعة حرير من الصين تلك البلاد المسالمة.
هذا هو الشرق بسحره الذي يصفه بورخيس وعبر انتقالات سلسة، مرنة. ينتقل بورخيس إلى الكتاب الأهم والأعظم تأثيرا في الشرق والذي هو ألف ليلة وليلة حيثُ العنوان من أشد الأفكار المدهشة عند بورخيس، فكرة اللانهاية، يقول وهو يشرح العنوان: "في هذا العنوان "ألف ليلة وليلة " ثمة نوع آخر من الجمال إنه يكمن كما اعتقد في حقيقة أن كلمة ألف هي رديفة في اذهاننا لكلمة لامتناهي فأن تقول "ألف ليلة" يعني أن تقول "ليال لا متناهية" إن فكرة اللانهاية هي من نفس مادة ألف ليلة وليلة".
ثم ليتتبع بورخيس تاريخ هذا الأثر العظيم الذي انتجه الشرق في القرن الخامس عشر في الاسكندرية مدينة الاسكندر ذي القرنين تم جمع سلسلة من الحكايات، لهذه الحكايات تاريخ غريب كما يسود الاعتقاد حيث أنها شاعت أولا في الهند ثم في بلاد فارس ثم في الشرق الأدنى وأخيرا كُتبت بالعربية وجُمعت في القاهرة وأصبحت تعرف بألف ليلة وليلة.
وضمن هذا السياق هناك معلومة طريفة من ضمن المعلومات اللانهائية التي لايتوقف بورخيس عن ذكرها يقول "أظن اننا يجب ان لا نتخلى عن كلمة " "orient كلمة جميلة كهذه، لأنها تحمل في طياتها بمحض الصدفة كلمة "oro" أي الذهب، في كلمة شرق نشعر بكلمة "ذهب" إذ عندما تشرق الشمس، نرى سماء من ذهب.
هكذا يحدثنا بورخيس بكل بساطة وعمق في الوقت نفسه عن الشرق ويحاور المفردات كما لو أنها شخصيات مثقفة، إذ أنه عندما يقول الشرق فهو يفكر في الشرق الاسلامي ومن ثم في شرق الهند الشمالية.
في هذه المحاضرة ثمة معلومتان طريفتان يسوقهما بورخيس، الأولى: هي أن البارون فون هامر يذكر ملاحظة اقتبسها من "لين وبورتن" أكثر المترجمين الانكليز شهرة لكتاب "ألف ليلة وليلة" وهي أنهما يتحدثان عن نوع من الرجال يدعون برجال الليل الذين لا عمل لهم سوى أن يرووا القصص في الليل وأن الشخص الأول الذي جمع رجال الليل ليرووا القصص له كنوع من إبعاد الأرق هو الاسكندر المقدوني، هنا التقاءٌ مع فكرة "الحكواتي" أساس السرد في ألف ليلة وليلة.
أما المعلومة الثانية وهي الأطرف والتي يُستَنتَج منها انبهار الغرب الذي لايوصف بهذا الأثر الشرقي العظيم وهي معلومة تتحدث عن أكثر قصص "ألف ليلة وليلة" بل شهرة وهي قصة "علاء الدين والمصباح السحري"، حيث أن هذه القصة ليست موجودة في النسخة الأصلية في حين أنها تظهر في النسخة الأنكليزية المترجَمة لـ"غالاند" وعبثا يبحث بورتن عن نص فارسي أو عربي لها، هنا يتولّد شكٌ مفاده أن يكون "غالاند" انطلاقا من تأثره بقصص "ألف ليلة ةليلة"،.
ويرى بورخيس أن "ألف ليلة وليلة" لم تمت، الزمن اللامتناهي لها يتابع مجراه حيث هناك ترجمات عديدة وكل ترجمة تبتكر نسخة مختلفة من الكتاب، اثنان في الفرنسية، ثلاثة في الانكليزية، ثلاثة في الألمانية، وواحد في الاسبانية، كل واحد من هذه الكتب مختلف عن الآخر لأنها ليال تستمر في النمو وخلق نفسها.
كما يشير بورخيس إلى تأثر العديد من الكتاب الغرب بهذا الأثر الشرقي على سبيل المثال ستيفنسون في كتابه "ليال عربية جديدة"، الحكايات لا تنتهي في كل ليلة هناك ليلة أخرى تولَد، هكذا دون نهاية ومع القراءة تنسى مصيرك كإنسان مسكين لتدخل عالم الشرق، عالم الجنيّات والكنوز المخبوءة، إن كل ما يذكره بورخيس في هذه المحاضرة يعبر بحس صافي عن انبهار الغرب بالشرق وذكر الفائدة التي لاتقدر بثمن والتي قدمها الشرق للغرب. لكن اليوم هل هناك نفس الأثر؟، لا أعلم الجواب يبقى ضبابيا.
عن العرب أون لاين - 20\05\2009
31/10/2010 - 11:02
بورخيس يتوه في أجواء ألف ليلة وليلة
التعليقات