بيروت: التجربة والكتابة../ رشاد أبوشاور

-

بيروت: التجربة والكتابة../ رشاد أبوشاور
أشكر الجامعة اللبنانيّة، واللجنة الثقافيّة في قسم اللغة والأدب والحضارة العربيّة في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة ( الفرع الأوّل)، على الدعوة الكريمة التي بفضلها حضرت إلى بيروت للمشاركة في هذا المؤتمر الهّام، بمناسبة إعلان ( بيروت عاصمةً عالميّة للكتاب)، وتحت عنوان: بيروت في الرواية / الرواية في بيروت.
الحضور الكرام:
لا تنتظر بيروت شهادتي لدورها وفضلها على الثقافة العربيّة، والمثقفين والمبدعين العرب، ولكن هذا لا يعفيني من قول كلمات متواضعة هي بمثابة شكر أراها لا ترفضه، وإن كانت لا تسعى إليه، هي الجميلة الشجاعة. وعندي أن هذا الترفع البعيد عن الغرور من بعض صفاتها النبيلة.

لو كنت شاعرا، لربما عبّرت عن إعجابي بنشيد يليق بها، ولكنني آتيها اليوم بكلمات متقشفة متواضعة، يشفع لها، وهذا ما آمله، أنها تصدر من قلب مُحّب.
المدن تختار مكانها ومكانتها معا، وهنا تكمن عبقريّة البناة المؤسسين الذين أنشأوا بيروت في موقعها الفريد بين البحر والجبل، لتواجه، وتلتقي، وتستقبل، وتودّع، وترسل، وتتشوّف إلى البعيد...
عرفت بيروت عن بعد، فكانت المنارة التي تضيء بالكلمات ليل الشرق.
بيروت جاءتنا كتابا، ومجلةً، فتعلمنا من الزاد الذي جذبنا للتفكير، والكتابة، والحوار، والتأمّل...

وإذا كان لكّل مدينة أكثر من بعد، فإن بيروت مدينة الأبعاد المتعددة الغنيّة، ولكّل تعطي بحسب ما يهوى، ويرغب. فهي للراغب في المعرفة والعلم كتاب، وهي لمن يهرب ليلوذ بها من عسف خنق حياته نسمة حريّة، وهي للباحث عن المتعة متعة وسياحة .
من بيروت جاءنا ما تنتجه دور النشر الكثيرة والمتعددة، والمجلّة التي تبنّت نتاج جيل أنا واحد من أبنائه - اقصد مجلّة ( الآداب) - واغتنت معرفتنا بالترجمات عن الآداب العالميّة.

عرفت بيروت عن بعد، وإذا كنت قد حفظت أسماء كثير من دور النشر فإنني حفظت أسماء شوارعها، ومقاهيها الثقافيّة، وكتابها وشعرائها، ومنتدياتها، وتابعت الحركة الفنيّة فيها، وحلمت بأن أزورها أسوة بكثير من المثقفين والمبدعين العرب الذين كانوا يرتادونها لينهلوا ممّا توفره لهم، وهو ما يضيف لثقافتهم، ويمنحهم مكانة لا يحققونها في بلدانهم.

بيروت دور، هذا ما ترسّخ في وعيي، وأحسب أنه ما حققته بثمن تهيأت له منذ وجدت.
كتابي الأوّل نُشر في بيروت، وصدر عن دار الطليعة ' ذكرى الأيام الماضية..' مجموعة قصص عام 1970 - ومقالتي الأولى نشرتها مجلّة ( الآداب)، ومن بعد توالى نشر قصصي القصيرة على صفحات ( الآداب).
زرت بيروت وهي معافاة، نهاية الستينيات، لا أذكر بالضبط متى، ولكنني تجولت في قلب المدينة، وتأملت أبنيتها العريقة، وكما هو متوقع فقد تنقلت بين دور النشر، وحملت كتبا كثيرة، بعضها مهدى، وبعضها بثمن رمزي.
توالت زياراتي لبيروت، وتعرفت ببعض الكتّاب والشعراء، واقتربت من الأجواء الثقافيّة، وتابعت المعارك الأدبيّة عن بعد.

بعد أيلول ( سبتمبر) 1970 في الأردن، انتقلت إلى دمشق حيث أقمت مع أسرتي الصغيرة، إلى أن اتخذ قرار بتأسيس مجلّة ناطقة بلسان منظمة التحرير الفلسطينيّة برئاسة الشاعر كمال ناصر عضو اللجنة التنفيذيّة، وحملت اسم ( فلسطين الثورة)، وقد اخترت للعمل في تلك المجلة التي تقرر أن تصدر في بيروت، وكان ذلك في العام 1972.
استأجرت غرفة في أوّل شارع في مدخل صبرا، وتنقلت يوميّا إلى مكاتب المجلّة في بئر حسن قرب مستديرة المطار.
بمعايشتي لحياة الناس في صبرا ومخيّم شاتيلا، بدأت بعض جوانب الحياة تتكشّف أمامي، وهذا ما دفعني لتأمّل الحياة في أحياء أخرى لا تقل بؤسا عن الحياة في صبرا وشاتيلا.

بعد خروج الثورة الفلسطينيّة من أغوار الأردن، ومناطق الأحراش في تموّز (يوليو) 1971، انتقلت الثورة الفلسطينيّة إلى سوريّة، ومن بعد إلى جنوب لبنان، و..بيروت، واتخذت من ( الفاكهاني) عنوانا.
رأيت بألم أن الثورة بدأت تختنق في ( المدينة) - والمدن مقابر الثورات - وأن طبقة جديدة بدأت تظهر بامتيازات لا تنسجم مع جوهر الثورة، وتتنافر مع كل أخلاقيات المقاومة.
بدأت في كتابة روايتي ( البكاء على صدر الحبيب)، وأنجزتها، وصدرت عن دار العودة عام 1974، وكان مدير الدار قد طلب أن يضع اسم اتحاد الكتّاب والصحافيين الفلسطينيين على الغلاف، حتى لا تظهر الدار وكأنها تتحدّى القيادة الفلسطينيّة.

في وقت مبكر كتبت بأن على الكاتب الفلسطيني أن يأخذ موقفا نقديا، إذ ليس يكفي أنه ينتمي للثورة، وأنه يقاوم بالكلمة والبندقيّة، فالعدو الداخلي، وهو الانحراف والفساد يهدد مسيرة الثورة...
انطلاقا من رؤيتي هذه كتبت ( البكاء على صدر الحبيب) والتي تدور أحداثها بين عمّان ودمشق وبيروت.
شُهر بي وبالرواية، واضطر أمين عام الاتحاد العام للكتّاب والصحافيين الفلسطينيين الأستاذ ناجي علّوش إلى أن يعقد مؤتمرا صحافيّا في مقّر الاتحاد، يدافع فيه عن ( وطنيتي)!

شنّت بعض المجلاّت والصحف في بيروت هجمة تحريضيّة على الرواية وكاتبها وناشرها، ولأنني شعرت بالخطر، وإصغاء لنصح الأصدقاء، فقد غادرت بيروت إلى دمشق، حفاظا على سلامتي الشخصيّة.
إحدى المجلاّت اليساريّة ـ الحُريّة - نشرت مقالة بعنوان : السولجنستينيّة تظهر في الأدب الفلسطيني، وهكذا اعتبرت سولجنستين المنشّق واليميني والمرتّد!.
اليوم وأنا استذكر الحملة التي استهدفتني، فإنني أشعر بالأسى، لأن بعض من أججوها هم كتّاب ومثقفون، نافقوا القيادة، وأبدوا حرصا كاذبا على سمعة ( الثورة) التي كانت تفسد من داخلها.

كانت تلك الرواية كما وصفت ( صرخة) في وجه الخراب، ولم تزدني الحملة الهوجاء المفتعلة التي دللت على ضيق أفق إلاّ قناعة بالدور النقدي الجذري للكاتب والمبدع، روائيّا، أو شاعرا، أو مفكرا، أو مثقفا بشكل عّام.
في العام 1976 عدت للإقامة في بيروت، تحديدا في شارع الطيبي.
في المنطقة المحدودة التي غصت بالمكاتب، والتي عرفت باسم الفاكهاني، التي أجهل حتى اليوم حدودها، ومكثت حتى صبيحة يوم 21 آب/اغسطس 1982، أحيانا مع أسرتي، وأحيانا وحدي.

احتدام الحرب الأهليّة، وأوضاعنا الفلسطينيّة، حتمّت علينا أن نتنقّل بحذر، وأن لا نذهب بعيدا في المدينة، فاستشراء الحرب الأهليّة، والانفلات الأمني، وحالة الفوضى، وكثرة الجهات التي تنغل في المدينة، دفعتنا للانكفاء حرصا وحيطة.
لكن هذا لم يمنع من أن أتردد على دور النشر، وبعضها انتقل إلى منطقة الفاكهاني، وشارع المزرعة: دار الآداب، دار الطليعة، دار العودة، وغيرها.

كتبت ونشرت كثيرا من القصص القصيرة، وكانت بعضها بتأثير الحرب الأهلية مثل( هل تحب رخمانينوف؟)، و(بيتزا من أجل ذكرى مريم)، وبعضها عن غربة الفدائي الفلسطيني القادم من الجنوب على بيروت ( غريب في المدينة)، وبعضها عن غربة الجنوبي المهجّر من قريته ( بائع اللوز الأخضر).
في بيروت تعرّفت بكتّاب ارتبطت مع بعضهم بصداقة أعتّز بها: غسّان كنفاني، الدكتور سهيل إدريس، ياسين رفاعيّة وزوجته الشاعرة أمل جرّاح...

وفي بيروت تعرّفت بشاعر كبير هو خليل حاوي الذي ما زلت أحفظ بعض شعره، والذي فجعني رحيله انتحارا.
في تلك الفترة أصدرت لي دار العودة عددا من أعمالي القصصيّة والروائيّة، رغم ظروف الحرب الأهلية، ولم تكن وحدها التي واصلت النشر والتوزيع إلى بلاد العرب البعيدة والقريبة، وهنا في امتحان الحرب الأهليّة برزت حيويّة بيروت التي واصلت رسالتها ودورها.

عندما وقعت الحرب في حزيران ( يونيو) 1982 كنت في زيارة لأسرتي في دمشق، ومن متابعتي لحجم الهجمة على المدينة الرياضيّة ومحيطها، وما أوقعه طيران العدو من خسائر وضحايا، تيقنت أنها حرب وليست مجرّد عدوان انتقامي عابر.
عدت إلى بيروت، وانخرطت في عمل يومي مع زملائي الكتّاب والصحافيين الفلسطينيين والعرب المقيمين في بيروت.

عملت في صحيفة يومية صدرت باسم ( المعركة)، كتب لها كثيرون، ورسم لها الفنان الكبير ناجي العلي بعد أن تمكّن من الإفلات من الأسر في صيدا، والفنّان العراقي حسيب الجاسم، ولا يغيب عن بالي الفنّان عدلي فخري الملحن والمغنّي المصري الذي كان يغامر بنقل موّاد الصحيفة للمطبعة، ويسهم في توزيع أعدادها على المقاتلين في محاور القتال.

منذ اليوم الأوّل بدأت أكتب انطباعات، وخواطر، وملاحظات، حول كل ما أراه في حياة الناس، وردود أفعالهم، ووقائع الحرب اليوميّة على محاور القتال، وأحياء المدينة، وتحديدا على الناس البسطاء.
للإذاعة الفلسطينيّة أعددت برنامجا يوميّا باللهجة العّاميّة الفلسطينيّة بعنوان ( كلامنا بلدي)، وقد كنت اسمع المتسائلين عن صاحب هذا البرنامج فألوذ بالصمت إلى أن اكتشف الأمر فكان مفاجأة لكثيرين.

قبل رحيلي عن بيروت بأيام قليلة جاء من يخبرني بإمكانيّة إرسال أي شيء أريد إرساله لأسرتي في دمشق، مع سائق سيّارة عمومي، يغادر عبر بيروت الشرقيّة، فوجدتها فرصة أن أرسل معه الأوراق التي كتبتها، وأغويته بوعد أن أرسل معه أشياء هامة جدا لو عاد برسالة من أسرتي تبلغني فيها بتسلمها الأوراق.

عاد السائق وسلمني رسالة بخط ابني، وهكذا ضمنت سلامة المادة الخام لكتابي ( آه يا بيروت) ، والذي عكفت على صياغته على مدى ستة أشهر، ليصدر في طبعته الأولى في تونس عام 1983، ثمّ لتتوالى طبعاته منذ ذلك التاريخ، ولتترجم منه الدكتورة سلمى الخضراء فصولا لانطولوجيا الأدب الفلسطيني، ولتنشر كثير من فصوله في صحف ومجلاّت عربيّة.

في العام 1983 منحتني المنظمة العالمية للصحفيين ( I.O.J ) وسام يوليوس فوتشيك، أنا وثلاثة زملاء فلسطينيين تقديرا لدورنا الإعلامي في معركة بيروت.
صبيحة 22 آب ( اغسطس) كنت أحد الذين توجهوا إلى ميناء بيروت، من الملعب البلدي، وقد ارتديت ملابس عسكريّة وبيريه على الرأس، وعلى ظهري كيس بحّارة ليس فيه سوى بعض الغيارات وأربعة كتب.
في الشقة الواقعة في بناية ( دار الرحاب) تركت مكتبة أسفت عليها، أما ما تبقّى من أغراض البيت فلم تكن لتعني لي شيئا، خاصة وقد اعتدت على الرحيل، وعلى أن ما نضعه في البيت ليس لنا، لأننا لن نبقى في المكان ولن نحمله معنا.

فجر يوم 28 آب ( أغسطس) 1982 تهادت بنا السفينة ( سولفرين) وهي تدخل ميناء بنزرت التونسي.
غادرنا ميناء بيروت، ولاحقتنا بارجة أمريكية، كانت تدفعنا بعيدا عن بيروت، وفلسطين، والمشرق العربي.
من ميناء بيروت، إلى ميناء ليماسول في قبرص، إلى ميناء كريت اليوناني ، والبارجة تدفع بنا بعيدا، ترصد سفينتنا وكأننا سنهرب منها.

في الليل كان ضوء مبهر عال يتوهج من مقدمة البارجة الأمريكية، وقد خيّل لي أن تلك كانت عين السكلوب الذي طارد ( أوليس) في البحر بعد أن أفلت منه.
بدأت رواية ( الرّب لم يسترح في اليوم السابع) تتكوّن في تفكيري، في الأيّام الأخيرة لمعركة بيروت، وتوضحت ملامحها، وشخوصها، أثناء رحلة السفينة ( سولفرين) على مدى الأيام السبعة لتلك الرحلة الرهيبة.
في العام 1976 كتبت نصّا أدبيّا بعنوان( الفلسطيني يعود إلى إيثاكا)، نشر في مجلّة ( المعرفة) السوريّة، مستلهما رحلة أوليس في العودة إلى إيثاكا، بعد أن انتصر على الساحرات، والسكلوب، و..ليلتقي بزوجته الصابرة الوفيّة بنيلوب.

من عجائب المصادفات أن الفلسطيني قد سلك تقريبا نفس رحلة أوليس، ولكن في سفر معاكس، فإيثاكا كانت تبتعد، والبارجة الأمريكيّة هي التي كانت تدفع بالفلسطيني بعيدا عنها .
أخذت منّي كتابة هذه الرواية أربعة أعوام، تنقلت بها من دمشق إلى بودابست إلى عدن ، حيث فرغت منها هناك في فندق ( الغولد مور)، والذي أقمت فيه رفقة المفكر الدكتور حسين مروّة ، الذي كان يشجعني على مواصلة الكتابة ...

' البكاء على صدر الحبيب'، ' آه يا بيروت'، ' الرّب لم يسترح في اليوم السابع'، وعدد من القصص القصيرة، ومئات المقالات، هي ما منحتني إيّاه بيروت.
ليس ذلك فقط، فهي التي احتضنت كتاباتي على صفحات ' الآداب'، وأبرز دور النشر فيها.

بيروت لها فضل كبير، ودين كبير، عليّ كمواطن عربي، فهي التي انتصرت على العدو الصهيوني مرتين، عام 2000، وعام 2006 ، فكانت العاصمة العربيّة المنتصرة بإرادة شعبها المقاوم الذي باغت العدو في شارع الحمراء، العدو الذي أراد أن يسترخي مطمئنا، ظنا منه أن بيروت، بعد أن خرجت منها الثورة الفلسطينيّة، باتت مدينة مسالمة مستسلمة، فإذا بها تكشف عن وجهها الشجاع، وروح المقاومة المختزنة، وتبدأ في مطاردة المُحتّل من شارع الحمراء إلى الجنوب البطل.
لبيروت فضل على كل عربي، فهي أعادت الاعتبار للمواطن العربي، ومنحته الثقة بالنفس، والإيمان بالقدرة على هزيمة العدو.

لبيروت عليّ، وعلى كل عربي، دين ثقافي ووطني وقومي، ومهما كتبنا لها وعنها فنحن مقصرون، ولعلها وهي الكريمة تغفر لي تواضع كلماتي، فما أنا بالشاعر الكبير الموهبة لأنشد لها ما يليق ويرقى إلى قامتها العالية...
لا، المدن لا تتشابه، فلكّل مدينة ما تختار، وبيروت فضاؤها بلا حدود، لأن الكلمة النور هي التي تذهب بعيدا إلى حيث يوجد من يريد أن يقرأ، ويتعلّم ويعرف، وأيضا يقاوم..وهذه حدود بلا حّد.
مرّة أخرى أشكر اللجنة الثقافيّة في قسم اللغة العربيّة وآدابها في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالجامعة اللبنانية.
وأشكر الحضور الكرام...
وكّل الشكر، من قبل، ومن بعد، لبيروت...

التعليقات