تداعيات ما بعد النكبة/ وجه لمدينة تدعى يـافـا.. سلمان ناطور

تداعيات ما بعد النكبة/ وجه لمدينة تدعى يـافـا.. سلمان ناطور

صحراء الجزيرة العربية لم تحمل قدميه.
لم يلسعه الرمل كما لسعته نيران الشوق / الغربة / الحزن التي اتقدت في صدره أكثر من ثلاثين عاما.
شيخ في السبعينات، أنقول: مشقق الوجه ؟ لا حاجة، وكيف يمكن ان يكون وجه شيخ لم يترك أرضا عربية الاّ ووطأتها قدماه، أو حتى وإن أمضى آخر سني حياته في " ذنابه "، القرية الحالمة على طريق طولكرم، فلن يكون وجهه كصفيحة يلمع عليها نور الشمس، كما تنعكس الاشعة على ماء البحر عند شاطئ يافا..

ملعون يا زمن الاسود عالابيض

يا زمن البغض، الكره، العنف

السته على الستين

الشر الحاكم مملكة العدل

الخوف القاصم ظهر البطل

" العطف " الذابح عنق الطفل

" الشرع " الماسخ وجه الحق

ملعون، وفي قلب الشيخ أكثر من جرح، وفي صدر الشيخ أكثر من أمل..

" تركت يافا أركض خلف دابة تحمل طفلين وخرجين محملين ببعض المتاع.. زاد الرحيل.. وها أنا أعود اليها، تحملني هذه السيارة.. "

لم يدخل المدينة القريبة قبل أن يصطدم بسجن " كفار يونا " يترك الارض العربية، يخيّل اليه أن الحد الفاصل شريط فولاذي، أو ربما مصفحة مدفعها مصوّب الى قلب المدينة العربية، أو ثكنة صغيرة تغطي مدخلها بعض أكياس من الرمل، وجندي يصوّب بندقيته وعلى رأسه خوذة فولاذية ايضا، وفي القلب نار تشتعل كرها عند هذا، شوقا عند ذاك.

غريب، أمر هذا الوطن،

غريب، أمر ذلك الشعب،

هذا " عائد "، ذلك العائد،

والله يا زمن الترلّلي،

اغمض هاتين العينين، يا شيخ الفقر، وشيخ الترحال، وشيخ الحزن، وشيخ العوده.

ادخل يافا معصوب العينين، لكن ليس جريح القلب. حين تنفس رائحة البحر، المشبعة بالرطوبة، الزيت، الرمل فتح عينيه، كان عند المدخل الجنوبي، " هم دخلوها من الشمال، أدخلها من القبل "، قال وأزاح طرف الحطة عن فمه ليملأ رئتيه برطوبة البحر، وترجّل. يبدأ الرحلة في حي الجبليه، لكن الانظار مصوبة نحو القبل الشرقي.. كروم روبين.. " لم تكن امرأة في فلسطين الا وقالت لزوجها: يا بتروبني، يا بتطلقني.. " حتى المرحومه زوجته كانت تضع هذا الشرط في أيام الموسم وفي أيام الشتاء الماطرة.. مقام النبي روبين.. من كانت تنتظر مولودا ذكرا يأتي على رأس سبع بنات.. تقصد روبين.. روبين يستجيب، وسبحان الله. كان يعطف علينا، لكنهم حاصروه. بعد الحصيده في موسم الصيف، كانت الارض حول المقام تتحول الى مخيم مفروش بالخيم الصغيرة والكبيرة، كل واحدة على قد الحال، نقضي ثلاثة أشهر، نأكل، نشرب، نلعب، نفرح، لا هم ولا ما يحزنون "..

يلقي عليه نظرة أخيرة، مئذنة ترتفع بعض الامتار، منطقة مغلقة، مجموعة من الجنود، تتحرك في ساحة جامع روبين، من يعرف ماذا يفعلون: " يا بتروبني، يا بتطلقني "، الافضل يا شيخ أن تنظر في الاتجاه الآخر، ليس هذا فقط ما يجرح القلب.. اقطع حي الجبليه.. في الطريق المؤدية الى ساحة الساعه.. حي العجمي، حي النزهه، المنشيه، قبل حوالي ثلاثين عاما، كان يسكنها أكثر من 120 الف، يتكلمون العربية بطلاقة، لا بأس، ان وجد بينهم من يحسن مخاطبة الانجليز، أو يعرف كلمة " شالوم "، لكن يتكلم بطلاقة، بطلاقة. بطلاقة.



تسقط الشمس، يعتم الشفق الذي كان يتلألأ بعيدا عن الشاطئ، يختفي الحد الفاصل بين البحر وبين السماء التي تميل الى السواد، يختفي الحد الفاصل بين حدود مصنع البيره.. وشارع المقابر.. المصنع لم يعد قائما.. المقابر ما زال يكتنفها هدوء.. سكينة الاموات، لكن حزن الاحياء، والسور الكبير الذي يمتد مع الطريق ما زال منتصبا منذ تلك الايام.. مقبرة الانجليز، الروم، اللاتين، الموارنه، وقبور المسلمين المشرفة على البحر، تلقي عليها نظرة، تقلب حجارتها لتعرف اسما واحدا على الاقل.. وقد تعثر على الاحرف العربية مبعثرة.. من يعرف كيف هدمت هذه القبور ؟

" كنا، يا عمي، لما ندخل المقبرة لندفن أمواتنا، ولما نبدأ بقراءة الفاتحة، تسقط علينا القنابل من المتراس في مصنع البيره المشرف على يافا.. هذا المصنع خلق لنا الكثير من المشاكل.. يوميا كانوا يقصفوا بيوتنا وما نعرف كيف نرد عليهم، بالمدفع هدموها.. وبعدها مثل ما تركناها.. يافا كانت كلها عربيه بأحيائها وأمواتها.. وعلى بقعة صغيرة عشرين بعشرين كان في مقبرة لليهود.. شوف شو عاملين فيها.. سيّجوها وعليها حارس وناطور.. أي هو أمواتهم أغلى من أمواتنا ؟ "

شيخنا الذي نتحدث عنه، لا تعرف الدموع الى وجنتيه سبيلا.. يحصرها حين يشدّ عضلات جفنيه فينكشف عمق الشقوق التي ترتسم على جبهته العريضة، والاخرى التي تمتد من طرف العين وحتى السالف وحتى الفك.. وحتى العنق وحتى القلب.. واذا ما انفرجت أساريره وارتخت عضلات وجهه.. ينفث الهواء فيفرغ رئتيه ويواصل السير.. واذا ما وقف عند الجامع الذي تحوّل بقدرة قادر الى " بيت كنيست " (كنيس) يلقي بنظراته على الارض، ويتوقف قليلا يمعن النظر في الارض لكن " في اللي بيغيّر وما بيتغيّر ".


وحين كان واقفا، ويا لسخرية هذا القدر، جاء رجل يهرول في اتجاه الكنيس / الجامع، يضع قبعة على رأسه، يحمل متاعا أسود بيده اليمنى، وتغطي عينيه نظارات طبية ويبدو وفي الستينات من عمره.. توقف الرجل الغريب، غريب حقا..

- شالوم !!

- لم يرد الشيخ..

قلنا: " شالوم "

- الغريب لم يلتفت الى الشيخ.. وان نظر اليه باستغراب لكنه نظر الينا وكأنه يستجدي..

- " إفشار لهشليم ات همنيان ؟ ".. قالها بالعبرية وابتسم كأنه يستجدي..

- سألنا الشيخ: ماذا يطلب منكم ؟

- يريدنا كمالة عدد للصلاه..

- لم يفهم الشيخ.. قلنا له: لكي تتم الصلاه يجب أن يكون عدد المصلين عشرة أنفار على الاقل.. وهذه مشكلة هذا الكنيس: لا يجدون في هذا الحي عشرة مصلين..

وقف الرجل الغريب ينتظر استجابتنا، حرّك الشيخ رأسه كأنه يريد أن يقول شيئا لهذا الخواجه، فهمنا ماذا أراد، وفهم هو اننا فهمنا، فلم ينبس ببنت شفة، ثم قال لنا: قولوا له انصرف.. وظل يحدّق بجدران الجامع المنتصبة بحجارتها الحمراء.. وتابع السير وتابعناه الى جانبه..


حين يحدّث عن تلك الايام، يرسم خارطة لمدينة تدعى يافا، من مستشفى الكرنتينا ومبنى اذاعة الشرق الادنى.. وحتى شارع السكسك.. والسوق.. سوق الدير.. وشارع " بسترس ".. وسوق الصلايمي.. وسوق البلابسه.. واللحامين.. حتى شارع جمال باشا.. يسأل: أين هذا الزقاق، وأين سوق كذا.. وسوق كذا.. تقول له: اليوم يسمى " يافت ".. يضحك.. وذاك يسمّى " كيدم ".. يضحك.. وهذا شارع " شيشيم ".. يضحك.. يضحك.. تركها تغص بالناس.. بالحياه.. تنزل البضاعة في محطة المنشية.. سيتهافتون عليها.. تنزل في الميناء.. يختطفونها.. " احسينا بالخطر من سنة السته وثلاثين، أعلنا الاضراب ستة أشهر، بريطانيا انتهزت الفرصة وصارت تبني مينا
تل أبيب، مينا يافا للعرب يصدروا بضاعة ويستوردوا بضاعة، ومينا تل أبيب لليهود ليستوردوا اسلحة، وناس يظبوهم من كل بلاد العالم ليستلموا هالبلاد.. لعبوا اللعبه واحنا مش عارفين كيف المي بتجري من تحتنا.. كان في بلدنا ضابط انجليزي يعرف كل أهل البلد، قلنا له مره ولك يا مستر اليهود اللي يتجيبوهم رايحين يستولوا على اراضينا ، ابن الحرام كان يعرف يحكي لغتنا أحسن مني ومنك، قال لي: ليش خايفين، انتم بتسموهم اولاد الميته، شايفينهم مقطعين موصلين ولا شعب في العالم قادر يحميهم.. وكان يبتسم.. ويضحك علينا بلغتنا.. معنا يحكي حكي زي العسل وللجماعة يقدّم كل خدمه.. ويمهّد لهم الارض.. ومن ثورة السته وثلاثين صاروا يصفوا بالقيادة الوطنية.. وينفخوا في بطون وعقول القيادة الرجعية ويغطوا على جرايمها.. المرحوم ميشيل متري.. كان قائد عمال ما في أثبت منه.. قتله عميل في مركز نقابة العمال العرب.. الناس كلها اشتبهت يومها باقطاعي من المثلث.. كان يتعاون مع الانجليز.. وعلشان هيك غطوا على الجريمه.. بس يا عمي المجرم ما بيسلم.. لا من صاحب الحق ولا من صاحب الباطل.. لو تعرف ايش صار فيه.. في سنة الاحتلال استولى الجيش على أراضيه.. جابوه ليافا قال بحجة المحافظة على سلامته وحياته خوف من الانتقام.. ووعدوه بأن يرجعوه على أراضيه بعد ما يهدأ الوضع.. لكن قتله جيش اسرائيل هون في يافا.. تخلّصوا منه وأخذوا كل شبر من أرضه..

وعلى قبر ميشيل متري، في المقبرة الأرثوذكسيه، كانت تشمخ صورة له نصبت منذ أن دفن. في بطن هذه الارض المقدسة، " أيام الحرب ، الخواجات كانوا يتخيّلوها زلمه في المقبرة فصاروا يقوّسوا عليها من مصنع البيره حتى خزقوها، وهدموا القبر، يمكن بدهمش يتركوا أي ذكر لأي وطني في هالبلاد.. "


في مطلع الاربعينات مع حملات احتلال الارض بدأت حملات احتلال أماكن العمل، أسسوا الهستدروت لتجنيد العمال اليهود في حملات الاحتلال فزرعوا الموظفين والفنيين في كل مكان، خصوصا في معسكرات الجيش البريطاني.. كنا احنا ننظف الزباله ونشتغل في العمل الاسود، واليهود هم المسؤولين عنا، يعطونا أوامر، تنزل علينا من فوق. على تلة كان تدعى تلة فنسكي أقيم معسكر للجيش، كان أخي يعمل في المعسكر، يوم قال لي أطلع معي لتشتغل، أنا كنت شاب في طلعة عمري، وما عرفت امسك شغله وأثبت فيها، يومها كان الشغل في المعسكرات أضمن شي للعرب، رحنا للمهندس الانجليزي، أعطاني ورقة وحولّني للمكتب، دخلت مع أخوي وسلمتها للموظف. كان اسمه الخواجه يعقوب، فتح الورقه.. قرأها.. ومزقها ورماها في السلّه.. وطحاني برّه.. طلعت للمهندس وقلت له: مش محترمينكم ولا محترمين ورقكم.. والله يا عمي، زعل المستر ودخل عليه وصرخ في وجهه وضربه كف طيّر الشرار من عينيه وما ترك في المكتب كرسي أو طاوله قاعدين على بعض.. المستر كان صديقنا.. قال خلال ساعتين راح أطيّره من هذا المكتب، قلت له يا مستر هو أقوى منك.. راح تطير أنت والتاج الملكي وهو يبقى على هالكرسي.. هالمعركه خَسرانه.. دبر لنا شغل في معسكر تاني.. هالبلاد مزروعة معسكرات جيش.. في الصرفند.. في بيت نبالا.. رأس العين.. القسطين.. معسكر عبد النبي.. وين ما كان بس مش في هالمعسكر.. والله بعد أكم من يوم سلّموني شغله في بناية " السي.آي.دي "..قلت هذا أحسن محل.. الضباط كلهم انجليز وعرب.. أعطوني غرفه فتحت فيها كانتين.. أعمل قهوه وأسقي الضباط.. يوم صبحيه كانت الادارة عندي.. قال لي الضابط الانجليزي: اسقينا قهوه يا فلان.. قلت له على راسي يا مستر.. المستر كان يشربها " عصملي ".. والعرب يحبوها حلوه، بينهم ضابط خواجه اسمه "شماي"، لأول مرة بيشربها عندي.. قلت يا ولد اسأل الخواجه كيف بيشرب القهوه. قال: لا هي حلوه، ولا هي مرّه.. " فيفتي، فيفتي ".. وعلى القهوه شوية حليب، ابتسمت وحبيت أمزح معاه.. قلت له لا حليب كثير ولا قهوه كثير.. " فيفتي، فيفتي ".. كشّر وهز رأسه وما نطق ولا كلمه.. وأنا دخلت المطبخ وحضّرت القهوه حسب الطلب.

بعد يومين اجا الضابط الانجليزي والاّ هو حامل مكتوب من الخواجه شماي بيحكي ضدي أشكال وألوان..

سألني: ليش هذا المكتوب ؟

قلت له: صدّقني الزلمه اللي كتبه ولا مرّه دخل عندي الاّ هالمره.. يظهر أما حشاش أو بدّو يزيحني من هالمطرح.

قال لي: ابق محلك.. فش حد راح يزيحك..

بعد مده قصيره، نسفوا العماره، كان بيني وبين الموت أربع امتار، جماعة " الايتسل " نسفوها حوالي الساعه 6 المساء.. كان هذا سنة السته وأربعين.. سقف الكانتين سقط على الارض.. كان لي صديق انجليزي يشتغل على التليفون راح فيها.. وانجرحوا كثار.. انا نجيت بأعجوبه.

ومن يومها ما عرفنا يوم راحه.. كل يوم انفجار.. ولما يكون الوضع هادي كان الانجليز يحطوا مدفع وين بناية " السي.آي.دي " القديمه ويطلقوا طلقة على أبو كبير.. وطلقة على تل ابيب.. يولّع الطخ طول الليل.. مرة سألت ضابط انجليزي، كان يشرب قهوه في الكانتين: ليش هيك بتعملوا ؟ قال لي: اذا بدّك تشتغل وتعيش لا تسأل هذا السؤال.

كنت أرجع للبيت في ساعة متأخرة، على الطريق التقي بجنود انجليز لابسين لباس عربي. أسألهم: وين كنتوا، يقولوا: نعطي سلاح للعرب.

الضباط الكبار يفرغوا بواخر اسلحة لليهود، وعلشان يضحكوا علينا يبعثوا أكم جندي مع أكم قطعة سلاح يعطوها للزعما حتى يصدقوا انها بريطانيا بتساعدهم. كله كان ضحك على الدقون..


أصابع الليل تسلّلت في الازقة المعتمة والخرب المهجورة يقترب الشيخ من الشاطئ، ونحن الى جانبه، الامواج تتحطّم على الكتل الصخرية، وتتفتت شذراتها على الرمل فتتسلل ثانية الى البحر.. حتى اذا ما أخذته قدماه الى مدخل " كليف أوتيل "، وقف ينظر الى البناية الشامخة يصدّق أو لا يصدّق، " فيفتي.. فيفتي ".. هنا كانت تنزل ملوك العرب.. أصرّ أن يدخل الى الصالة ليحكي لنا عن اللقاء مع الملك عبدالله.. قلنا له: أن العمارة توشك على السقوط والافضل الاّ ندخل.. لكنه أصرّ.. وأخذنا نتسلل بحذر.. تملكنا خوف من أن تهفت أرضية الصالة الفسيحة، فنجد أنفسنا على الرمل او تعثر علينا شرطة اسرائيل تحت الانقاض.. وزاد خوفنا " خربشة " انبعثت من احدى الغرف.. توقفنا عن الحديث والتجوال في الصالة.. وقع خطى امتزج بهمس كان يقترب منا.. ابتعدنا نحو المدخل.. ووقفنا ننتظر، اقترح أحدنا أن نخرج فورا، لكن الشيخ هدأ من قلقنا وحيرتنا حين قال: " ربما أن الملك عبدالله ما زال حتى الان نائما في الغرفة.. ينتظر جلالة الملك جورج الخامس حتى ينفذ وعوده.. "

ابتسمنا لكننا لم ننفجر بالضحك وان كنا نشعر أن ضحكة عالية تغص في حناجرنا.. لكننا آثرنا الصمت.. وقع الخطى يقترب شيئا فشيئا.. بعد لحظات أطل شبح توقف عند باب الغرفة المطلّة على الصالة.. ثم اختفى.. وبعد لحظات خرج الشبح.. وخرج شبح آخر.. فابتعدنا قليلا عن المدخل.. اقترب الشبحان.. رجل في الاربعينات.. وفتاة في العشرينات.. انسلا من بيننا.. دون أن ينطقا بكلمة واحدة. هالة الرعب التي سيطرت على قلوبنا أخذت تتبدد شيئا فشيئا.. وهما يختفيان في العتمة.. الفتاه تمشي خلف الرجل، تلتفت الى الوراء وتتابع السير.. والشيخ المشقق الوجه الذي نتحدث عنه يطلب مزيدا من الشرح !!


العتمة التي لفت الشبحين حين التصق الواحد بالاخرى، لم تحجب عن ناظري الشيخ المشقق الوجه، الانوار الخافتة التي تلمع عن بعيد بمحاذاة الشاطئ الرملي، حتى ركام البيوت المهدومة وأوساخ تل ابيب، التي تقذف في البحر، لم ترتفع حتى الان الى مستوى يمكن عنده ان يحجب تلك الانوار الخافتة، أو الجلبة المنبعثة من الاحياء المأهولة، على طريق المنشية، حيث كانت تقوم دار " بخمس غرف " ولد فيها طفل صغير قبل سبعين عاما. ولما تركها على أمل أن يعود، بحث عنها فلم يجدها، ربما أنها بين الردم الذي يتكوّم على الشاطئ، ربما انها غرقت في البحر مع عشرات الناس الذين غرقوا يوم حملتهم " الشخاتير والبوابير " ولم تتمكن من حمل امتعتهم فألقوا بها في البحر.. ينظر الى آثار البيت، يعرفه من البيوت التي كانت حوله على الحد الفاصل بين المنشية وسوق الكرتون، الذي سكنته (بعد تهجير أهله)عائلات يهودية وصلت من اليمن على " بساط الريح "، الذي قذفته نسمة هبت من نجران وحطت على الشاطئ.. بقدرة قادر، أو بمشيئة من فوق، دائما من فوق.

تغيّر كل شيئ من حول البيت لكن لم يختف الاثر، واذا قطع الطريق التي كان يقطعها يوميا من "الدار " الى " المحدده " في شارع الدرهلي قرب جامع السكسك.. يستطيع أن يعيش تلك الايام ولو للحظات، حتى وأن تغيرت المعالم وأصبح هذا الوجه غير ذلك، والجامع يصبح نادي شبيبة، أو ملهى كما أصبحت غرفة " الكتاب " في حي الطابيه ؟

الطابيه ؟

من يعرفها اليوم ؟ من سمع بهذا الاسم في تل ابيب التي تنتصب فنادقها على المقابر وتسهر ملاهيها في الجوامع العتيقة، " أشهد أن لا اله الا الله "، أركب السيارة يا شيخ، فهذه الموسيقى التي تنبعث من الجوامع، ليست لتطرب أنت، بل ليرقص على أنغامها الشبان الذين ينتظرون يوم أن يأخذوهم للجيش، أو العائدين من منطقة أخرى، بعد أن أفرغوا فيها ما حملوه يوم أن غادرت انت راكبا حمارا وفي الخرج بعض متاع.. وبعض زاد.. و " حملت حالك " - كما تقول - ووصلت الى طولكرم.. ذنابه.. طوّفت من المحيط الى الخليج.. تبحث عمّن يعيد لك ذلك البيت.. والمحددة في شارع الدرهلي.. قبل أن ينسفوه أو تعشّش فيه عائلة قدمت من بوزنان أو ماساتشوستس التي قد تعلق في ذهنك وقد تفلت وقد تبقى العائلة المعششة تفكر بمجيئك يوما ما، ويخيفها أن تأتي اليها باسما كأن " عفا الله عما مضى ". لكن يظل يخيفها أن تأتي.. وأتيت، مثلما كان يخيفك أن تأتي هي. وأتت.. بقدرة قادر أو بمشيئة من فوق.. دائما من فوق.


لماذا يصعب عليك يا شيخ أن تتذكر ذلك اليوم.. تقطب حاجبيك، تصطك أسنانك، وتشد على قبضتك كأنك تبغي أن تعذب احدا. أن تمزّق وجهه بلكمة تطيّر الصواب، وتطفئ النار المشتعلة في القلب، " في السرايا القديمة، كان مركز أطفال، وضعوا فيه لغم سنة ال 47.. انقتل عشرات.. كان في شاب اسمه نمر المدهون.. عمره اقل من ثلاثين سنه.. ييجي الصبح عالمحدده يقول لي: صباح الخير يا عمي..! أقول له: صباح الخير يا نمر..!

يقول: الصباح رباح، ما باعرف ابدأ يومي قبل ما أصبّح عليك !

أقول: تعيش يا بطل.. اسمك نمر وانت نمر..

يضحك.. ويحب يسمعها مني كل يوم.. مسكين انقتل في اللغم.. ومعه واحد من دار الدرهلّي.. وغيره كثار.. "

زرعوا الالغام في الاماكن المكتظة.. لم يبدأوا في ذلك العام.. بدأ تفجير الالغام حين بدأت تنشط العصابات الارهابية.. " الايتسل " وغيرها.. في الثلاثينات.. وبريطانيا لعبت اللعبه القذره.. تسلح اليهود بالقنابل وتسلح العرب بالحكي و " أكل الهوا ".. وتعمل السبعه وذمتها.. وتشبك الناس ببعضها - ".

في الاربعة وثلاثين الانجليز ذبحوا بقرة ولفوها بكيس خيش وحملوها في " الداليجانس " (حنطور)، وكان الدم ينقط منها.. وبعثوا ناس يقولوا: اليهود ذبحوا حرمة.. وهاي جثتها مقطعة في الكيس والدم ينقط منها.. العرب فار دمهم.. لحد ما فتحوا الكيس واكتشفوا الحقيقه لكن السمعه كانت صارت منتشره خارج يافا.. اللي شاف الكيس ما صدّق واللي ما شاف الكيس صدّق.. كانوا يعتقلوا اليهود في الليل ويطلقوا سراحهم في احياء العرب.. او يعتقلوا عرب ويرموهم في شارع فلورنتين في حي أبو كبير.. ليلة يطخوا على اليهود وليله يطخوا على العرب..

في يوم جمعه من أيام السته والثلاثين.. الساعه سته ونص الصبح.. سوق الخضره كان يعج بالناس.. الانجليز كانوا مسؤولين عن الحراسة.. اجوا جماعة الايتسل وحطوا لغم في مجرى المي في مفترق ثلاث شوارع.. يومها كنت رايح للمحدده.. قطعت سبعين ثمانين متر.. انفجر اللغم.. انقتل مش أقل من مئة واحد.. أكثرهم من النسوان والاولاد والبياعين.. من يومها ما وقفت المناوشات.. وزرع الالغام، عشنا سنين ما عرفنا كيف كان ينتهي يومنا.. الصبح لما كنا نطلع على شغلنا نودّع اولادنا كأنا مش راجعين.. في المسا نقعد معهم ونوصيهم كأنا مش راح نقوم الصبح ومش راح نلتقي.. على هالحال بقينا عايشين سنين طويله.. الساعه بيوم.. واليوم بسنه.. والسنه بدهر.. والدهر الف عام.. كانوا يمهدوا الطريق.. ليقلّعونا من هالارض.. أو ليدفنونا واحنا طيبين..


مدينة في حصار.. البحر من امامكم.. والعدو من ورائكم.. كانت البواخر تنتظر.. " راجعة باذن الله ".. الترحيل.. " عد سالما يا ابو علي ".. " لا تسرع، الموت اسرع ".. للاسكندريه.. احضروا الاطفال والنساء.. لا تأخذوا معكم شيئا.. حمولة " البابور " عشره طن.. لبيروت، طرابلس.. لجهنم الحمرا.. البواخر تنتظر وصول الزاحفين من حي المنشيه نحو المينا.. بعد قرار التقسيم بأيام.. بساعات.. اللغم ادّى الواجب وأكثر.. بيان رقم واحد: اليهود يبقرون بطون الحوامل.. ويشربون دم الاطفال.. هنا اذاعة الملك، القائد العام لقواتنا المسلحة، قاتلوهم بأظافركم، بأسنانكم، واسلخوا عنهم جلودهم..

الاحياء اليهودية، بين ليلة وضحاها، تحوّلت الى ثكنات عسكريه.. يطلق منها الرصاص من كل مكان.. يصطادون الناس عن السطوح.. محمد خلف.. كان يصلح سطح داره.. كان عمره 17 سنه.. كتّوه عن سطح الدار. المورتار.. تقليعه جديده.. وصلت من الغرب.. القنبله تحوّم فوق البيت.. وتهدر كالطائرة.. تسقط وتترك حفرة عميقة في الارض.. القنابل القادمة من أبو كبير لم تبق على أحد في سكنة درويش.. وتل الريش.. زحف الناس الى الداخل.. كان هناك مسرب.. على البحر.. ومسرب آخر.. على طريق القدس.. والى يافا المحاصرة.. لم تتسرّب الا أخبار دير ياسين.. قابلوهم بعيونكم.. اسلخوا جلودهم بأظافركم..

سقطت سلمة.. سقطت الخيريه.. بيت دجن. يازور.. سقطت وبقيتم انتم.. اما البحر، واما الطريق الوعرية المؤدية الى الرمله.. اللطرون.. القدس.. كان ذلك في آواخر نيسان.. لم يبق في المدينة أكثر من خمسة آلاف عربي.. كلهم من الختياريه والاطفال.. ركزوهم في غيتو العجمي.. أصبح الدخول بتصريح.. والخروج بتصريح.. اعتقلوا كل الشباب ما فوق الخامسة عشره.. أما أن تبقى في السجن وأما أن تختار " البابور " الذي ينقلك الى حيث تشاء.. لك الحرية أن تختار المنفى.. لك الحرية أن تختار الموت..

" ساعتها يا عمي، فقدنا القيادة ما وجدنا حد.. لا سلمّونا أسلحه.. ولا قالوا لنا كيف نقاتل.. أحسن سلاح في ايدنا كان ماسوره نعبيها بارود.. شفيق الاصفر وأخوه من حي الجبليه كانوا يحضروا ماسورة، فقعت فيهم وقتلتهم على المحل.. انقتلوا في بيتهم..


تركنا يافا.. وكل شي بقي على ما هو.. الدكاكين مفتوحة للرايح والجاي.. البيوت أثاثها فيها.. وذهبها فيه.. بس أهلها كانوا مودّعين.. أبوابها مشرّعه.. والضباط الحراميه يعسفوها بيت ببيت.. الاثاث يحرقوه في الشارع.. والادوات الصغيرة يحملوها ويأخذوها لبيوتهم.. دخل ضابط على بيت في حي النزهه... أعجبته ساعة حيط معلقة.. قال للعسكري: انزلها وامسح الغبره عنها.

قلبها: وقعت منها صرّة ذهب. رمى الساعه واخذ الصرّه.

الاموال والذهب تركناها في المخدات والفراش.. صاروا يمزقوها وينهبوها..

ظلام دامس سقط على المدينة في تلك الليلة.. لم يلمح فيها سوى أنوار " اللانشات " التي ظلت تحمّل الناس.. ولم يسمع سوى هدير وجلبة قادمة من البحر.. يافا.. تنام ليلتها الاخيره.. يافا.. تصحو في يومها الاول، الجنود ينتشرون في أزقتها.. يدخلونها بيتا بيتا.. يفرغونها من كل شيئ.. المدينة تختنق. وتلفظ أنفاسها الاخيرة.. وفي الشوارع دوريات تبحث عمّن آثر الموت.. على الرحيل.. آثر الموت ؟ يقتل ويلقى بجثته في البحر، أو في حفرة عميقة تتسع لالاف الناس.. أمسكوا شابا كان يبحث عن أخوته الصغار.. ناداه العسكري.. حاول أن يهرب.. لحق به.. وظل الكرباج يترك خطوطا حمراء على جلده.. الى أن أدخله بيتا ذا باب كبير.. وحشر أصابعه في الصدغ.. وطرق الباب.. لم يعرف ماذا جرى فيما بعد.. هل وجد أخوته الصغار ؟ ربما ؟

وربما.. كانوا يعملون بالسخرة.. يحمّلون الاثاث.. أو ينظفون الزوايا المعتمة من الجثث المعفنة.. سليم القاضي.. شغّلوه ينشل مي من المينا.. انحنى ليرفع الدلو.. دفعه العسكري فسقط في البحر.. كان يعرف يسبح.. حاول يطلع على الرصيف دعس على اصابعه.. ورماه مرّة ثانية.. كل ما حاول.. يرميه في البحر.. عن بعيد، كان ضابط يتطلّع عليه.. نادى العسكري وقال له:

- ارفعه من المي !

ناداه واقعده جنب الدفاي، وسأله:

- انت اسمك سليم القاضي ؟

- نعم يا خواجه !

- عارفني مين أنا ؟

- لا يا خواجه !

- أنا فلان.. بتذكرني.. احتميت في بيتك من الانجليز، عرفتك علشان هيك انقذت حياتك.. واحده بواحده..

حسن التلاوي كان ماشي في الشارع.. ناديت عليه:

يا حسن.. جاي دورية جيش.. اختفي أحسن ما يشغلوك بالسخره..

وصلت دوريه.. نزلت منها جندية من أصل يمني..

قلت له: اهرب..

قال: هاي شوشانا.. باعرفها.. كنت معها في الجيش الانجليزي.

قلت له: يا حسن مش راح تتعرّف عليك..

نزلت من السياره ونادته.. صار يضحك لها: شوش.. شوشانا.. انا فلان..

- تعال يا حمار.. صرخت فيه.. وسحبته من كتفه.. وضربته بالباروده على ظهره.. وأطلعته على السياره: بعدها.. التقيت فيه:

- شو صار معك ؟

- بعد ما ضربتني واستكفت، اخذوني ارفع جثث عن شط البحر.. مئات الجثث كانت مرميه / معفنه على الشط.. تمسك الزلمه من رأسه يطلع في ايدك.. والريحه تقتل.. وهذا بتعرفه.. وهذا ما بتعرفه والضابط مغطي على مناخيره ويعطيك الاوامر بالكرباج.. يا ريتني سمعت منك..

" يا ريتني سمعت منك "..
" هل تنفع الندامه " ؟

تعود الى يافا في اليوم التالي !

تبحث عن أزقتها، عن بيوتها.. عن سوق الصرافين.. عن بيت الدجاني وبيت سابا.. والتاجي.. وقطان.. والشرقاوي.. والزرنوقي.. وابو لبن.. وهريش.. وصبيح.. ودسوقي.. والهباب.. وروك.. هل بقي منهم أحد في يافا ؟

يغرز نظره في البحر.. ترتفع الموجة لتتحطم على صخر المرسى.. ترجع رذاذا الى البحر.. تتجمع.. تتحطم.. " سنّة الحياه ".. لماذا لا يهدأ هذا البحر ؟

يفتح باب السيارة.. ويقعد.. على الكرسي الامامي.. ويبدأ الرحلة من جديد.. يافا.. اليوم.. اليوم..

اليوم..


حين تتراخى الشمس في أحضان البحر وتتسلل نظراتها / اشعتها بين البيوت العتيقة والزقاقات الحزينة، تتساقط ظلال كاشحة ويخيّم صمت يشقه لطم الامواج على الصخور وجدران العمارات، فيقف الشيخ المشقق الوجه واجما يجول بنظراته متفقدا يافا القديمة / يافا الجديدة، كالنسر ينظر اليها من فوق أحيانا، كالطفل يودعها بعينين دامعتين أحيانا اخرى: ما بقي من العمر أكثر ما مضى..

يواصل السير كأنه يودّع الى غير رجعة، كأنه يترك لنا أمانة / وصية لكن ليس قبل أن يتفقدها بيتا، بيتا، حجرا، حجرا، وحين يصغي يخيل اليك أنه يستمع الى أصوات تنبعث من ذلك الحفيف الذي يشوّش الصمت وذلك الهدير المنبعث من البحر مختلطا بجلبة المدينة الصاخبة القريبة جدا من مقبرة كبيرة، تدعى "يافو".

على الشارع الطويل، وتحت ظلال شجرة وارفة تنتصب قرب السور المحيط بمدرسة حسن عرفه، وقفت مجموعة من السياح، جاءوا ! من يعرف ؟ ربما من المانيا التي كثرت فيها الاسوار والحواجز يوما ما، وربما من مدينة كانت عامرة، كانت صاخبة، لكنها اليوم أصبحت مهجورة، وبينهم وقف رجل، طويل القامة، يلبس بدلة رمادية، وتفوح منه رائحة " الافترشيف " ممتزجة بعطر النساء الفرنسي المنتشر على جانب الطريق، المنبعث من خدود السائحات اللواتي يصغين للرجل يحكي لهم عن مدرسة للعرب، عن مساواة للعرب، عن دمقراطية للعرب..

ولم يستطع الشيخ المشقق الوجه أن يكبت ثورته، أو أن يطفئ النيران الملتهبة في صدره، ربما كان عليه أن يفعل شيئا ما لم يعرفه من قبل، أن يفعل في تلك اللحظة ما لم يقو على فعله يوم "راحت فلسطين " أو خلال كل السنين التي كان يتنقل فيها من بلد الى بلد، من ملجأ الى ملجأ، من صحراء الى صحراء، فانفجر صارخا، لا تصدقوا.. لا تصدقوا.. هذا يكذب.. يكذب.. يافا.. كانت.. يافا صارت.. يافا ماتت.. يافا.. يافا.. يافا..

توقف الرجل.. نظرت السيدات الى شيخ.. يخطو متثاقلا.. وهو يصرخ بأعلى صوته.. وساعداه يرتجفان.. وكأنه بعينيه المتقدتين / الناريتين، يريد احتلال قلعة صليبية، وانتصب بين المجموعة.. " انظروا ماذا فعلوا بيافا.. "

الرجل الذي يرتدي البدلة الرمادية.. وضع يده على كتفه.. وشدّه الى الخلف.. وانفجر صارخا في وجهه: انصرف من هنا.. سأحضر لك الشرطه.. يا وقح.. يا شقفة عربي قذر..

هدوء مشوب بالتوتر خيّم على المكان.. تجهمت وجوه السيدات اللواتي انبعثت عن خدودهن رائحة العطور الفرنسية.. هدأت أعصاب الشيخ.. أومأ لنا باشارة أن نترك المكان.. كأنه هو القائد ونحن فرقة صغيرة من جنود لا نملك سلاحا الاّ ايمان هذا الشيخ وجرحه وغضبه وحبّه لهذه الارض.. فانصرفنا.

الساحة الفسيحة على الشاطئ، والانوار الساقطة على الجدران الحجرية، شدّت انتباه الشيخ المشقق الوجه، الناري النظرات، المرتجف الاطراف، " كأننا نقترب من النهايه " همس، وأسرع الخطى، قد تكون تلك الساحة آخر محطة على الطريق من الجزيرة العربية الى شارع "هشيشيم".. أو حي النزهه.. البيت لكاتب يسهر على مصباح خافت.. من يعرف ؟ ربما أنه يكتب عن السلام والمحبة.. أو عن لاجئ هرب من قرية صغيرة على الجبال، أو عن طفلة تبحث عن والديها منذ حملتها القطارات من بوتسدام الى سكسن هاوزن.. في البيت الثاني.. فنان "انساني جدا".. يغني لاطفال مخيم قلنديا.. هذا البيت الثاني نفسه، كان بيت الدكتور حمدي التاجي.. اين هو الان ؟ هل اغلق عيادته وصار يغني ؟ في البيت الثالث مصمم أزياء.. الرابع حلاق سيدات.. يقص على آخر موديل.. وقف الشيخ تلتحفه الانوار المنبعثة من المصابيح الكاشفة.. سألنا أن كان بإمكانه أن يدخل ويتحدث معهم، قلنا له: هؤلاء منشغلون جدا، ولا تستطيع زيارتهم الاّ بموعد مسبق.. قال: اذن، يكفي ما شاهدناه في هذا اليوم !!

في الجانب الآخر من الطريق المؤدية الى الانوار الكاشفة، عند مدخل أحد البيوت العتيقة وقفت مجموعة من النساء، انبعث صراخ من داخل البيت، خرجت امرأة تولول وشقت طريقها بين المجموعة فأمسكت بذراعيها امرأتان وحاولتا قيادتها الى بيت محاذ، شاب في مقتبل العمر نزل الدرج وهو يصرخ: جمال، أخي يا حبيبي !! شو عملت فينا.. الصراخ يملأ البيت.. النساء اللواتي وقفن في الخارج، دخلن للحظات.. ثم خرجن وخلفهن مجموعة من الرجال.. يحملون جثة شاب.. في الثلاثين من عمره، تقدمت سيارة واقتربت منهم.. وضعوا الجثة فيها.. وانطلقت مسرعة.. تاركة امرأة تهوي على الارض وهي تصرخ: جمال.. ابني يا حبيبي.. جمال.. جمال.. جمال.. وتتوقف.. وتجلجل صرخاتها في الفضاء الرحب.. ورجع الصدى يصم الاذان.. والشيخ وقف حزينا مشدوها يحاول أن يقول البقية بحياتكم.. الله أعطى، الله أخذ، لكن حين سمع ماذا حدث لجمال، توقف عن التفكير، وقال يخاطبنا: " لم نترك لكم هذه البلاد لكي تفعلوا بأنفسكم ما فعل جمال بنفسه "


جمال شاب في الثلاثين من عمره، لا يعرف القراءة ولا الكتابة، كتب عليه أن يكون فقيرا حين كان طفلا صغيرا وأنامله الغضة عرفت كل أصناف الخشونة والجراح، في البناء، في الكراج، خادم في مطعم، خادم في بيت، وعيناه الذابلتان عرفتا كل جدران الزنازين والسجون، يسكن مع أخوته في بيت عتيق، كبر فيه ومعه كبر ألمه وحزنه، أراد أن يتزوج، وعد حبيبته التي تنتظر عودته ان يفتح لها بيتا، توجه الى كل مكان، عمل ليلا ونهارا، لكن الابواب طرقت في وجهه، ظلت حبيبته تنتظر البيت وتنتظر العودة، وحين أصبح كل شيئ معتما / مسدودا / رافضا في وجهه - انزوى في غرفة صغيرة.. على سرير بدون وسادة، بدون غطاء، وترك ورقة على الطاولة: " لم يعد اي معنى لوجودي.. حبيبتي، وعدتك ولم اف بوعدي.. قد نلتقي في مكان آخر غير هذا المكان.. هنا لا تحملنا هذه الارض.. " وأفرغ الاقراص التي ملأت العلبة الورقية.. شرب كأسا من الماء لتذوب الاقراص في طريقها الى معدته.. أطرافه أخذت تتراخى شيئا فشيئا.. غشاوة تتسرب الى عينيه.. نقاط سوداء كثيفة تملأ الغرفة.. النسمة التي تسربت من الشباك المفتوح حركت الورقة الصغيرة.. ولم ينبعث من الغرفة الا حفيفها الخافت.. الى أن انطلقت صرخات النسوة في الخارج..

في السنوات الاخيرة، كثير من الشبان، كان مصيرهم كمصير جمال، حين تغلق الدنيا أبوابها في وجوههم، يقررون أن يهربوا من هذه الدنيا، ردد الشيخ أكثر من مرة. " لم نترك لكم البلاد لكي تفعلوا بأنفسكم ما فعل جمال بنفسه "، لقد انتحرنا مرة واحدة. كان انتحارا جماعيا.. لكن لا يمكن أن يتكرر هذا الانتحار.. اشعر ان نهايتي تقترب.. كنت أود أن أزور كل زاوية في يافا.. أن أعيد في الذاكرة كل حدث.. كل صورة.. كل شارع.. كل بيت.. أن أجمع شمل جميع المشتتين.. لنلتقي في هذا الساحة الفسيحة.. مع انوار كاشفة أو بلا انوار.. يعودون الى يافا في الذاكرة.. لا تقولوا لهم ان هناك من يفضّل الانتحار، قولوا لهم ان شيخا مشقق الوجه، ينحني على عكاز، قطع الطريق من الصحراء الى شاطئ البحر، على امل أن ما يختزن في القلب يتحول الى واقع ملموس.. يافا.. لم تكن.. ولن تكون هذه الاوكار.. هؤلاء الحشاشين.. العاهرات.. الخرب المهجورة. أحس انني اقترب من النهاية.. افرغوا مني هذه الذاكرة قبل أن اموت.. تعالوا.. اجلسوا الى جانبي لأعطيكم كل ما حملته في هذه الرحلة الطويلة.. انه يثقل عليّ.. لكنني اريد ان احملكم اياه.. كي لا تبدأوا رحلة أخرى وكي يعرف القاصي والداني.. ان هذه الارض مشبعة بدماء الابرياء.. اجبروا على الموت واحيانا الانتحار.. كان هذا الوطن عامرا.. العاصفة هدمت كل شيء.. قبلت تراب الجليل.. قبلت الارض الرملية عند الشاطئ.. عانقت الكرمل.. بحثت.. بحثت عن قرية كان لي فيها أقارب واصدقاء.. لم أعثر حتى على مئذنة الجامع.. رجمة حجارة بقيت تنتظر أهل البيت.. شجرة صبار زرعوها..كي تحمي الارض من الثعالب.. التي تخرّب الزرع.. ظلت تنتظر.. تدمع أوراقها السميكة فتبلل الاشواك التي تنتظر قدوم الثعلب.. لم نترك هذا الوطن رجما من الحجارة يا ابنائي.. نموت أو لا نموت.. تبقى الذاكرة وتبقون انتم.. تحاولون أن تفتشوا عن الاهل.. عن القرية العامرة، عن المدينة التي لم يبق منها سوى هذه البيوت العتيقة. هذه الازقة المعتمة.. نموت أو لانموت، نحمل الوصية في القلب، نحملها في عيوننا الدامعة، في صدورنا التي تكاد تفجّرها الالام المكبوتة، الاحاسيس الملتهبة، الجراح المفتوحة، ما بقي من العمر أكثر ما مضى، انقلوا هذه الوصية، بتروح ناس وبتيجي ناس، وهالارض بتبقى ارض، بحجارها وبترابها، بتضحك لقرص الشمس وما بتنتسى.

بين ايدينا يتهاوى الشيخ المشقق الوجه.. تسقط عكازه على الارض، فيخترق طرقها آذاننا، كأن شيئا ما توقف عن الحركة أو كأن شيئا ما يؤذن بميلاد حركة جديدة من البدء، كنا نعرف ان شيخنا لن يعيش الى ما لا نهاية، كانت تنتظره هذه الساعة، ولم يكن ينتظرها الا حين اشرفت على القدوم، فترك اهله في ذنابه، وجاء الى يافا يتنقل بين بيوتها، ويحملنا ما تحمله الذاكرة، لننقلها نحن، أو لكي لا نحمل نحن مثل ما حمله هو هذه السنين الطويلة. استرخى جسده على ايدينا فوضعناه على سرير بلا وسادة وبلا غطاء.. كان قلبه ما زال ينبض.. والذبول الذي سيطر على جفنيه لم يمنعه من أن ينظر الينا، كان يريد أن يقول شيئا..

" لا تدفنوني الاّ في يافا ".

همس.. بصوت خافت وشفتين راجفتين..

" وان لم يسمحوا لكم.. فالقوا بجثتي في البحر.. ستعيدني الامواج.. "

شق ضيق فقط تراءى من عينيه.. الجفاف شقق شفتيه..

" أتركها لكم.. حافظوا عليها.. لا تدفنوني قبل أن يعود آخر ابنائي، على الاقل ليحضر الجنازة.."

ودّعنا الشيخ المشقق الوجه الذي نتحدث عنه..

في غرفة صغيرة.. قبّلنا يده.. ومسحنا بأناملنا المرتعدة جبينه البارد.. لم يسمعنا حين خاطبناه:

مع السلامة أيها الجد !!

تغيب عنا، يحضر فينا هذا الوطن، نقبّل يدك، نبحث عنك، لا نجدك.. ينبعث صوت خافت / صوت صارخ.. يهزنا في أعماقنا.. يغيب بعد أن تدرك أننا.. سنعود، سنعود، مهما طالت الرحلة س..ن..عو..د..

التعليقات