ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية (الحلقة 28 )د.مصطفى كبها

-

ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية (الحلقة 28 )د.مصطفى كبها
عند ازدياد الفظائع التي قام بها الجنود البريطانيون في القرى الفلسطينية، أخذ الثوار بالإجابة على هذه الأعمال بجملة من الهجمات والكمائن على مراكز الشرطة البريطانية ومؤسسات حكومة الانتداب وأماكن تجمع القوات البريطانية وطرق إمدادها... كان الضابط البريطاني موفت، الضابط المسؤول عن المحاكم العسكرية البريطانية في منطقة جنين من أعتى وأقسى وأشد الضباط البريطانيين في تعاملهم مع الأهلين. وقد قرر قائد المنطقة الواقعة بين جنين ونابلس وبيسان من قبل الثورة، القائد محمد الصالح الحمد ( أبو خالد من سيلة الظهر، قضاء جنين ) إغتيال هذا الضابط، وكلف شخصاً من قباطية يدعى علي أبو عين، كان يلح على القائد أبي خالد أن يقبله في صفوف الثوار على الرغم من عاهة جسدية كان يعانيها (إنحناء في العمود الفقري)، وكان أبو خالد يعتذر منه بأسباب عديدة كي لا يصيب مشاعره المتوقدة ولا يفت من عزيمته وحماسه.

اختار أبو خالد عليّاً كي يقوم بمهمة إغتيال موفت، لأنه كان واثقاً أن دخوله إلى مقر حاكم جنين لن يثير الكثير من التساؤلات، بحكم عاهته، من قبل الحراس البريطانيين.

وقد قص عليّ السيد عفيف عبد الله زكارنة (أبو حلمي) في مقابلة أجريتها معه في تموز 1999، تفاصيل ما جرى صباح الرابع والعشرين من آب 1938، فقال:" ذهب علي أحمد أبو عين من عائلة أبو الرب من قباطية إلى القائد محمد الصالح الحمد، وقال له بأنه مستعد للتطوع لقتل موفت، وذلك بعد أن تزايد تذمر الأهالي من سلوكه.

وافق القائد أبو خالد على الفور وسلمه مسدسين. ذهب علي للتو إلى مركز الشرطة في جنين يحمل التماساً للحاكم يطلب فيه السماح له بالعمل بدائرة الأشغال العامة. وكان حرس المخفر، في ذلك اليوم ، إثنين من العرب هما محمود العابودي وخضر الفحماوي، وقد قاما بإدخال أبو عين بعد أن طلب منهما السماح له بمقابلة الحاكم العسكري.

دخل علي أبو عين على موفت وعنده اجتماع مخاتير كان يوسعهم إهانات وشتائم، لوّح بالمسدس وقام المخاتير بالاختباء تحت الطاولات وبعدها عاجل موفت بخمس رصاصات كانت كفيلة بإصابته بجراح بالغة مات على إثرها بعد ساعات في مستشفى الأمين في حيفا، حيث خضع لعملية جراحية لم تفلح بانقاذ حياته.

أما علي أبو عين فقد خرج من المخفر وسار على الشارع العام حيث لحق به الجنود البريطانيون واعتقلوه وأخذوه مكبلاً إلى حيفا حيث كان يعالج موفت للتعرف عليه، وعندما ثبت أنه المنفذ قاموا بقتله وأخذوه لأهله في قباطية.

بعد ذلك قاموا بعملية اعتقالات واسعة في جنين وقباطية ونسفوا عشرات المنازل. وقد قام قائد المنطقة الضابط مورتن، الذي عرف هو الأخر بقسوته وصلفه، بتجميع جميع الرجال في قباطية في الميدان العام والنساء في المسجد لأكثر مكن عشرين ساعة ليتسنى لجنوده تفتيش المنازل والعبث بمحتوياتها ثم هدم بعضها ".

كان مقتل موفت ضربة موجعة للبريطانيين ذكرتهم باغتيال أندروس الحاكم العسكري البريطاني للجليل في مدينة الناصرة قبل ذلك بعام تقريباً. وعليه كانت ردود فعلهم العنيفة مشابهة لتلك التي شنوها ضد الفلسطينيين في حينه.

استمرت أعمال التفتيش والتنكيل ونسف المنازل وحرق البيادر بكل حدة، ولكن ذلك لم ينل من إصرار الثوار على مواصلة الثورة. وقد ردت قيادة الثورة على إعتقال البريطانيين لكل فلسطيني يرتدي كوفية ( على اعتبار أن القوى الفاعلة في الثورة آنذاك كانت من أصول فلاحية )، بمطالبة رجال المدن بنزع الطربوش واعتمار الكوفية حتى الموظفين الفلسطينيين في الدوائر الحكومية والمحامين بدأوا يذهبون إلى الدوائر وقاعات المحاكم معتمرين الكوفيات، الشيء الذي فوّت على البريطانيين فرصة التفريق بين الثوار وغيرهم.

وقد وثّق أكرم زعيتر في مذكراته لهذه الخطوة قائلاً:" المعروف أن الثوار في فلسطين يلبسون على رؤوسهم العقال والكوفية، وذلك أساساً هو ما يلبس على الرأس في القرى. وحيث أن الثورة المباركة قد استطاعت أن تقضي على الجواسيس في معظم المناطق الفلسطينية، فلم تجد السلطة ما تميز به المجاهدين في المدن عن غيرهم إلا اعتبار كل لابس للعقال والكوفية ثائراً فتلاحقه بالتحقيق أو الاضطهاد.

وهنا فكرت إحدى القيادات في الأمر فأذاعت بياناً تحض فيه على نزع الطربوش عن الرأس (وهو غطاء الرأس لدى جميع سكان المدن) ولبس الكوفية الكوفية والعقال، وبذلك يزول الفارق بين المجاهدين وغيرهم، ويكون ويكون ذلك إعلاناً لتضامن سكان البلاد التام في الجهاد رمزاً لكون الناس جميعاً ثائرين.

وما أن صدر البيان المذكور حتى بادر سكان البلاد إلى انتزاع الطربوش وإحلال العقال، رمز الثورة، محله، مما أدهش السلطات ودل على نفوذ الثورة وقوة سلطانها. ومن كان يتصور أن تنزع أمة بكاملها لباس رأسها الذي هو من تقاليدنا الثابتة الموروثة ".

نزع معظم الرجال في المدن الفلسطينية الطربوش وأحلوا محله العقال والكوفية، وارتفع بحكم ذلك ثمن الكوفية والعقال بضعة أضعاف ولكن بعض المدنيين المعتزين بالطربوش رمزاً لتفوق طبقي معين رفضوا الانصياع لأوامر الثورة وآثر بعضهم الهجرة إلى بيروت على أن يلبسوا العقال والكوفية.

ولعل الحادثة الأشهر في هذا المجال هو سلوك محرر إحدى الصحف الكبيرة في مدينة يافا الذي أعلن أن اللباس القروي لا يروقه وسيهاجر إلى لبنان كي لا يضطر لاعتماره. بل أنه تعمد الذهاب إلى الميناء معتمراً الطربوش مجاهرة، فما كان من عمال الميناء إلى أن أبلغوا اللجنة القومية في يافا بالحادث فسارع بعض أعضائها (بصحبة بعض الثوار المسلحين ) إلى هناك، وقبل أن يصعد محرر الصحيفة المذكور على متن الباخرة، أخذه وفد اللجنة القومية جانباً وأجبروا مصور الجريدة أن يأخذ له صورة بالكوفية والعقال على أن يتم نشرها غداة اليوم مع خبر مغادرته البلاد "لقضاء بعض الحاجات الخاصة "( كما جاء في الخبر إياه) وهذا ما كان بالفعل.

قد لا تكون تفاصيل هذه القصة أو قصص أخرى شبيهة لها تفاصيل مميزة لردود سكان المدن على هذه الخطوة من قيادات الثورة، ولكننا نستطيع أن نقول بأن لها دلالات طبقية معينة ساهمت في مرحلة المد من الثورة، التي سنتحدث عنها لاحقاً، في تفتيت المجتمع الفلسطيني وتغليب حالة الاحتراب الداخلي التي سادته.


وللحديث بقية ......

التعليقات