ثورة 1936- 1939 والذاكرة الشعيية الفلسطينية (الحلقة 22)د.مصطفى كبها

-

ثورة 1936- 1939 والذاكرة الشعيية الفلسطينية (الحلقة 22)د.مصطفى كبها
في العشرين من الشهر الحالي صادفت الذكرى السبعون لانطلاق إضراب وثورة 1936-1939. ويجدر بنا إزاء هذه العقود السبعة التي مرت، أن نتأمل ونتفحص ما تم إنجازه على ساحة الكتابة التاريخية الفلسطينية، وعلى صعيد تخليد الذكرى من أجل أن تصل تفاصيل هذا الحدث المفصلي وانعكاساته على مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، إلى الذاكرة الجماعية لهذا الشعب.

يمكننا أن نفحص ما انجز من خلال معيارين: الأول ما كتب ودوّن ووثق عن هذه الثورة والثاني ما تم فعله في مجال تخليد الذكرى لرموز الثورة وشهدائها، كإقامة الصروح التذكارية في الأماكن العامة أو إطلاق أسمائهم على شوارع وميادين ومدارس ومؤسسات ثقافية ورسمية فلسطينية.

بالنسبة للصعيد الأول، لم تخصص الكثير من الأبحاث للحدث نفسه بل تم تناوله من خلال أبحاث تناولت القضية الفلسطينية بشكل عام وكتب مذكرات لأشخاص شاركوا في صنع الأحداث كالحاج أمين الحسيني وأكرم زعيتر ومحمد عزت دروزة.

وكان صبحي ياسين الوحيد من هؤلاء الذي لخص تجربته في الثورة ( كعضو في فصيل شفاعمرو والجليل) في كتاب شامل أورد فيه الكثير من التفاصيل والوقائع المهمة، وهو على الرغم من ميله في بعض الأحيان لعدم الدقة ( كتب الكتاب، معتمداً على الذاكرة، بعد حوالي عشرين عاماً من انتهاء الثورة ) يعتبر مصدراً أولياً أساسياً لدراسة الثورة. وإذا التمسنا العذر للمؤرخين في العقد الذي تلا الثورة وسبق النكبة، وذلك لعدم توفر البعد التاريخي اللازم لتقييم حدث بهذا الحجم، وإذا فعلنا الشيء ذاته مع مؤرخي الفترة القصيرة التي تلت النكبة التي غطت أهوالها، وما زالت، على أي حدث سابق لها ، فما عساها تكون حجة الأجيال التالية من المؤرخين الذين توفر لهم البعد التاريخي من جهة، ووصلوا إلى عبرة مفادها أنه لا يمكن رسم الأبعاد المتكاملة للنكبة دون الرجوع لما جرى في ثورة فلسطين الكبرى 1936 - 1939، والتي تشكل المرحلة الأخيرة منها سبباً أساسياً لتفتت المجتمع الفلسطيني وتشرذمه وبالتالي انهياره السريع، نسبياً ، في المواجهة ولحظة الحسم الكبرى عام 1948.

باستثناء عامل القسريات المعيشية والقيود المختلفة التي فرضتها الأنظمة المختلفة التي سيطرت على مصائر الفلسطينيين في مختلف المناطق التي تجمعوا فيها بعد نكبتهم ( وهي أمور ليست بالقليلة أو خفيفة الوزن)، فإننا لا نجد حجج أخرى يمكن أن تمنع الموثقين والمؤرخين من تجاوز عملية اجترار ما كتب سابقوهم ( إلا ما ندر منهم كبيان نويهض الحوت وخيرية قاسمية وعبد الوهاب الكيالي وكامل محمود خلة) إلى عملية توثيق واسعة في تلك التجمعات للروايات الشفوية من أناس شاركوا بالثورة أو شاهدوا أحداثها عن كثب.

إن عملية التوثيق هذه لم تبدأ، للأسف الشديد قبل نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي. والمؤسف أكثر أن هذه الروايات، مع أن هذه البدايات بالغة الأهمية حقاً، لم تكن ناضجة بما فيه الكفاية، إن كان من حيث آليات وأساليب الجمع أو من حيث عملية الغربلة والجرح والتعديل. هذا فضلاً عن عدم التنسيق بين العاملين في هذا المجال الشيء الذي ولّد بعض حالات التكرار والبلبلة وحتى التناقض في الروايات المتواترة. ومع ذلك، فإن هذه المحاولات على الرغم من العيوب التي ذكرتها، تبقى أعمالاً ريادية تخفف نوعاً ما من الشعور المر بإهدار الكثير من الشهادات المهمة التي دفنت مع أصحابها بعدما لم تجد من يستخلصها ويخرجها إلى حيّز النور.

إن ما قامت به روز ماري صايغ من جمع للشهادات الشفوية في المخيمات الفلسطينية، وما قام به طاقم جامعة بير زيت (باشراف شريف كناعنة وصالح عبد الجواد وآخرون) وما قام به مجموعة أخرى من المهتمين بالتاريخ الشفوي الفلسطيني بشكل عام، وتاريخ ثورة 1936 -1939 والنكبة بشكل خاص كسونيا النمر وفيحاء عبد الهادي وعادل يحيى ونمر سرحان وكاتب هذه السطور، هي خطوات مهمة على الطريق الصحيح لكنها تبقى كالنفأ القليل في العام الممحل مادامت المساعي والمبادرات تجري بشكل فردي أو بشكل جزئي من التنسيق أو بشكل لم يتم التقرير فيه بعد: أيهما أهم التوثيق أم الكتابة؟ أو بكلمات أخرى انقاذ ما يمكن انقاذه من شهادات الأحياء من ثوار وقادة ومؤازري ثورة 1936 -1939، ومن ثم الانكباب على الكتابة والصياغة ؟ أم إهدار الكثير من الوقت في المراوحة بين التوثيق والكتابة؟

والأنكى من ذلك كله الانشغال بجدالات، سفسطائية بمعظمها ، حول ماهية التاريخ الشفوي ومدى مصداقيته ومعايير جمعه وإلى أية مدرسة علمية أو جانر فلكلوري يجب ضمه.

إنني في أقوالي هذه لا أريد أن أقلل من أهمية هذه الجدالات ولكن الأمر بات الآن أمر أولويات ليس إلا، والأولى بالكتّاب والموثقين والمؤرخين الآن تجنيد كافة ما يملكون من طاقات لجمع أكبر عدد ممكن من الشهادات التي يتهددها خطر الاندثار. وذلك لا يتأتى إلا من خلال تجنيد الطلاب ومساعدي البحث والأصدقاء والأقارب وكافة الوسائل التقنية الممكنة لجمع هذه الشهادات وما أمكن من وثائق، ومن ثم التفرغ فيما بعد، ربما من قبل مؤرخين آخرين، لعملية الجرح والتعديل والصياغة والكتابة.

أما فيما يتعلق بالصعيد الثاني، وهو عملية إقامة الصروح وإطلاق أسماء الرموز الوطنية على الشوارع والميادين والمدارس والمؤسسات، فالصورة هناك لا تبدو وردية هي الأخرى. فلو سألنا كم من هذه الأشياء، المذكورة أعلاه، تحمل اسم القائد العسكري العام للثورة عبد الرحيم الحاج محمد؟ لا يوجد، على ما أعلم، شيء كهذا سوى اسم مدرسة القرية التي ولد فيها هذا القائد الشهيد، قرية ذنابة، الملاصقة لمدينة طولكرم، والتي بدأت تحمل إسمه منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي أي بعد ما يقارب ستين عاماً على استشهاده في صانور في السابع والعشرين من آذار عام 1939.

والسؤال يمكن أن يطرح أيضاً بالنسبة لعارف عبد الرازق ومحمد الصالح الحمد ( أبو خالد) ويوسف أبو درة وفرحان السعدي وأبو إبراهيم الكبير وعيسى البطاط وعبد القادر الحسيني وحسن سلامة وعبد الحليم الجولاني وغيرهم الكثير الكثير من رموز الثورة وأقطابها.

وعلى ذكر القائد عبد الرحيم الحاج محمد، فقد كنت شريكاً، عام 1999، مع بعض العاملين بالتاريخ الشفوي والعائلة بترتيب إحياء ذكرى استشهاده الستين في قريته ذنابة، وفوجئت أثناء ترتيب الحدث وإعداد كتاب عن المحتفى بذكراه، أن بعض سكان قريته لا يعرفونه، والكثير من سكان المنطقة لا يفرقون بينه وبين الشاعر ذائع الصيت عبد الرحيم محمود، إبن قرية عنبتا المجاورة لذنابة، والذي عمل أثناء الثورة مسؤولاً عن الإعلام والدعاية في مقر القائد عبد الرحيم الحاج محمد، وقد استشهد، هو الآخر، لاحقاً في معركة الشجرة ودفن في الناصرة في تموز عام 1948.

وإذا أخذنا مثالاً صارخاً آخر لتغييب الرموز من الذاكرة الشعبية وهو مثال الشاعر الشعبي للثورة، إبن مدينة حيفا، نوح إبراهيم الذي استشهد في معركة طمرة عام 1938، ليس قبل أن تملأ أهازيجه صدور الفلسطينيين بالعزة وتشحذ هممهم للاستمرار بالثورة حتى نيل الحقوق. من من الفلسطينيين لا يعرف أهزوجة " دبرها يا مستر دل" ( البعض يلفظها بل ويعتقد خاطئاً أنه يتوجه للورد بيل، رئيس للجنة التقسيم المشهورة، والحقيقة أنه يتوجه ساخراً للجنرال دل القائد العام للقوات البريطانية في فلسطين الذي عجز عن إخضاع الثورة) ومن لا يعرف أهزوجة "من سجن عكا" ولكن كم منهم يعرف أن هذه الأهازيج من إنشاء ذلك الزجال الثائر المعروف بنوح إبراهيم؟ وقد هالتني في الشهر الفائت، عندما استمعت لوصلة من الغناء الملتزم أدتها إحدى الفرق المشهورة في هذا المجال، حين لم أجد أحداً من أعضائها يعرف لمن هذه الأهزوجة.

والأمثلة المشابهة، بطبيعة الحال كثيرة وتخص الكثير من صانعي التاريخ الذين غمروا وضاع ذكرهم من الذاكرة الجماعية.

لقد قامت بعض الهيئات في مناطق السلطة الفلسطينية بمحاولة إصلاح هذا الوضع الغريب فأقيمت نصب في بعض القرى ( بلعا، دير الغصون وجبل المنطار) وكذلك قامت بعض المجالس المحلية بالداخل ببناء صروح كهذه كما فعل المجلس المحلي في كفركنا حيناً أقام صرحاً يخلد أسماء شهداء القرية من الثورة وحتى العام 2000، كما وبدأ المجلس المحلي في كفر قرع ، قبل سنوات عدة، بالتخطيط لمشروع مشابه وولكنه لم يخرج إلى حيّز التنفيذ.

إن ما نفذ في هذا المجال هو جزء بسيط مما يجب أن يفعل ولعل قسريات الظروف وتدافع الأحداث التاريخية وتلاحقها تشكل أسباباً،غير مقنعة تماماً، لعدم النهوض بمشروع تخليد شامل لرموز الثورة مهما كان رأينا بالنسبة لبعضهم ومهما كان للمرحلة الأخيرة من الثورة من دور في تشويه صورتها في عيون العامة وخزائن ذاكرتها.

والملفت للنظر حقاً هو ذلك السكوت المدوي للهيئات الفلسطينية الفاعلة التي لم تبادر حتى الآن لتنظيم مؤتمرات ومحاضرات وندوات حول الذكرى السبعين للثورة، في حين أعتمد هذا الحدث موضوعاً لمؤتمرات دولية في الجامعات العالمية المختلفة ويكفي أن ننوه في هذا المجال بقيام كلية سدية بوكير على إسم دافيد بن غوريون، في النقب، على تنظيم مؤتمر كهذا في السادس عشر والسابع عشر من شهر أيار القادم، تشترك فيه كوكبة من كبار الباحثين في التاريخ الفلسطيني الحديث. فهل من معتبر؟


التعليقات