جـولـة فـي نـصّ أدبـيّ/ حنّا نور الحاج

-

جـولـة فـي نـصّ أدبـيّ/ حنّا نور الحاج
تـقـلـيـد
مخاطَبة العينين في المراثي العربيّة (ولا سيّما في الرثاء غير الرسميّ) أمرٌ متّبَعٌ شائع، وبخاصّة في المَطالع. وابن الروميّ يفتتح مرثِيَتَه هذه بمطلع رثائيّ تقليديّ:
"بكاؤكما يَشفي وإن كان لا يُجدي فجُودَا فقد أَوْدى نظيرُكُما عندي"
حيث يخاطب عينيه ويَذكر البكاءَ والدموعَ باعتبارها شافيةً أو مخفِّفةً من الأسى. وفي موضعين آخرين:
-"سأسقيكَ ماءَ العينِ ما أَسعدتْ بِهِ وإن كانتِ السقيا مِنَ الدمعِ لا تُجْدي"
-"أعَيْنَيَّ جُودا لي فقدْ جُدتُ للثرى بِأنْـفَسَ مِـمّا تُسـألانِ مِـنَ الرِّفْدِ"
يتحوَّل البكاء من علاج نفسيّ مخفِّفٍ لوطأة الحزن إلى دلالة على الوفاء لذكرى الراحل، أو إلى تعبير عن هذا الوفاء. وَيُرْفق الشاعر ذلك بتعهُّدٍ بالتذكُّر في موضع آخر:
"وإنّي وإنْ مُـتّعـتُ بِابْـنَيَّ بَعْدَهُ لَذاكِرُهُ ما حنّت النِّيبُ في نَجْدِ"
وهو ما يمكن اعتباره عهدًا بالوفاء كذلك. يكشف هذا الطلب المتكرّر من العينين عن إلحاحٍ ما، وعن عجْزٍ تامٍّ حِيال الموت. وفي موضعين اثنين يكشف الشاعر عن إدراكه لعبثيّة البكاء ("وإن كان لا يجدي"؛ "وإن كانت السقيا من الدمع لا تجدي").

تـقـلـيـدٌ آخَـر
ويختتم الشاعر قصيدته بخاتمة رثائيّة تقليديّة، إذ يستخدم دعاء السُّقْيا، جَرْيًا على عادة الشعراء العرب في كثير من خواتم مراثيهم:
"عليكَ سـلامُ الله منّي تـحـيّةً ومِن كلّ غيثٍ صادقِ البرقِ والرعْدِ"
يرافق هذا الدعاءَ دعاءٌ بأن يحظى المرثيُّ بالسلام الإلهيّ عَبْر تحيّة يوجّهها الراثي إليه، ومن ثَمَّ يدعو له بأن يحظى بهذا السلام السماويّ من سُحُب السماء مَطرًا يَهمي على قبره. ولدعاء السقيا في الرثاء أهمّيّة أو وظيفة نفسيّة لتحقيق توازن عاطفيّ لدى المرء، وذلك في أنّه عامل تخفيفيّ لأثر حدث الفناء "وترطيب الأحزان والأشجان التي تنبعث من النفس بكثافة لا تُحَدّ، وانفكاك النفس من التفكير العميق الآسر في انعدام الحياة". كذلك يمكن النظر إلى هذه الظاهرة الفنّيّة الرثائيّة (استخدام دعاء السقيا) باعتبارها طلبًا للحياة، أو رغبةً في مواجَهة حقيقة الفناء بطلب انهمار ماء السماء باعتبار قطرة الماء عميقةَ الدلالة تُجسّدُ –في ما تُجسّدُ- شعورًا بالارتياح والسعد (في تناول أهمّيّة استخدام دعاء السقيا، أفدتُ كثيرَ إفادةٍ ممّا كتب الدكتور حسين يوسف خريوش في العدد الرابع والعشرين مجلّة "آداب الرافدين" -سنة 1993-؛ وهي مقالة تحمل العنوان التالي: "ظاهرة السقيا وأبعادها الدلاليّة في القصيدة العربيّة").

تـجـديـد
من جديد ابن الروميّ في هذا النصّ وصف مشهد الاحتضار؛ وذلك في الأبيات المتتابعة التالية:
"ألـحَّ عليهِ النـزفُ حتّى أحـالَـهُ إلى صُفرةِ الجادِيِّ عـن حُمـرةِ الـورْدِ
وظَلَّ عـلى الأيدي تَساقَطُ نفسُـهُ ويذوي كما يذوي القضيبُ من الـرَّنْدِ
فيا لـكِ مِن نَـفْـسٍ تَساقَطُ أنفُسًا تَـساقُـطَ دُرٍّ مِـنْ نِظَامٍ بِلا عَـقْـدِ"
حيث يتعرّض الشاعر للموت على نحوٍ مباشرٍ، مصوّرًا تلك اللحظاتِ الأخيرةَ التي سبقتْ رحيلَ الروح عن الجسد، فيَذكر ما أَلَمَّ بجسد الصبيّ مِن تَراخٍ وذبول واصفرار، بفعل النزيف الدمويّ الذي أفقدَ جسدَهُ لونَ العافية (الأحمر)، فأحَلَّ محلَّهُ لونَ الوهَن والسُّقْم (الأصفر)؛ ومصوِّرًا تناقُلَ أفراد العائلة لِذاك الجسد الضئيل الواهن بين أيديهم، في محاوَلة منهم عبثيّة يائسة لتأخير لحظة مغادَرة الروح. كذلك يصوّر أثرَ الموت في المرثيّ وفي الراثي وسائر أفراد عائلته المتجمّعين حول الطفل المتمزّقين لأجله، فيبدو الموت الفرديّ حالةً جماعيّة يعيشها جميع أفراد الأسرة المحيطين بالفتى، إذ إنّ انكسارَ النفوس في حضرة الموت، ومعايَنةَ الحيّ القريب في لحظاته الأخيرة، والإحساسَ بالعجز المطْبِق، كلّ هذه تخلق لدى مَن ينتظرون حلولَ المصيبة العظيمة (الموت) اختناقًا وغصّةً هما كالموت في نفوس الأحياء المتألّمين المُعانِين. في هذا الصدد، وفي تناول البيت الثالث ("فيا لكِ من نفسٍ"...) على وجه التحديد، يقول صاحبا كتاب "مفتاح النجاح": "غدت روح الصبيّ قطرات من الماء تتساقط واحدة بعد الأخرى، فتسقط معها أرواح أخرى من الهلع والتفجّع وتلك إشارة إلى ذواء الفقيد الصغير ويباسه بصورة بطيئة، مُحْدِثًا انعكاسات مماثلة لدى الحضور، كما لو أنّ الموت جماعيّ، تمرّ كأسه على الواحد تلو الآخر" (ياسين الأيّوبي وَخريستو نجم، 1986، مفتاح النجاح، بيروت: دار العلم للملايين، ج2، ص61). والكاتبان يذكران قبلذاك أنّ هذا البيت نفسه "تصوير حيّ لفيضان الروح وخروجها إلى الملأ الأعلى وهو ما تفرّد فيه ابن الروميّ بين شعراء زمانه بحيث كانوا يعزفون على وتيرة واحدة في البكاء والتفجّع وذكْر المناقب والسجايا الحميدة والاختتام بالحِكَم والاسترحام.. فأدخلَ ابن الروميّ جانبًا جديدًا في الرثاء، هو واقعيّة الحدَث وحسّـيّتُه، عبر تصوير مشهد الاحتضار شيئًا فشيئًا. ولعلّ ما عبّر عنه من واقعيّة يفوق ما ذكره الذاكرون عن سكرات الموت وما بعد الموت والحياة، لأنّنا هنا مع تجسيدٍ حيٍّ لهذا المشهد الماورائيّ اللغز".
ويلاحَظ أنّ ابن الروميّ هنا، في تصويره لتلك اللحظات الحرجة، يتوسّل صورًا بيانيّة تشبيهيّة، فيها يجعل اصفرارَ الجسد النازف زعفرانًا، واحمرارَ البشرة المعافاة وردًا جوريًّا أحمر، وتراخِيَ الجسد المشْرِف على الفناء ذبولاً سريعًا يعتري غصنًا من الغار (النبت المعروف بسرعة ذبوله بُعَيْدَ قصفه، وبطيب رائحته)، وتَهاوِيَ النفوس الحزينة كتهاوي الدُّرَر من عِقْدٍ غير معقود.
ومن الجدير بالإشارة أنّ الشعراء قبل ابن الروميّ ما كانوا يتطرّقون إلى تصوير تلك اللحظات المحمَّلة بالألم والأسى الشديد، بل ربّما كانوا يمتنعون عن التطرّق إليها لِمَا تنطوي عليه من حميميّة وخصوصيّة. أمّا ابن الروميّ، فربّما عمدَ إلى هذا عوضًا عن المديح أو ذكْر مآثر المرثيّ؛ وذلك أنّ المرثيّ حين رحل لم يكن له من العمر سوى بضعة أعوام (أربعة أو خمسة على ما يبدو -كما يذكر عبّاس محمود العقّاد في كتابه "ابن الروميّ -حياته في شعره") لم تُتِح لمن عاشها أن تكتمل شخصيّته وتتّضح خصالُه فيُمدَح بها. ومن الأمور التي حاول بها الشاعر أن يعوّض عن هذا المديح (الذي يتضمّنه -في المعتاد- شعرُ الرثاء) رثاؤُه الآمالَ الضائعةَ، وذلك بقوله:
"لقد أنجزتْ فيه المنايا وعيدَها وأخلفَتِ الآمالُ ما كان مِن وعْدِ"
حيث يشكو قسوة الموت المتوعِّد، ويتحسّر لانحسار أو انهيار الآمال الواعدة؛ إذ كان الطفلُ مَناط أمل لوالده، وكان الأب عاقدًا آماله الشخصيّة على ابنه المتّسم بالنجابة -استنادًا إلى ما عبّر عنه في قوله:
"على حين شِمْتُ الخيرَ مِن لَمَحاتِهِ وآنستُ مِن أفعالِهِ آيـةَ الرشْـدِ"
يُضاف إلى رثاء الآمال الضائعة رثاءُ الذات لِلذّات في قوله:
"وأنتَ وإنْ أُفْرِدتَ في دار وَحشةٍ فإنّي بدار الأُنْسِ في وَحشة الفَرْدِ"
حيث "يرثي نفسَهُ ويصوّر وَحشته المضاعَفة" (خليل شرف الدين، الموسوعة الأدبيّة الميسّرة). فهنا تبدو الدنيا كلّها في عينَيِ الأب الثاكل قبرًا كبيرًا مُوحِشًا، فلا يجد فيها ما يعزّي وما يُلهي. هكذا يغدو الحيُّ ميتًا، رغم الهواء الذي يملأ صدره والدماء السارية في عروقه، ورغم المؤنِسات المفترَضة المحيطة به، فيتساوى مَن تحت التراب بِمَن فوق التراب. وقبلذاك، وعلى نحوٍ يُداني هذا المعنى، كان الشاعر قد عبّر عن إحساسه بالثكل المضاعَف، حين قال:
"ثكلتُ سروري كلَّـهُ إذْ ثكلتُـهُ وأصبحتُ في لذّاتِ عيشي أخا زُهْدِ"
ففقدان الابن ليس ككلّ فقدان، إذ لا مجال فيه للنسيان، ولا مجال للتعزّي والتصبُّر. الشاعر يزهد كلَّ الزهد بمباهج الدنيا بعد غياب ابنه، ولا يجد أيَّ أثر أو احتمال لاجتناء أيّ من مسرّات الحياة.

تـجـديـدٌ آخَـر
وممّا يُنسَب إلى ابن الرومي باعتباره جديدًا أو تجديدًا تقصّي المعاني، حيث يلاحِق الشاعرُ المعنى الواحدَ فيَسْتوفيه تحليلاً وتفصيلاً وتمثيلاً، كالذي نجده في قوله:
"وأولادُنـا مثلُ الـجوارحِ أيُّهـا فقدناهُ كـان الفـاجعَ البَيِّنَ الفَـقْدِ
لِكلٍّ مكـانٌ لا يَسُـدُّ اختلالَـهُ مكانُ أخيه في جَـزوعٍ ولا جَـلْـدِ
هلِ العينُ بَعْدَ السمْع تكفي مكانَهُ أَمِ السمْعُ بعدَ العينِ يَهدي كما تَهدي؟!"
ومضمون الأبيات الثلاثة هذه يقوم على فكرة التكامُل بين الأبناء، من حيث كوْنهم أعزّاءَ لا يُغْني أيٌّ منهم عن سواه ولا يقوم مقامَه. ولأداء هذا المعنى، توسَّلَ الشاعرُ صورةً تشبيهيّة يبدو فيها الأبناء كأعضاء الجسد، إنْ فُقِدَ أحدها كان النقص فادحًا لا يعوَّض. لا يكتفي الشاعر بطرح هذه الفكرة موجَزةً، كما عبّر عنها من خلال أوّل هذه الأبيات الثلاثة، بل تجده يوضّحها في البيت الثاني مشيرًا في الآن ذاته إلى عجْز أيّ ثاكل عن تحمُّل الثكْل، سواء أكان هذا (الثاكل) متّصفًا بالجَلَد أم بالجزع. ثمّ يأتي باستفهام بلاغيّ إنكاريّ، في البيت الثالث، ضاربًا من خلاله مثالاً من أعضاء جسم الإنسان (وهي نموذجيّة من حيث التكامل)، فيختار العينَ والأذنَ ليُثبتَ أنّ الأصمّ -مَهْما تطوّرت حاسّة البصر لديه- لا يمكن لعينيه أن تؤدّيا وظيفة الأذنين فتلتقطا المسموعات، وأنّ الكفيف -مَهْما تطوّرت لديه حاسّة السمَع- لا يمكن لمِسْمَعَيْهِ أن يَكُونا نافذةً كافيةَ الاتّساع يُطِلّ عَبْرهما على المرئيّات.
وفي مَوْضع آخر نجد الأمر نفسه؛ فبعد إشارته إلى اللوم الذي يأتيه من المُعَزِّين المُعِزِّين، لشدّة ما يُظهره من الحزن، وتأكيده (بحرفَيْ توكيد متقاربَيْن هما "إنّ" واللام المزحلقة) أنّ الخفيّ أضعاف الجليّ:
"أُلامُ لِما أبدي عليكَ من الأسى وإنّي لأُخْفي منه أضعافَ ما أُبدي"
بعد هذا يقول -معبِّرًا عن أنّ العاطفة الأبويّة تأبى العزاءَ أيًّا كان-:
"محمّدُ، مـا شيءٌ تُوُهِّمِ سَلوةً لقلبيَ إلاّ زادَ قلبي مـن الوَجْـدِ
أرى أخَـوَيْكَ الباقيَيْنِ فإنّمـا يكونان للأحزان أَوْرَى من الزَّنْدِ
إذا لعبـا في ملعبٍ لك لذَّعـا فؤادي بمثل النار عن غير ما قصْدِ
فَما فيهما لي سَلـوةٌ بل حزازةٌ يَهيجانِها دوني وأشقى بها وحدي"
فكما فعل في البيت الأوّل من الموضع السابق ("وأولادنا مثل الجوارح"...)، هنا كذلك في البيت الأوّل من هذه الأربعة ("محمّدُ، مـا شيءٌ"...)، بعد أن يخاطب ابنه مناديًا إيّاه بِاسمِهِ مستغنيًا عن أداة النداء (وربّما عبّر هذا الحذف لـِ "يا" الندائيّة عن قرب ابنه إليه أو إحساسه بهذا القرب -إذ لا حاجز بينهما في هذه اللحظة التعبيريّة الوجدانيّة-، وربّما كان النداء ذاته والخطابُ بعامّةٍ تعبيرًا عن محاولة عبثيّة عاجزة لإحياء المرثيّ، كما يرى خليل شرف الدين في "الموسوعة الأدبيّة الميسّرة")، هنا يعبّر بإيجاز وتعميم عن فكرةٍ مُفادُها أنّ المعَزِّين واهمون، فكلّ ما يخالونه من عوامل التعزية له هو -في واقع الحال- يحمل مزيدًا من الأسى والحزن لابن الروميّ. ثمّ ينتقل من التعميم إلى التخصيص، فيضرب مثالاً حيًّا على قسوة الموت الذي سبّب له كلّ هذه المقادير من الحزن القاتل. يتلخّص هذا المثال في وجود ابنيه أخوَيِ الراحل أو في مَرآهما؛ إذ يَظنّ المعَزُّون أنّ وجود الابنيْنِ قادر على بَلْسَمة جراح والدهما، فإذا الأمر ينطوي على مفارَقة مأسويّة، فتأتي النتيجة على عكس المتوقَّع، إذ إنّ الوجود في هذه الحالة يذكّر بالعدم. حضورهما يذكّره بغياب مَن كان ثالثًا لهما. ويسترسل الشاعر قليلاً في هذا الشأن، فيذكر لَهْوَهما في أماكن كان من المألوف أن يلهُوَا فيها بصحبة أخيهما، وما يثيره هذا في قلب الأب من أشواق واحتراق. والشاعر "يتطرّف" في إعطاء المثال، ضامنًا بذلك أن يتضمّن كلامُه هذا كلَّ ما يُفترَض أو يُتَوَهَّم أنّه قادر على توفير التعزية للأب الثاكل، إذ إنّ الولدين المتبقّيين هما -بمجرّد وجودهما- أكثر ما يمكن أن يعزِّي، ورغم ذلك لا يستطيع هذا الوجودُ أن يُنَحّيَ العدمَ ولا أن يقدّم ما يُسْلي؛ ومن هنا فمن الواضح أنّ العزاء أمنيةٌ نائيةٌ عصيّةٌ.
هذا التقصّي للمعاني له تأثيران اثنان على النصّ:
أوّلهما: أنّه يساهم في خلق وحدة وترابط بين الأبيات. وتجدر الإشارة إلى أنّه في القصيدة بعامّةٍ وحدةٌ موضوعيّة جليّة، إذ يبدأها الشاعر بذِكْر البكاء وسببه، ثمّ ينتقل إلى وصف حلول الموت وأثر ذلك في النفس، وتأثير المُصاب في حاضر الشاعر.
ثانيهما: أنّه يجعل عبارات النصّ مباشِرةً ضعيفةَ الإيحاء شديدةَ الوضوح قريبةً إلى النثر. بهذا تبدو القصيدة إطارًا تجتمع أو تتجاور فيه كلٌّ من العاطفة (وهي عاطفة أب ثاكل منكسر إلى حدّ الانسحاق)، والعقل أو النزعة العقلانيّة التي من خلالها تُعَقْلَنُ العواطفُ، فتغدو بعض الأبيات ذاتَ نُزوعٍ إلى اعتماد المنطق الفلسفيّ التأمّليّ.
وُجود هذا التقصّي، الذي يشير إلى حالة من التأمّل الفكريّ، حيث يمضي عقل الشاعر في إيراد الآراء ابتغاءَ التعزّي وإيجاد متنفَّسٍ ما، هذا الوجودُ قد يدعم رأيَ مَن يفترضون أنّ هذه القصيدة لم تُنظَم أو لم تتكامل إلاّ بعد مرور فترة غير وجيزة على رحيل الابن، وذلك أنّ الدخول في مجال المعاني وتقصّيها يستوجب إِعمالَ العقل، وهذا يتطلّب الدخولَ في حالة من صفاء الذهن، وهذا الصفاء لا يتأتّى -في المعتاد- إلاّ بعد انقضاء الأثر المباشر لحدث الفقدان. وممّا قد يدعم هذا الاستنتاجَ أو الافتراضَ ذاك الترابطُ وتلك الوحدةُ الموضوعيّةُ اللذان يُلحَظان حين يُنظَر إلى النصّ بأكمله، إضافة إلى الكثرة النسبيّة لاستخدام جناس الصدارة ("لقد قلَّ"...؛ "وإنّي وإن"...؛ "أُلامُ لِما"...؛ "فما فيهما"...؛ "وأنتَ وإنْ"...)، بافتراض أنّ وفرة التجنيس قد يصحّ اعتبارها مؤشّرًا أو دليلاً على ابتعادٍ ما عن الطبْعيّة أو العفويّة.
كذلك قد يدعم هذا الافتراضَ لجوءُ الشاعر إلى استخدام الحكمة في بعض مواضع القصيدة (كما في: "وأولادنا مثل الجوارح"...؛ "بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي"). استخدامه للحكمة يتساوق مع التأمّل الفكريّ الذي أوردناه أعلاه، بل هو ثمرة لهذا التأمّل. من زاوية أخرى، يمكن اعتبار لجوء الشاعر إلى استخدام الحِكَم في هذا المقام من قَبيل الإقرار العزائيّ، فيه يغدو المعزِّي والمعزَّى طرفًا واحدًا (والمقصود أنّ الشاعر هنا يعزّي نفسه بنفسه، فتتولّد من ذلك حالة من التنفيس تقوم على التسليم والاستسلام).
من ناحية أخرى، هذا التقصّي -القائم على التحليل المنطقيّ المفصّل للفكرة- ثمّة مَن يَعْزوه إلى الانتماء الآريّ للشاعر (فهو روميّ الأصل)، بادّعاءٍ يَفترض أنّ الشعوب الآريّة قد سبقت شعوبَ الشرق في مضمار الفلسفة، وأنّ الشاعر العربيّ يكتفي (في الغالب) بالإشارة السريعة أو التلميح إلى الفكرة، ولا يخوض في تحليلها.


hajhanna@gmail.com

ملاحظة: ننشر هذه المادّة هنا، بالتنسيق مع كاتبها، نقلاً عن موقع مدرسة مار إلياس الثانويّة في عبلّين: www.mechs.org

التعليقات