حب فلسطيني اسرائيلي أم أغنية للاغتصاب؟

-

حب فلسطيني اسرائيلي أم أغنية للاغتصاب؟
المتوكل طه



لم يفاجئني أن يقوم هاوي فلسطيني من هواة الغناء بمشاركة مُغن اسرائيلي أداء أغنية عربية ـ اسرائيلية ، ذلك لأن طوفان الفعل المشترك فاض ووصل الي الروح، ولأن الاحتلال لم يكتف بوضع حدّ لحراكنا الخارجي، بل يسعي الآن للوصول الي التحكم في مرجعيات تحركاتنا. لكنّ ما يفاجئني أن الفعاليات الثقافية والاعلامية الفلسطينية تعاطت بـ ايجابية عجيبة وبصمت جارح مع هذا الحدث الفني المقيت، فلم نسمع تعليقاً لائقاً من جهابذة ورموز الثقافة والفكر والنقابات الفنية الفلسطينية، بل راح بعض مسؤولي صوت فلسطين اذاعتنا الوطنية يرحّب بهذا الاجتراح الساحر واعتبره دليلاً علي أننا نحب السلام ! وهذا هو دليلنا: الأغنية! متناسياً أن الاذاعة الفلسطينية التي بثت هذه الأغنية الممضة هي الاذاعة نفسها التي دكتها طائرات الاحتلال! وهذا من عجائبنا الفلسطينية في التسامح المهزوم، وفي الادعاء الساذج.
ولعل أحداً يستنكر مداخلتي هذه واثارتي لأمرٍ لا يستحق التعليق عليه! لكني أقول ان ما حدث جريمة تطبيعية ينبغي تعريتها والتصدي لها والتنديد بها ووضع الكوابح الكافية لمنع تكرارها أو تكرار شبيهها، وذلك للأسباب التالية:

1 ـ ان توقيت صُنع هذه الأغنية المسخرة وبثّها تم أيام عيد البوريم المساخر اليهودي - وهو توقيت غير مقصود بالتأكيد -، لكن صدفة الضرورة شاءت أن يكون في هذا الوقت الذي يدل علي كمية المسخرة السوداء التي تنضح بما تقوم به حكومة الاحتلال من استيطان واغلاق وتجويع وتهويد واعتقال وبناء السور العنصري.. الخ، في الحين الذي يمتلئ به المشهد الفلسطيني بمسخرة اللامبالاة والميوعة، وأن كل شيء في حياتنا مستباح من الألف الي الياء.. وفي ظل هذه المساخر يتغنّي البعض بالمحبة والسلام، والذي نبحث عنه، بل وغير موجود أصلاً بسبب اختطافه من قبل حكومة شارون، وطرح الموت بدلاً منه، فكيف نصدق أغنية المحبة والسلام ونكذّب كل هذا الموت الأحمر والاستيطان المهول؟ ولو أن ثمة سلاماً وهدوءاً وانفتاحاً وأمناً وعملاً وسلامة ومحبة.. فلا بأس أن ننشد هذا السلام ليكبر ويبقي.. ولكن؟!

2 ـ ان بث الأغنية المشتركة من قبل اذاعة جيش الاحتلال يقدّم مفارقة لا يمكن استيعابها، فكيف يصدر عن بوق الجيش الاحتلالي غير الرصاص والدم والكراهية؟ ألا يوجد اذاعة أخري تحمل نغمات السلام والمحبة بين الشعبين، والتي لم نرها ولم نسمع بها، ولم يهل علينا من نعمها غير الدفن والسجون والأسوار واليُتم والفجائع والحسرات، وأن النعمة الوحيدة المتوفرة هي نعمة السيّد المتحكم باعطاء الموت البطيء للعبد السجين! بمعني أن عمل أغنية مشتركة يستوجب النديّة والمساواة بين الطرفين، لا أن تكون العلاقة هي علاقة جلاد وضحية، عدا عن أن السيد القوي لا يحاور، بل يفرض شروطه وبقوة الجرافات والمركافاة والأباتشي و(الاف 16)، وان بث هذه الأغنية المشتركة هو تلويث للروح الفلسطينية لأن الايقاع السائد هو ايقاع أوركسترا البنادق والدبابات والهدم والدهم والقلع، ولا متسع لهذا الصوت الباهت وسط ضجيج الابتلاع والبناء الأسود والسكاكين والقضبان.

3 ـ ماذا كان سيفعل المثقفون والفنانون والمسؤولون (أصحاب المعالي والعطوفة) الفلسطينيون لو قام مغن مصري أو أردني أو تونسي بهذه الفضيحة وغنّي مع مغن اسرائيلي؟ هل سنقبل ذلك ونعتبره حلالاً زلالاً أم سنتّهم الأشقاء بأنهم يطبّعون مع الاحتلال ويبيعون البلاد عرضاً وطولاً؟! بل هل فعلها أيّ مصري أو أردني أو صومالي ـ حاشاهم ـ، حتي نفعلها نحن (أصحاب الشأن).. ألم يحن وقت الخجل؟!

4 ـ لو أن أحد المتشدّقين الفلسطينيين ردّ علينا بقوله: اننا نشارك كتلة السلام الاسرائيلية هذه الفعاليات، لمواجهةِ المتطرفين الاسرائيليين.. فماذا سنردّ عليه؟ سنقول: اننا نعتبر أي اسرائيلي متطرفاً مُحتلاً ومعتدياً ما دام يركب فرس اليمين الاسرائيلي المتطرف عندما يحين وقت الحديث حول قضايا القدس واللاجئين والاستيطان. بمعني أن الاسرائيلي يعتبر محبّاً للسلام وداعماً له عندما يعترف لنا بأن القدس عاصمة دولتنا الفلسطينية، وأن من حق اللاجئين الفلسطينيين أن يعودوا الي وطنهم الأول، وأنه ينبغي تفكيك آخر بيت من المستوطنات واقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة.. فهل ثمة اسرائيلي يؤمن بذلك ويقرّ معنا بهذه الحقوق والثوابت المشروعة؟! أم أنهم يكتفون باحتجاجات موسمية تخص قضايا ثانوية تتعلق بجوانب حياتنا اليومية، وليظهروا للعالم بأنهم دعاة سلام؟!

5 ـ وربما يقول آخر: ان ثمة اتفاقات وتفاوضاً بين الاسرائيليين والفلسطينيين، فما المانع من الاشتراك في أغنية ؟ نقول له: ان المفاوض السياسي محكوم بموازين قوي مرحلية، ومحكوم بنظرية الممكن وغير الممكن، وهو انسان يبحث عن المُتاح والمتوفر ضمن أقل الخسائر، لكنّ المثقف والفنان والشاعر والأكاديمي والمعلّم والخطيب والاعلامي غير محكومين بذلك، بل مهمتهم تكمن في تأكيدهم علي الثوابت والحقوق الكاملة، وعليهم أن يحرسوا المبادئ الكبري والأحلام. وليس علي المثقف الحقيقي أن يكون بوقاً أو مبرراً للسياسي أو تابعاً له، بل علي المثقف أن يوجد في نسيج مجتمعه ما يحقق الكوابح القادرة علي الحدّ من الهرولة والمجانيّة والتبديد، وصبّ كل مضامينه لتأصيل مدارك الأجيال الطالعة، وبهذا المعني فان السياسي الجيد هو الذي يقترب أكثر من المثقف، وبهذا المعني، أيضاً، فان المستوي السياسي بريء من وزر سقوط المثقف في دائرته، ما دام المثقف نفسه استمرأ أن يكون في تلك الدائرة التي هي ليست له أصلاً، بل عليه أن يرفض الانجرار ليكون جزءاً منها.

6 ـ ان كل نتاج أو مولود يحتاج الي مناخ صحي لينمو بعافية ويكبر طبيعياً دون أدران أو اختلال، ونسأل: هل المناخ المتوفر الآن هو مناخ محبّة وسلام أم مناخ سفاح وجنون ودمار؟ أليس الاحتلال الاسرائيلي هو المسؤول الأول والأخير عن هذا المناخ المواتي لمواصلة دائرة العنف والارهاب؟ أليس علي الأغنية أن توجّه كلماتها للجندي القاتل لكي يعود من حيث أتي، وللجرّافة لكي تكف عن اقتلاع الأشجار عن عرشها الأبدي ؟ أيّ ايهام وتزوير هذا الذي يُشاع كرهاً وقسراً؟!
ان الورشة الواسعة هائلة الامكانات التي تعمل باستراتيجية حاسمة من جنين الي رفح، والتي تسعي لتغيير الوعي الفلسطيني.. لم تتوقف، بل ان هذه الأغنية المشتركة بعض تجلياتها وآلياتها، وان ثقافة السلام و مكتبة السلام والنشاطات الرياضية والشبابية المشتركة وتغيير المناهج المدرسية، وتكميم أفواه الخطباء، وعقد المؤتمرات والندوات حول الديمقراطيات والتعددية والجندر والحقوق المدنية ما هي، في معظمها، الا أشكال حداثية مفضوحة لبث ثقافة جديدة هجينة فينا، لنصل الي العدمية والاستلاب والخنوع، ولتغريبنا عن مضامين ثقافتنا الأصيلة.. فهل من مجيب؟!

ظل أن أشير الي أننا مع المحبة والسلام ووقف التحريض ضدنا، عندما نشعر بالمحبة ونعيش السلام ونحظي بحياة لا تحريض فيها، وأعني الاحتلال، وعندما أحسّ بأنني آدمي يحظي بامكانية أن يعيش كما يعيش البشر... فعندها سأنادي بأعلي صوتي للتعايش وللتطبيع وللسلام... فارحمونا من هذا الهراء وهذه العمالة المقنّعة وهذا التكاذب المعطوب العاري، والبعيد عن البهجة والحقيقة والحقوق.

التعليقات