"حبّ في منطقة الظلّ" لعزمي بشارة: الحياة كرواية/ أنطوان شلحت

-

لا "يصنع" عزمي بشارة، في عمله الروائي الجديد "حبّ في منطقة الظلّ" (رواية شظايا مكان)، الصادر أخيرًا في طبعتين فلسطينية وعربية، وهو العمل الروائي الثاني له بعد "الحاجز" (شظايا رواية)، تشظية للمكان الذي يكتب عنه، فإن المكان نفسه متشظ أصلاً و"منطقة الظل" التي تستهويه حتى في سبيل إشهار الحبّ هي إحدى نتائج هذه التشظية، غير الخافي أنها بفعل فاعل معروف لا مقدّر بضمير مستتر أو خلافه، وبالتالي فهي سرعان ما تجعل المكان المجرّد واشيًا بمكان محدّد، جغرافيًا وإبستمولوجيًا. أما هوية ذلك الفاعل المرفوع فهي مسألة لا يجوز توصيفها بأن "فيها نظر"، كما أنه لا يجوز تأويلها، وذلك لمجرّد أن الكاتب يوظّف في الإلماح إليها العديد من الدلالات الخفية في علاقة القاهر بالمقهور، في جهة وفي علاقة المقهور بذاته المتشظية إلى ظلال تكاد أن تضبّب الذات نفسها، في جهة أخرى، موازية ومكملة.

ولم يكن اختياري أن استعمل مفردة "يصنع" اختيارًا عشوائيًا. فإذا كانت الكتابة، في عرفها المنطقي الشائع والمتداول، هي فعل إراديّ فان هذا الفعل يحيل، أكثر شيء، لدى إبداع الأدب إلى الصنعة الأدبية فضلاً عن معايشة عمق الظاهرة- موضوع الكتابة.

وفي واقع الحال فقد اشتغل عزمي بشارة كثيرًا على الشكل الفني للكتابة- وبشكل خاص الرواية. وقد حقّق خلال هذا الاشتغال منجزات عدّة يشار إليها بالبنان. والتركيز عليه كـ"داعية سياسي"، كما لا ينفك البعض يفعل لغاية قميئة في نفس يعقوب، يتساوى مع محاولات لم تتوقف لاغتيال فنيّة مشروعه، التي هي آصرة عضوية في الجسد المتكامل لإبداعه المستمر والمتميّز والمتنوّع.

ولا أظنني أبالغ حين أقول إن بشارة في عمليه الأدبيين يهجس أساسًا بـ"تقطير" مفاعيل التشظية في الكينونة الفلسطينية العامة إلى جوار الهجس الفنيّ بـ"صناعة" التشظية نفسها، إذا جاز التعبير. وقد أتى العملان بمثابة إرهاص بذلك. ولئن بدا "الحاجز" حاملاً لهاجس تشظية الرواية، عن وعي تام من جانب كاتبها، فإن كتاب "حبّ في منطقة الظلّ" قد ارتفع إلى مصاف الرواية بمعاييرها المتعارفة كي يستوعب شظايا المكان، أو كي يجعلنا نستوعب شظايا المكان في واقعنا المعيش في إطار قالب وسّده بما تملك ملكته الأدبية والفكرية الثرّة.

بيد أنه في هذا العمل الرائع قفز الكاتب إلى الأمام وإلى العلو قفزة كبيرة في المعلوم، وهذه خصيصة تسجّل له لا عليه. ويصعب عليّ القول إن هذه القفزة مهدّت لها لغة القصّ فقط، فلقد أثبت بشارة في إهاب الروائي قدرة مخصوصة على تطويع اللغة وعلى استثمار جماليتها الأخاذة منذ عمله السابق. إنما مهدّت لهذه القفزة، ضمن أمور أخرى، فنيّة القصّ، ولا أقول تقنيته، وهو ماض قدمًا على يد صاحبه في سرد الحياة بعد تجريدها كرواية من لحم ودم، من حبر وحروف ومفردات.

إن الحياة المسرودة كرواية هنا هي حياتنا في الداخل الفلسطيني من زواياها المختلفة. وبشكل عام يكتب بشارة الروائي، في هذا العمل، عن المكان وعن العلاقة بينه وبين البشر. ويكتب أيضًا عن العلاقة بين الرصيف والشجرة، بين الحاسوب والطيور. وعدا ذلك يكتب أيضًا عن الكثير من العلائق الغرائبية التي توحي بها حالات عبثية، حمّالة أوجه، يفرزها الواقع ومن الصعب حصرها. لكن الأمر الأهم يظل أنه، عبر هذا كله، يخلق حالة وجدانية كاملة (هل قلت حالة؟ بل هي حالات عديدة ومتشابكة)، ومن ثمّ ينقلها بتفاصيلها الممتعة إلى القارئ، عادة من دون اللجوء فقط إلى الحلول الأدبية المعتادة في الرواية الفلسطينية والعربية، من وصف وتشبيه واستعارة، وبواسطة حدّ أقصى من توظيف الديالوج والحوار الداخلي الذي يندّ عن العمق النفساني للحالات والشخوص. وفي حقيقة الأمر فإن كتابة عزمي بشارة تثير تبعًا لذلك جملة من التساؤلات المهمة. وإن مردّ ذلك هو كون هذه الكتابات تزخم ببساطة مذهلة، وتفرض التساؤل عن الشكل الروائي والقصصي وأساليب السرد السلسة، التي يمكن القول الآن مع صدور عمله الروائي الثاني هذا إنها تُعَدّ سمة من سمات نصوصه. وبشارة، الذي يمتلك رؤية دقيقة للعالم وعينًا لاقطة تمكّنه من تحويل أي مشهد بصري إلى كيان متحرّك عبر الأوراق، يبث بجوار العبث والمفارقة والسخرية السوداء والمحاكاة الساخرة (باروديا)، حميمية علاقته مع الناس والأمكنة. إنها كتابة مكثفة محمّلة بمشاهد أشبه ببورتريهات متناسقة، تمكّن الكاتب من انتقائها والبناء عليها ببصمة مميزة لا تخطئها العين القارئة والناقدة.

سأتناول فيما يلي رواية "حبّ في منطقة الظلّ" بصورة عامة، إذ أن تناولها تفصيليًا يحتاج إلى مساحة أوسع مما تتيحه صفحات الجرائد.

(*) المكان والزمان والبشر: ثمة حيّز كبير في هذا العمل لعنصر بناء المكان المارّ ذكره، وأحسب أن بشارة يفعل ذلك عبر تفنين جوانب من السيرة الذاتية أو عبر تصعيد هذه الجوانب من السيرة الذاتية، بكفاءة لافتة، إلى مستوى الأثر الأدبي. ولهذا يغدو إدراكه للمكان تأكيدًا على الوجود- وجوده ووجودنا- بأبعاد يستحيل قياسها، في منطقة قد تقع بين الوعي والحلم، ولكنها تقع حتمًا "في القلب مما نسميه الحياة أو الكينونة البشرية، كما أنها في القلب من التجربة التاريخية نفسها"، حسبما يقول جبرا إبراهيم جبرا.
ويتمفصل هذا المكان على محور الزمان، ليس المستنقع وإنما الزمان بماضيه الذي مضى دون أن ينقضي وبحاضره القائم. يتساءل الكاتب: "كيف نجح حاضر البلاد في تغريبنا عن ماضيها بعد أن كسا هذا الماضي بزيّه الرسمي؟". ثم لا يلبث أن يجيب: "يمكن تحويل كل شيء إلى قومي أو إلى جزء من الأمة إلا الناس الباقين في المكان الذين يذكّرون بتاريخ آخر، كما يذكّرون بالواقع في بلاد الحواجز الواقعة وراء الحواجز. إنهم يذكّرون بزمان آخر لهذا المكان، وبمكان آخر في هذا الزمان". وهكذا ينفتح حيّز المكان لحيّز آخر، ليس أقل سعة أو أهمية، هو حيّز البشر، الذين يشكّلون في الآن ذاته لحمة هذا العمل وسداه. في الوقت ذاته فإن الكلمات المقبوسة من الرواية أعلاه تقطع أي شك، يمكن أن يعتور القارىء، باليقين أن الكاتب لا يطرح أسئلة يجهل الأجوبة عليها، وإنما يتعدى ذلك لحفز عقل هذا القارىء على الاستغراق في التفكير الذي يستجرّه مجرّد طرح السؤال ناهيك عن محتواه.

(*) الأثر التغريبي: يشكّل الاهتمام الذي يوليه عزمي بشارة إلى القارىء جزءاً عضوياً من جميع كتاباته النظرية. ولعلّ الغاية الجوهرية لهذا تتحدّد في جعل التلقي عملية واعية، وليس انفعالاً مجرّدًا. وربما يحتاج هذا الأمر إلى دراسة منفصلة، لكن في نصوص هذه الرواية ما يشفّ عن أثر تغريبي يهدف، فيما يهدف، إلى إثارة وعي القارىء بغرابة واقعه الاجتماعي وتناقضه، الذي يعريه النصّ، وإلى إثارة رغبته في تغيير هذا الواقع تغييراً جذرياً حتى يستقيم (القارىء بالأساس) مرةً أخرى.

(*) العبث سيّد الموقف: التوصيف أعلاه للمكان على محور الزمان يهيئ المناخ الروائي لسيل جارف من المواقف العبثية، التي يبدي الكاتب دراية كبيرة في تعريضنا لها بمداليلها الباعثة على التفكير، على امتداد صفحات الرواية كافتها. وبطبيعة الحال ترتبط بعض هذه المواقف العبثية، إن لم يكن معظمها، بسلوك البشر أو ظلال البشر أنفسهم. لكن بشارة يتعامل مع العبث كمجرّد حجة لطرح رؤياه الفلسفية، فهو يغيّر الوقائع وصور الأشخاص وفق مبدأ اللعب الحر بالأشكال والمفاهيم القائمة على عنصر التأمل فحسب. والنتيجة التي يوصلنا إليها أو يكاد هي أن المشكلة ليست في التكنيك فحسب بل وأيضًا في نماذج بشرية هي أكبر العوامل غير الموثوق بها.. وخلال ذلك كله فإنه يمزج الأجواء القاتمة بأخرى أكثر سخرية، بل يدفعها صوب الصنف الكوميدي.

(*) السارد كذات واحدة: السارد في "حبّ في منطقة الظلّ" هو ذات واحدة، بالرغم عن تعدد المواقف والتجارب. مصدر ذلك هو التحدي، فهو يتحدى كل ما يقف حائلاً بينه وبين إثبات ذاته وتوطيد معرفتها بالحياة. وإن ما عاشه وتحداه يتصل بعديد المجالات. وكل واحد من هذه المجالات يكتشفه مشوّهاً ويعيش علائقه من زاوية مقلوبة. مع ذلك لا يشعر القارىء في نهاية المطاف بأن هناك أشياء عجز الكاتب عن أن يمسك بها أو عن أن ينقلها.

يكرث بشارة تصوير الحاضر كما نعيشه دون تحوير. ومن هنا كان صدقه المتناهي في عرض هذا الحاضر كما هو، من غير تفلسف أو ادعاء، ومن غير رغبة في أن يستخلص منه الدروس أو أن يستقي منه العبر. لكن نفي التفلسف من ظاهر الكتابة لا يعني غياب أي تصور أو رؤية فلسفية عن أفقها.. والحقّ أن جرعة هذه الفلسفة ازدادت في هذا العمل الروائي الثاني، لأن الذات الروائية هنا أعمق خبرة ومعرفة من تلك التي أطلت علينا في العمل الأول.

ومثل هذا التصوير يتوافر على ما يمكن اعتباره "دعوة مزدوجة". إنها دعوة، من جهة، إلى أن نتخلى عن جهلنا أو تجاهلنا لواقع يملأه الصدأ والبثور. ومن أخرى دعوة لأن نلعب ورقة الكينونة ضد انتهازية "ما يجب أن يكون"... . فالكينونة برغائبها وعلائقها المادية والنفسانية واشتهاءاتها هي أيضاً من العناصر الأساسية التي ستسعفنا في إزالة الغشاوة ومدّ الجسور لمصالحة الذات والآخرين.


أخيرًا أكرّر عن "حبّ في منطقة الظلّ" ما قلته عند تناولي لرواية "الحاجز":

كتابة عزمي بشارة الأدبية هي أداة جميلة للمعرفة والمتعة. وفي هذه الحالة ينسحب إكساب المعرفة والمتعة، وأيضًا اكتسابهما، على الكاتب والقارىء معًا. لدى قراءة نصّ بشارة الروائي تتوالد حالة ينضفر فيها الوعي بالعالم مع الجوهر المرغوب للعلاقة بالمجتمع، علاقة تتمثل آيتها في أنك منبثق من هذا المجتمع لا في أنك مجرّد مضاف إليه. وبذا يتم اختزال الطريق، في مسار مخاطبة الوعي، بين ما هو قائم ويوشك أن يصبح قارًّا وبين الدلالات المضادة التي تستدعي كلّ من يتشبث بها. ومثل تلك المهمة أشكّ (نعم أشكّ) في أن يكون غير عزمي بشارة مقدورًا عليها، الآن وهنا، سواء في كتابته الأدبية أو في سائر كتاباته التي تتيح للذات إمكانية محاسبة ذاتها.


[ "السفير"- بيروت]

التعليقات