حول مسرحية "بياض العينين" لمسرح الميدان/ راضي شحادة*

-

حول مسرحية
هذه ليست مجرد لعبة مسرحية. هذا ليس تمثيلا فحسب. انها شرائح واقعية من بشر من لحم ودم يعيشون في اسرائيل ويتفاعلون مع بعض عربا ويهودا، بكل كبيرة وصغيرة حتى وان كانت مصالح وانتهازية ابن ال48 تقوده الى القتل ويقف صفا واحدا الى جانب المحتلين والمستعربين.

اقول انها شرائح ولا اقول ان جميع الشرائح تتصرف هكذا، ولكن الوجع النابع من خوف كاتب المسرحية ايمن كامل اغبارية من هول ما أُلنا اليه من وضعنا الفلسطيني وما آلت اليه هويتنا المتأرجحة في هذه البلاد، جعله ينكأ الجرح من اكثر مكان مؤلم فيه، ولا تعرف في النهاية اذا ما كان ذلك سيقودك الى مزيد من الاحباط والهروب من هذا الواقع المأساوي الذي نعيشه او انه يثير التساؤلات كي يستفزنا على فهم الواقع ومن ثم نحاول ان نتلمس الاجابات لهذه الأسئلة المصيرية والوجودية.

انها المصالح الشخصية التي تقود الفرد الى التعاون مع أي طرف لكي يكسب المزيد ويحقق الربح و"النجاح" وليس مهما ان كان ذلك على حساب جثث اطفال فلسطين المجهولين امام القانون الاسرائيلي الذي يجعل المحامي العربي المتصادق مع المستعربين ان يبحث عن دليل قاطع بأن بقع دم الطفل المدهوس بسيارته ما هي الا دماء كلب. انه المحامي القدير المتمكن من لعبة القانون والعبث بحياة البشر والذي يتعاون كليا مع الدولة وقوانينها ويستغلها لصالحه حتى وان كانت دفاعا عن اراضي مصادرة، فيتحايل على القانون وينسحب من جريمته كما تنسحب الشعرة من العجين..

كنا نستغرب من تآمر الكثير من الفرنسيين مع الألمان ضد شعبهم ابان الحرب العالمية الثانية، بسبب بطش الاحتلال وقوته على جعل الخوف يتسرب الى الانسان فيجعله من اجل نجاته ومصالحه ان يكون مستعدا لقتل اخيه واهله وابنائه. وها نحن اليوم نتقن اللعبة احسن من الفرنسيين، بل واصبح لدينا محامون ومتعلمون يقومون بالمهمة بشكل "قانوني" وب"فهم" وب"لباقة" ويلبسون البدلة والربطة ويأكلون بالشوكة والسكينة على اسمى طريقة "حضارية" واللحم لحم بشريّ. انها الطريقة "الكانيبالية " في تناول الطعام.

هكذا شاهدت مسرحية " بياض العينين" الانتاج الجديد لمسرح الميدان في حفل الافتتاح قبل ايام، وهكذا لفت الكاتب انتباهي الى هول المصيبة التي تجتاح بعض شرائحنا نحن عرب ال48 ولا اريد التعميم خوفا من الاجحاف او خوفا من المبالغة او تحاشيا لزرع المزيد من الاحباط في نفوسنا المحبطة من هذا الجو العام العالمي والمحلي المنحط.
هذه الجماعية في اللقاء مع الآخرين بأبهى صورة خارجية لنا مع هذا النموذج من المحامين الأنيقين ولكن الملطخة ايديهم بالدماء، والعابثة بحياة الشعوب والبشر، والتي تعكس شريحة النفعيين والمنتفعين والتسلقيين. انهم يبدون لأول وهلة جميلين جدا بمظهرهم الخارجي ولكنهم اصبحوا من الداخل قتلة وعبيدا لمؤسسة عسكرية خبيثة تسيّرهم حسب ارادتها فينصاعون لها كالكلاب المسعورة من اجل مصالح مادية فردية وطموحات شخصية تتناقض وطموحات شعبهم واهلهم. المحامي اليهودي مستعرب يقتل ويغدر الفلسطينيين، والمحامي العربي الفلسطيني ابن ال48 يتآمر على إخوته من اهل الضفة وكأنما هو صورة جديدة للاستعراب العربي المخصي من الهوية والمقتلع من الجذور.

لقد تعانقت اللعبة المسرحية مع لعبة الحياة الواقعية، وشاهدنا قوة كل ممثل وممثلة من الممثلات الثلاث والممثلين الاثنين، كل على انفراد وقوته جماعيا بين الآخرين. لقد انعكست اللعبة العبثية الجميلة باعطاء فرصة التعبير عن "فلاشباك" مهم من حياة الشخصية بان اعطى المؤلف والمخرج فرصة ان يعبر الممثل منفردا عن الطاقة الانفجارية الكامنة فيه، ولكنه في الوقت ذاته لم يفقد قوته وعنفوانه عندما كان يلعب اللعبة بشكل جماعي مع زملائه الممثلين في المشاهد الجماعية. كانت اللعبة المسرحية ملفتة للانتباه. هذه اللحظات التي يعود الفرد فيها الى نقطة ما مهمة في حياته وماضيه فنتحزّر عمّا يمكن ان يكون قد حدث له من احداث جعلته يتطور ليواجه هذا المصير الجديد الذي قُذف اليه مرغما او بكامل ارادته. كان الممثلون في هاتين المرحلتين-مرحلة الانفراد ومرحلة الجماعية- يلعبون اللعبة بشكل جميل ومقنع وحرفي.حتى اللغة المحكية لم تعد عائقا لتوصيل المبتغى للجمهور. لم يعد مهما ان كانت الشخصية تتحدث بالعامية او بالعبرية او بالعربية او بالسنسكريتية. المهم ان "اللغة" وادواتها –بالاضافة الى المحكي او المنطوق- كثيرة في المسرح توصل للجمهور المبتغى، وهذا رائع وجميل في المسرحية، فالمحامي اليهودي وزوجته تحدثا مثل باقي الشخصيات بعامية فلسطينية او فلنقل باللهجة التي يتحدث بها الممثل الذي يقوم بالدور وليس باللهجة التي تتحدث بها الشخصية اليهودية في الواقع، أي اللغة العبرية باختلاف لهجاتها. كان الهدف من استعمال الأدوات والعناصر التي تصوغ اللعبة المسرحية هو ايصال المعنى والايحاء وليس تقليد الواقع كما هو، أي لم يكن مطلوبا من الممثل العربي والممثلة العربية اللذين يقومان بدوري شخصيتين يهوديتين ان يقلدا لهجتيهما، وفي الواقع لم يبد الأمر شاذا بل مر بسلاسة وتقبلناه بشكل معقول ومقبول.

لقد التقى عبث التمثيل بعبث حياتنا الواقعية السياسية والاجتماعية، وهذا التزاوج بين العبثين جعل للّعبة المسرحية طعما خاصة فكانت الوجبة العبثية هذه مؤثرة وجميلة. الا يلفت انتباهنا لقاء عبث المضمون بعبث الشكل عندما يستفزك موضوع ساخن "وآكتوآلي" من ايامنا مثل موضوع ماذا يحدث لو نبهناكم ايها الجمهور عن ان شريحة ما من مجتمعنا ال48 تقف جنبا الى جنب في خندق واحد ضد شعبنا الفلسطيني في الضفة وغزة، وان هذه الشريحة تجد مشتركا بينها وبين الاسرائيليين اكثر من المشترك بينها وبين شعبنا الفلسطيني؟ اليس هذا عبثا؟ الا يدل ان صفة "العدو" اصبحت غير واضحة، وان هذه الشريحة يمكن ان تقتل وتتآمر وتقف في خندق واحد مع "العدو" ضد ال"عدو". اليس غريبا ان المستعربين يصبحون عربا ونصبح نحن العرب العاربة مستعربين مثلهم وننفذ مؤامراتهم ضد شعبنا؟ اليس في ذلك قمة العبث؟ لم يعد حكواتينا في تماس كهربائي مع جمهوره. اصبح كل واحد في مساحته وكل واحد يلعب لعبته على هواه. اصبحت لعبتنا عبثية انعزالية لا تماس ولا اتصال فيها فيما بيننا، بل عزلة وتشتت وضياع هوية وارتباك وضياع هدف وعبث. لم يعد الجمهور جزءا من اللعبة التي يقوم بها الممثلون.لكل عالمه .العبث في ان ينظر الممثلون الى جمهور ولكن الحقيقة المرة انهم ينظرون الى انفسهم وكأنما ينظرون في المرآة وبالتالي هم موجودون والجمهور مخفي. الممثل لا يرى الجمهور لأنك لا تستطيع ان ترى نفسك وترى الآخرين في اللحظة ذاتها. المرآة هي الجمهور ولكن الممثل لا يرى الجمهور.الممثل يعبر عن "فلاشباكاته" المهمة التي جعلته يحمل صفاته التراكمية الحالية ولكن كأنما هو يصارح نفسه ويختلي بنفسه.

ها هو مسرح العبث يعيد الجدار الرابع الذي هدمه حكواتينا والذي كان يجمعنا بشكل حميمي مع حكواتينا المخلوق الاجتماعي الحميم الحكواتي. لا تذكّرونا بالجدران، فهي في الآونة الأخيرة تزداد وتتراكم وتعلو في السماء كي تخنق البشر وتسرق منهم رؤية الشمس ونورها. موضوع الجدار والجدران هو بحد ذاته موضوع يستاهل ان نعمل عنه مسرحية اكثر عبثية من هذه.

وهكذا انتقلنا من الجماعة المتوحدة بين جمهور وممثلين في مسرح الحكواتي الشرقي الى عبث المرحلة الحالية وهي مرحلتنا التي نأخذ دورنا فيها كما اخذه الغرب بعد الحرب العالمية الثانية. الآن نمارس عبثنا الخاص.

ان النقطة الاساسية التي انطلق منها كاتب المسرحية شكّلت نقطة انطلاق قوية وجعلت مركز الدائرة الذي تدور حوله المسرحية بشكلها ومضمونها متماسكا. كيف يمكن ان يكون المحامون وهم الرمز المدافع عن القانون والعدالة هم الأداة التي تبحث عن وسائل للتسلق والانتفاع حتى وان كانوا مشاركين مع صاحب السلطة في الظلم والقتل؟ كيف يمكن ان يكون حامل لواء القانون هو القاتل؟ كيف يلتقي المحامي المستعرب القاتل مع المحامي العربي الذي يفترض انه يدافع عن المظلومين؟ سمعنا عن تآمر شرائح من الشعب الفرنسي مع الألمان النازيين ضد شعبهم وذلك اما تسلقا او خوفا من الموت، وقلنا هذا لن يحدث لنا. ايعقل ان يتآمر الشعب على نفسه؟ ولكن حالنا الآن اصعب بكثير.الشعب الفلسطيني عبارة عن شرائح مجتمعية مستغَلّة من قبل القوي الذي يتحكم بحياته اليومية وبلقمة عيشه وبطموحاته.. انها عبثية ان نصبح خلال 50 سنة لسنا نحن وهم ليسوا هم ونحن لسنا مع بعض ابناء شعب واحد. الزمن يسير بنا القهقرى. اليس في ذلك قمة العبث؟ طبعا انا هنا لا اعظ بالمزيد من الاحباط والعزلة والتشاؤم بل اعبر عمّا نقلته الى مخيلتي نفسية المسرحية بمجملها وما اثاره القائمون على العمل من مؤلف ومخرج وسائر الطاقم من تساؤلات كونية وفنية ملفتة للانتباه.

ممثلان وثلاث ممثلات -والله يكثّر من الممثلات في مسرحنا- قاموا بهذه اللعبة المسرحية بإيقاع ملفت للانتباه فكانت اللعبة العبثية على المسرح مشابهة لعبثية حياتنا الواقعية الى حد كبير.


*مسرحي وكاتب فلسطيني من المغار- الجليل.

التعليقات