رؤى المقاومة بين الحلم والواقع الفلسطيني/ سعاد جبر

قراءة تحليلية نقدية في نص " حين تكلم الموت في داخلي " للكاتبة إيمان الوزير

رؤى المقاومة بين الحلم والواقع الفلسطيني/ سعاد جبر
تكاثفت تنظيرات المفكرين في التأكيد على أن لوحة الواقع في متتاليات الأحداث اليومية ، تعبر عن مقطع جذري في ثقافة المجتمع ، ورؤاه الأيدلوجية في الحياة ، ومن هنا انطلقت النظريات في دراسة الواقع اليومي في كل ما يتجمع فيه من أحداث مألوفة وغير مألوفة ، في ظل تنظيرات فلسفية ، مستقاه من جينات لغة سيسيولوجيا الأحداث اليومية على مسرح الواقع ، وهنا تتشكل المقاربات بين سيسيولوجيا مترعة بثقافة المقاومة بكافة تعبيراتها في مقاطع يوميات الفلسطيني في الأرض المحتلة ، من جهة، وما تحمله من هموم وأحلام، من جهة أخرى. وهنا تبرز سمات نصوص الكاتبة ايمان الوزير القصصية لأنها تدور في ظل تلك التماهيات وأزقة الأحداث اليومية النازفة بالجراح والدمار، ويتناول نص " حين تكلم الموت في داخلي " منظومة حوارات نازفة لفتية يسكنون النص حياة ورفضا في الآن ذاته ، حيث تتشكل الحياة في ارتسامات أبجديات الحرية استشهادا على أبواب الحرية الحمراء وتتناثر لغات الرفض لكافة أشكال لغات الاستلاب في الواقع الفلسطيني وآهاته ، وما يعج بالدمار والوحشية الصهيونية واحتراق أوراق الطفولة على قارعة الطريق .

ويشكل نص ( حين تكلم الموت في داخلي ) سيسيولوجيا ناطقة للواقع الفلسطيني في الأرض المحتلة ، وحلم المستقبل في الشبيبة التي تشدو بثقافة المقاومة حراكا على مسرح الواقع المستلب .

ويسلط النص إضاءاته الحمراء على لوحة الدمار في الواقع الفلسطيني؛ وانبعاثها صرخة في أتون ثقافة المقاومة التي تعتلي القلوب ، وتبعث إرادتها الحديدية في النفوس نحو إثراء المقاومة بالإرادة وبذل الجسد مهرًا عاشقا للأرض والحرية ، ومساحات التطلع نحو اقتناء السلاح دفاعاً عن الأرض.

وتتشكل التركيبة البنائية للنص القصصي _ موضع الدراسة _ في ظل حوارات ثنائية متتابعة ، تجلي النقاب عن أبعاد ثقافة المقاومة ولغاتها المحكية في محاورات شبابية ، تحمل الحلم والألم معا ، وتنزف منها أمنيات حمراء ترنو نحو حرية الوطن واجتثاث كافة صور الاستلاب والإصرار على بلوغ الحلم واقعا في عوالم الحرية الحمراء .

ويبرز في النص تناغم رائع بين الصياغة الإبداعية لعنوان النص ومساحات ارتفاع وتيرة الشحنات الأنفعالية الحارة الرافضة في النص ، في ظل نهايات معبرة عن مداد حرية لا تنتهي في انتفاضة القلم المتسقة مع ديناميكيا رفض الألة والروح معا على مسرح الانتفاضة الدامية .

ويتشكل النص في ظل رؤية التصميم الكلي فيبث الفكرة العميقة للنص في ظلال التركيبة الرمزية للنص ، في ظل حورات تجمع شبيبة الوطن في شدو حالم للحرية والصمود كرامة واباء على ارض الوطن .

وانطلاقا مما سبق ، يتشكل للقارئ عبر شيفرات النص الرمزية؛ مساحات ثقافة المقاومة في النص ورؤاها التي برعت الكاتبة في تشكيلها من وراء سطور النص ، لذا فإن النص يشكل وثيقة سيسيولوجية لواقع اليوم الفلسطيني في الأرض المحتلة وما يحمل من رفض و أمل وحاضر مدمر ومستقبل حرية منشودة في أحلام الأجيال .

ولا يسعني في نهاية مطاف تلك الجولة القصصية في نصوص المبدعة إيمان الوزير إلا أن احيي إبداعها على السطور وكل لحظة وانت متتاليات إبداع لاتنتهي

-----------------------------------------------------
سعاد جبر / الأردن: كاتبة وناقدة في مجال سيكولوجيا الأدب، باحثة في مجال الدراسات التربوية والنقدية

-----------------------------------------------------لن أطيل في سرد حكايتي ...فكل ما فيها مرّ علقم تركت جراحا في قلبي قبل جسدي...كان ذلك يوم حصار المدينة ...حين أمست مدينة أشباح .. أصوات الحياة فيها دُفنت تحت ضربات الاباتشي ....لا تسألوني متى زاركم الزمهرير فقد تلاشت من ذاكرتي كل مقاييس الوقت .

ذلك اليوم كان مزمجرا اكتوت به أسراب الطيور .. وأشجار الزيتون ...وأحجار المنازل..وكانت المقاومة وحدها تجوب الطرقات ...وتعتلي صهوة الأماكن... على حين ارتعدت الأزقة من هول القصف ..تدفع بالمقاومين للاحتماء بالملاجئ ...فاختبأت أنا ورفاقي السبعة في قبو منزل في عمق المدينة

قال رفيقي الأول : آه لو كنتُ أمتلك طائرة أباتشي ..

رد الثاني بابتسامة صفراء : اِحلم ...ثم احلم ثم احلم وسجل حلمك على أرصفة المدينة ..إنها تستوعب الدماء والأشلاء والركام وحتى أحلامك أيضا !

عادت الأباتشي تخمد أصواتنا ...تعانق أنفاسنا المتصاعدة ...كان علينا أن نفكر فيما بعد ..ماذا سنفعل ؟ لم يكن التفكير بالموت يجول بخاطرنا ...رغم أنه يقبع معنا ...فقد كان تفكيرنا في فسحة طريق نمضي خلالها...شعرنا دون أن يكلم بعضنا بعضا بأن الصورايخ الأخيرة تنذرنا بضيق الحلقة واتساع فوهة البركان ..

في لحظة هدوء سبقت العاصفة ...جاء صوت ثالثنا عميقا بعمق القبو الذي يحتوينا : ما العمل يا شباب علينا أن نفكر في الخروج ..ونقارعهم وجها لوجه .

نطق صديقي أبو الهول وكنا نسميه كذلك لقلة كلامه: وجها لوجه ! وهل لهؤلاء وجه نراه ..هم إما خلف دبابة أو خلف أباتشي ...

رفع قائد سريتنا رأسه وقال : سنتركهم يقصفون ولن نرد حتى يظنوا أن خطتهم نجحت بقتلنا ..فيقتحمون المكان كعادتهم بحثا عن أسير أو جريح ليعالجوه على طريقتهم..عندها سنعالجهم نحن على طريقتنا كأشباح الموت ...

عاد الصمت ملِكا من جديد ..يحوم حول الأنفاس المتصاعدة ....يدندن معها معزوفة حلم يتسع لمساحة قبونا الذي لا يختلف عن القبر كثيرا ..لم يكن حلمنا سوى طيف من حلم في لقاء صيد صهيوني قبل أن يبتلعنا الطوفان ...

كنّا ورفاقي نعلم المصير ولكننا نرجوه أن يصبر قليلا لنتوّج للمكان نقش صمود ...كنّا نقرأ المشهد الأخير لأدوارنا في الرواية الكبيرة ..ونعلم جيدا أن تلك الرواية لم تنته ولن نكون نحن آخر من يكتب سطورها ...لأنها الرواية الوحيدة التي لا يكتبها كاتب واحد ..ولا يضع خاتمتها قلم واحد ...بل أقلام وأنفاس ..وأرواح وسواعد تبني ما لا يراه الآخرون عن بعد !
ربما لن يفهمني أحد ..ولكني سأكمل قصتي ...

ضحك الخامس وقال : أشباح موت أيها القائد ...نعم نحن أشباح الموت ...نرتديه ..ونسحق ونُسحق ..لتزغرد الأرض وتحتضن أشلاءنا في رحمها وتنبتها من جديد ...

عاد الصمت سيداً بعد أن سمعنا صوت انفجار شديد بالقرب من قبونا ... كنّا على يقين أن لا مجال للتفكير حتى في خطة قائدنا ...

قبل أن تأتي ثانية الصفر المقدرة لنا أشار سادسنا أنه يجب علينا الانتشار ...لكن خطواتنا تعثرت بسيل صواريخ انهالت على قبونا..لم أدري بعدها ماذا جرى !

أفقت على رائحة التراب وصدري يعلو ويهبط ....كل ما حولي ظلام دامس ...هل أنا في ليل أو نهار ...لست أدري ..

ماذا حلَ برفاقي السبعة ...لست أدري !!

حاولت أن أنصت لعلي اسمع أنات أحدهم دون جدوى ...صرخت بصوت عالٍ : واحد ...اثنان ...يا ثلاثة ...يا أربعة ...أيها الخامس ...يا سادس ...يا رفاق !!!

حاولت أن أحرك جسدى لأنهض ..فاكتشفت أني معلق بين حائطين ...لقد صار جسدي قطعة نقانق بين شطيرتين تنتظر صهيونيا يلتهمها .....عدت إلى الصراخ من جديد فلم يجبني أحد !!!

لست أدري كم مضى من الوقت وأنا هكذا ساعة أو ساعتان...
يوم ...يومان ... حاولت أن أحرك جسدي الأسير فشعرت بشيء ما في جيبي ..ناضلت لإخراجه فإذا هو قلم ...

ـ قلم !!!!!!!

: ماذا أفعل بك الآن ، ليتك شربة ماء أو كسرة خبز أو حتى زيتونة

: ماذا أفعل بك وأنت أسير مثلي ؟

: هل أكتب بك قصتي لعلي أنسى آلامي ؟

: ولكن أين ؟

: على الحائط فوقي !!

: نعم على الحائط فوقي .

: ولكن لمن أكتبها ؟

: ومن سيهمه أمري ورفاقي السبعة ، من سيهتم بنا وقد فشلنا حتى صنع خطوة؟

: سأكتبها لكم ..راجيا أن تضيفوها إلى إلياذة شعب جريح بتوقيع من تكلم الموت في داخله

التعليقات