رثاء ?ل?امش لأنكيدو

-

رثاء ?ل?امش لأنكيدو
إن لم يكنْ رثاء ?ل?امش لصاحبه أنكيدو أفجعَ رثاء، فإنه توزع على أيام فصار أطول رثاء زمناً، تأثيره من توالياته التراكمية، تماماً كما تتوزع قطعة موسيقية على آلات مختلفة، وفي كل آلةٍ لها طعم آخر، وحين تجتمع يكون قرارها أعمق، وذروتها في أعلى قمة. شاعر الملحمة لا يفاجئنا بموت ?ل?امش وهو يلفظ أنفاسه في الآن والتو، كرثاء مالك بن الريب لنفسه أو رثاء الطغرائي لزوجته، أو رثاء الجاحظ لذلك الشخص الذي مات على السلّم، ولا يستحضر تفاصيل موت مضى ويجعلها حاضراً كرثاء البارودي لزوجته، أو رثاء ابن الرومي لابنه محمد او لوركا لمصارع الثيران اغناثيو ميخياس.

في كلتا الحالتين يكون الألم كاللّسعة حارقاً ومؤذياً ولكنه محدود زمنا وجغرافية. رثاء ?ل?امش تلبّسٌ داخلي يمتدّ الى نهاية حياته. كل الجنازات في الشعر، طريقُها واحد: التراب. إلاّ جنازة أنكيدو بلا طريق وتسكن رأس ?ل?امش، فتنفش تلافيف دماغه، كل الجنازات يشيّعها البشر، إلا جنازة أنكيدو تشيعها مخلوقات الطبيعة شجراً وأنهاراً وحيواناتٍ وجبالا.
يُهيئ شاعر الملحمة- كعادته - لموت أنكيدو بشيء مناقض تماماً. الفرح بأقصى تمامه والنشوة في أحلى زفافها. امتلأت رئتا ?ل?امش وأنكيدو بالفرح والنشوة. قتلا أوّلاً عفريت الشرّ "خمبابا" في غابة الارز، ثم قتلا ثور السماء. مأثرتان -إن كانتا مأثرتين- لا يقوى عليهما بشر. خمبابا المسكين لم يتدخل في شؤون مملكة ?ل?امش، لا من بعيد، ولا من قريب. إذن لماذا قرّر ?ل?امش – بدون سابق إنذار- السفر إليه وقتله؟ ولماذا قطع أنكيدو فَخِذَ ثور السماء، بعد ان قتله ورماه بوجه عشتار احتقارا لها، لأنها هي التي أنزلته من السماء الى الارض؟ الفرح بأقصى تمامه والنشوة في أحلى زفافها، وما من مزيد. فجأة مَِرض أنكيدو، مرضاً غامضاً ظهرتْ بوادره بحلمٍ مفزع. كان مرضاً نفسياً أكثر منه جسدياً، على ما يبدو. كل الأمراض السومرية والبابلية تنزل من السماء.
من جراء هذا الحلم شرع ?ل?امش يتغير من مخلوق إلى مخلوق. كان ثلثاه إلاهين، والثلث الآخر بشراً. نِسَب متوازنة في شخصية ?ل?امش – كما يبدو-. الملحمة بكاملها مبنية على توازن دقيق بين النور والظلمة، بين الخير والشر، بين البشر والآلهة. إلاّ أن ذاك الحلم خلخل تلك التركيبة، حيث تراجع الثلثان الإلهان، وهيمن الثلث البشري وإلى نهاية الملحمة.
يهيّء شاعر الملحمة قرّاءه برؤيا غريبة حلم بها أنكيدو، وهي أن " مجلس الآلهة في السماء قرر ان يموت أنكيدو ويبقى ?ل?امش، لأنهما قتلا خمبابا، وقتلا ثور السماء". هذا الحلم قاتلٌ بوضوحه. عند هذا الحلم يمرض أنكيدو. طريح الفراش كان، وهاذياً كان. هل ندم أنكيدو على فعلته؟ هل كانت حمّاه، تبكيت ضمير او نوعاً منه؟ لماذا صبّ جام غضبه على باب بيته؟:

"رفع انكيدو عينيه وخاطب الباب كما لو كان انساناً
مع أن الباب الخشبي لا يفهم ولا يعقل"

" لو كنت أعلم أن هذا ماسيحل بي
وأن جمالك سيجلب علي المصايب
إذن لرفعت فأسي وحطمتك"

إن تعبيريْ: "كما لو كان إنساناً" و"لا يفهم ولا يعقل" لا يصدر إلاّ عن شخص اختلطت حواسه فهو منخطف. ورغم ان الباب باب حقيقي اختار خشبه من اشجار الأرز، وصنعه "نجّار ماهر من مدينة نفّر"، إلاّ انه قد يكون رمزاً لاستقرار بيتي آمن. لذا يكون تحطيم الباب وبفأس أنكيدو نفسه أعلى درجات الهلع. لا سيما إذا عرفنا أن باباً كهذا على وجه الخصوص جيء به بعد مغامرات جريئة بعيدة. الباب للدخول كما هو للخروج. هل سيخرج منه أنكيدو؟ وإلى أين؟ حينما استمع ?ل?امش الى رؤيا أنكيدو "جرت دموعه" أي ظهر ثلثه البشري لأنّ الآلهة لا تبكي أبداً. قال وهو فاغر فاه:

"كانت رؤياك رؤيا عجيبة ولكنها مخيفة
ما أكثر الرؤى العجيبة!
يسلط الآلهة الاحزان على الأحياء"

رغم ان كلمة "مخيفة" أعلاه تنم عن بشريه ?ل?امش (والخوف سيأخذ أبعاداً جديدة من الآن فصاعداً في هذه القصيدة الملحمية)، إلاّ انه حينما يقول بعد ذلك: "سأنام وأتضرع الى الآلهة" يكون ثلثه البشري الاضعف قد هيمن على ثلثيه البشريين، نهائياً، وفي هذه المرحلة بالذات يبدأ ضعفه البشري كإنسان أيّ إنسان. لو عدنا الى عبارة: "سأنام وأتضرع الى الآلهة" ثانية، لرأينا ان كلمة سأنام وأتضرع لا تدلاّن على القدرة على القيام بأي عمل من جانبه سوى الاستعطاف. كما ان التضرع الى الآلهة يدلّ على انه هو نفسه، ليس منهم الآن ولا حتى بثلثيه الاوّلين. سَوْرة الحمّى تفور وتهدأ. أنكيدو: " راقد على فراش المرض" وقد "اشتد به المرض". طافت عليه رؤيا ثانية، اكثر غرابة:

أرعدت السماء فاستجابت لها الأرض
كنت واقفاً ما بينهما
ظهر امامي مخلوق برأس أسد
كان وجهه بشعا مثل وجه طير "الزو"
ومخالبه كمخالب النسر
لقد عراني من ملابسي
وأمسك بي بمخالبه
وأخذ بخناقي حتى خمدت انفاسي"

استجابة الأرض لرعد السماء تدل على توافق ما بين الاثنين، وكأن الامر قد قُضِي. ولكن لماذا صوّر أنكيدو نفسه انه كان واقفاً بين السماء والارض؟ هل رفعه دوار الحمّى؟ في ذلك الوقوف القلق بين السماء والارض يظهر وجه عدواني، وحين يصوّره وكأنه وجه الطير "زو" ويشبّه مخالبه بمخالب النسر، يكون أنكيدو المعلق بين السماء والارض، ضحية لا مهرب لها، وكأنه أستسلم لقدره : "حتى خمدت انفاسي".
مما يثير الانتباه في المقطع أعلاه تعبيره: "لقد عّراني من ملابسي". المعروف ان أنكيدو حينما كان متوحشاً لم يكن يرتدي ملابس. وانما "مومسة المعبد المقدسة" التي أغرته هي التي اقتسمت معه ثوبها فلبسه قبل ان يدخل الى المدينة. لذا فإكباره لعريه هنا يدل على ان التحضر تمكن منه، وانه كان في هذه المرحلة قد انتقل من العصر الرعوي الى العصر المدني. قبل الاستطراد في هذا التمهيد لرثاء ?ل?امش لا بدّ أن نلتفت الى مهارتين مثيرتين، يتميز بهما شاعر الملحمة وهما:

أولاً:
نقل الحدث من الماضي الى الحاضر، بكلمات اخرى، لا يسرد الراوية الاحداث وكأنها وقعت وانتهت، في زمن غير الزمن الحاضر، فيصبح عندها القارئ متفرجا، وانما يجعلها وكأنها ما تزال في اتون الوقوع، حتى يعيشها القارئ لحظة لحظة. تتجسد هذه الحيلة الفنية البارعة بالانتقال من الماضي والإخبار، إلى الحاضر ووقائعه الآنية وهي تجري امام اعيننا، يقول أنكيدو:

"لقد بدّل هيئتي فصات ذراعاي مثل جناحي طائر
مكسوتين بالريش
سمّر نظرته فيّ وأمسك بي وقادني الى دار الظلمة
إلى مسكن اركالا (من اسماء آلهة العالم السفلي)
إلى البيت الذي لا يرجع منه مَنْ دخله
إلى الطريق الذي لا رجعة لساكنه
إلى البيت الذي حُرِم ساكنوه من النور
وهم مكسوون كالطير بأجنحة من ريش... إلخ"

تستمر مشاهدات أنكيدو في رؤياه على تلك الوتيرة المفجعة، وفي كل سطر جديد، يزداد ذعر السامع (أو القارئ) ويترقب ماذا بعد ذلك، لاسيما إذا عرفنا ان "الغالب على تصوّر العراقيين القدماء لأرواح الموتى انها على هيئة الطيور.." (طه باقر، ص 123، حاشية 124).

قد يكون من المفيد عقد مقارنة بين هذا التصوّر وما جاء في القرآن الكريم من آيات. منها:
"إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائراً"
(آل عمران)
"ومن يشرك بالله فكأنّما خرّ من السماء فتلاقفته الطير" (الحج)
"أوَ لم يروا إلى الطير فوقهم صافّات ويقبضن" (الملك)
"وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه" (الإسراء)

ومما يُذكر أنه جاء في حديث ابن مسعود : فقدنا رسول الله فقلنا اغتيل او استطير أيْ ذُهِبَ به بسرعة كأنّ الطير حملته" ثمة معلومات أخرى نافعة في قاموسي :"تاج العروس" و "لسان العرب".

ثانياً:
أما الحيلة الثانية الفنية التي تميز بها شاعر الملحمة فهي جعل الخرافة واقعاً ملموساً، كما سنرى حينما يذكر تفاصيل دقيقة وكأنّه رآها رأي العيْن، فالانتقال من سرد الماضي الى تصوير الأحداث ساعة وقوعها، إنما هو تمويه لجعل السامع يصدّق ما يسمع. ومن هؤلاء الذين صدّقوا ما سمعوا: ?ل?امش، الذي قال "لقد رأى صديقي رؤيا تنذر بالشّر". إذن أصيب ?ل?امش بعدوى الخوف من المجهول الغامض رغم ان أنكيدو لم يمت بعد، إلاّ ان المرض اشتد. ولإطالة اشتداد المرض وتعذيب السامع و?ل?امش معاً، راح شاعر القصيدة يوزع مشهد المرض على عدة ايام:

"اشتَدَّ به المرض فظلَّ ملازماَ فراشه
يوماَ وثانياَ وثالثاَ ورابعاَ
وخامساَ وسادساَ وسابعاَ وثامناَ وعاشراَ
وثقل المرض على أنكيدو
ومضى اليوم الحادي عشر والثاني عشر
وهو لايزال راقداَ على فراش المرض
فدعا إليه ?ل?امش.." إلخ

كأنما أراد الشاعر هنا ان يحوّل الزمن الى مسافة مكانية تُقطع على مرحلة أيام وبلا توقف. رحلة كهذه لا تكون إلاّ هلعاَ. الحيلة الفنية الأخرى التي وظّفها بمهارة شاعر الملحمة، أنه حينما عدّد الأيام الى اليوم العاشر، قطعها، لا لالتقاط الأنفاس وانما ليخبرنا: "وثقل المرض على أنكيدو" وكأنّه كان معه. وهكذا جعل الرحلة أشقّ وأمرّ، لأن الأيام لم تعد متشابة بل ساءت. كان ?ل?امش طيلة هذه الأيام، صامتاَ. لم يتكلم إلاّ في اليوم الثاني عشر عند بزوغ أولى خيوط الفجر. (تكرر هذا التعبير في مطلع الكتاب ويمكن مقارنته بمطلع الاوذيسة: "وما أن بزغت أصابع الفجر الوردية" لكن لماذا دعا أنكيدو في اليوم الثاني عشر ?ل?امش؟ هل أحسّ بالموت؟ هل كان غائباَ عن الوعي؟ إذ ان ?ل?امش لم يتكلم إلاّ في اليوم الثاني عشر، "عندما بزغت أولى خيوط الفجر".

لخيوط الفجر هنا توقيت دقيق، له دلالات روحية ورمزية مهمة. لقد كانت الايام السابقة بمثابة ليالٍ، لأن أنكيدو نائم لا يدري ما يدور حوله. على هذا يكون الفجر انتقالاً من غيبوبة الى صحو موقت، من غموض الى وضوح، وهذا الوضوح لا أكثر من يقين كل من ?ل?امش وأنكيدو بأن الموت واقع لا محالة. مات أنكيدو ولكنه ما يزال حيّاً، و?ل?امش يرثي أنكيدو حيّاً. قبل ان يموت:

" يا "أنكيدو" ان أمك ظبية وأبوك حمار الوحش،
وقد رُبيت على رضاع لبن الظباء
لتندبك المسالك التي قادتك إلى غابة الأرز
والا يبطل النواح عليأك أبداً
وليندبك شيوخ أوروك، ذات الاسوار الضخمة
الذين باركوا لنا عندما شددنا الرحال
لتندبك الروابي والجبال التي تسلقنا
لتندبك المراعي كما لوانك ابنها
وليندبك الدب والضبع والنمر والايل والسبع
والعجول والظباء وكل حيوان البرية
ليندبك نهر "أولا" الذي مشيناعلى ضفافه
وليبكك الفرات الطاهر الذي ملأنا جرارنا منه
لينحْ عليك محاربو "أوروك"المسوّرة
الذين هلّلوا حين قتلنا ثور السماء
ليبكك الفلاح الذي مجّد اسمك في أغاني الحصاد
والراعي الذي جلب لك الحليب
والمومس التي مسحت ظهرك بالزيت المعطر وسقتك الجعة ..."

(... خروم)"

هكذا حشد ?ل?امش للفاجعة التي ألّمت به مرايا كثيرة، وبكثرتها يتعدد الحزن الواحد. بدأها أولاً بنسْب أنكيدو الى الحياة الرعوية، قوّة جسمانية وأسفاراً. عدّد لداته من الدبّ والضبع والنمر... إلخ أي ان طبيعته الحيوانية صافية لم تفسدها الأنسنة، ثم ندبه انساناً متحضراً "يُمسح ظهره بالزيت المعطّر، ويُسقى الجعة، ويُقدّم له الخبز..."إلخ.
بهذه الوسيلة، خلق شاعر الملحمة أكبر كورس رثائي، اشتركت فيه عناصر الطبيعة نهراً وغابةً، والبشر– شيوخاً ذوي حكمة، ومومسات مقدسات، وحيوانات برية سارحة تعيش بكامل سجاياها الطبيعية. بهذا الكورس الشامل يكون الشاعر قد وسَّع من حجم المأساة، ليبرر فيما بعد حزنه الخاص كما – سنرى-. في القسم الثاني من القصيدة يخاطب ?ل?امش شيوخ "اوروك":

" من أجل أنكيدو خلّي وصاحبي أبكي
وأنوح نواح امرأة فقدت طفلها الوحيد
إنه الفأس التي في جنبي وتثق بها يدي
والخنجر الذي في غمدي والمجن الذي حماني
وثياب أعيادي الفاخرة
لقد ظهر شيطان رجيم وسرقه مني"

في هذا المقطع، تحوّلات خطيرة في شخصية ?ل?امش، أقلّها ظهور أمومة نسوية، وامارات طفولية. فمن الاموميات: " أنوح نواح امرأة" و" المجن الذي حماني"، ومن الطفوليات: " ثياب اعيادي" و" شيطان رجيم سرقه مني".
في المقطع نتبين كذلك، كم باتت عضلاته واهنة وثقته بها أوهن. فأنكيدو كان بمثابة الفأس والقوة في الساعد والخنجر في الحزام. من ناحيةأخرى يقرر ?ل?امش ان أنكيدو انما سرقه منه شيطان رجيم! ولكن لِمَ شيطان رجيم؟ وقد مرَّ بنا ان أنكيدو ذكر في حلمه أن مجلس الشورى هو الذي قرر وفاة احدهما، وقرر أن تكون الوفاة من نصيبه. هل بدأ ?ل?امش بالاحتجاج على الآلهة؟ على أية حال، بنواح المرأة تلك حيث الأمومة المفجوعة، وبالطفولة المسروق منها أعزَّ ما تملك، وبوهن عضلاته، برر شاعر القصيدة مخاطبة ?ل?امش لأنكيدو وجهاً لوجه وكأنه حاضر:

" يا خلّي وأخي الأصغر
لقد طاردت حمار الوحش في التلال
اقتنصت النمور في الصحارى
(أنكيدو) يا صاحبي وأخي الأصغر"

توقيت المنادى: أنكيدو كأنما هو استغاثة به، بعد أن سرد قابلياته الجسمانية بالمطاردة والقنص في التلال والصحارى. ولكن حين ينتقل ?ل?امش بعد ذلك مباشرة إلى:

" (أنكيدو) يا صاحبي وأخي الأصغر
الذي اقتنص حمار الوحش في النجاد والنمر في الصحارى"
إنما ينتقل من أنكيدو الحاضر إلى أنكيدو الغائب. بهذه الوسيلة، هزّ شاعر القصيدة سردية الزمن، وبانتقاله هذا من حال إلى حال دلّل على تشوّش رأس كلكامش. هذا التشوّش إنّما هو تمهيد منطقيّ أصيل لعجز كلكامش عن فهم ما يدور أمامه أو حوله :

" فأيّ سنة (من النوم) هذه التي غلبتك وتمكنتْ منك؟
طوال ظلام الليل فلا تسمعني"

بتعبير: "فلا تسمعني" جعلنا الشاعر نشهد آنيّة الحدث وفي نفس الوقت، أبعد عن ذهننا وهْم الخرافة وقرّبنا من واقع حقيقي، لأن الراوية هو نفسه البطل الذي عانى ذلك الحدث. فجأة تنتقل الصورة من البطل ?ل?امش الى راوية الملحمة:

" ولكن (أنكيدو) لم يفتحْ عينيه
فجسَّ قلبه فلم ينبضْ
وعند ذاك برقع وجه أنكيدو مثلما العروس
وأخذ يزأر حوله كالأسد
وكاللبوءة التي اختطف منها أشبالها
وصار يروح ويجيء أمام الفراش وهو ينظر إليه
وينتف شعره ويرميه على الأرض
مزّق ثيابه الفاخرة ورماها كأنها نجسة
ولمّا أن لاح أوّل خيط من نور الفجر نهض ?ل?امش"

تدور صور المقطع أعلاه في الظلام، حتى ينفرد ?ل?امش بأنكيدو لوحدهما وثالثهما الموت، وبتلك الحالة، لا يرجو ?ل?امش أية مواساة من أحد –حتى لو أرادها- . عليه ان يتحملها وحده. الأسطر الثلاثة الأولى، توحي أن ?ل?امش هادئ ولاسيما في تعبير: "برقع وجه أنكيدو كالعروس" ، لأنه لم يتيقنْ بعدُ من موت أنكيدو. ولكن ما أن تيقن اعتباراً من السطر الرابع حتى ظهر الحيوان الكائن فيه صوتاً متوحشاً غاضباً كزئير أسد، وناشجاً كبكاء لبوءة، ثم يدخل عالم الخبال حتى الصباح. ( للشَّعَر وكذلك الثياب، دلالات مهمة في هذه الملحمة).

اعتباراً من هذا المقطع أعلاه، يُدخل شاعر الملحمة عنصر الظلام، ليكون أهم مقوّمات تأليف الملحمة من الآن فصاعداً. ظلام الجبل. ظلام بحر الموت. ظلام الروح.
لاشك؛ واجهْنا من قبل الظلام الذي خبره أنكيدو حلماً. ظلام مرعب ولكنه بصورة ما محدود بجغرافية زمانية ومكانية. أمّا الظلام الذي حلَّ في حياة ?ل?امش، فهو ظلام نامٍ ومتفاعل. ظلام حيّ وهو أخطر ظلام لأنه يرافق الإنسان حتى في صحوه. ظلام يتناسل كالخلايا الحيّة.
على اية حال، أصيب الآن ?ل?امش بعدوى موت أنكيدو، لاسيما - كما قلنا- ان الثلث البشري منه هو المهيمن على الثلثين الإلهين. في الحقيقة ليس للثلثين الإلهين من وجود الآن. بالإضافة الى ذلك فإن ?ل?امش لم يعد يعترفْ أو يثقْ بالآلهة، فربما تأمر بموته في أية لحظة.
بكاؤه على أنكيدو الآن أكثر فجيعة وصدقاً لأنّه بكاء على نفسه. بكاء مضاعف. ومن الآن فصاعداً فإن رثاءه لأنكيدو ما هو إلاّ رثاء لنفسه، قال (مناجياً نفسه بعد ان هام على وجهه في الصحارى):

" هل تحتّم عليّ الموت؟ ألا يكون مصيري مثل أنكيدو؟
لقد حتَّ الحزن أحشائي
أخاف من الموت،لذا أهيم في البراري
والى بيت (أوتو- نفشتم) بن (اوبار – توتو)
أدور وأحث الخطى
ولما بلغت مجازات الجبال في السماء
رأيت الأسود فتملكني الخوف والرعب
فرفعت رأسي الى (سين) وصليت له
وابتهلت الى العظيم بين الآلهة ودعوت أن يحميني ويحفظني"

الموت محقق في نظر ?ل?امش. وهكذا شرع في مغامرات فردية جريئة لا حبّاً بصيت، وانما كان خوفاً من المصير الذي حاق بأنكيدو. في مغامراته الأولى رأينا ?ل?امش في قتل خمبابا أو في قتل ثور السماء، يجترح البطولات ليخلد اسمه. اما الآن فمغامراته مدفوعاً بها بالخوف من الموت. الخوف – لا الشجاعة- هو الذي يدفعه الى المغامرات. وكلما ازدادت تلك المغامرات صعوبة كلما تيقنا أن الخوف كان اعظم. بكلما ت اخرى إن مغامرات ?ل?امش قبل وفاة أنكيدو كانت بطولات، وبعد وفاته أصبحت ا نهلاعات تحثّ عليها انهياراته النفسيّة والذهنية.
بهذا الضعف البشري، يذهب الى "اوتو- نفشتم" للكشف عن سرّ الخلود، ويصغي الى إلهة الحانة البحرية، والى الرجال العقارب. وأمام هؤلاء يقوم بدور المتلقي، كما يقوم أيضاً بإلقاء رثائه لأنكيدو. على هذا تكون اعادة الرثاء، ذات دلالة. والحدث الواحد قد يتكاثر بتكاثر مراياه، او بتكاثر بيئاته الجديدة. هذه الحيلة في عملية استيلاد أو تنسيل الحالة الواحدة هي من اهم عناصر مواهب شاعر هذه الملحمة. فالألم الذي كان يعاني منه كلكامش يتكاثرحينما يقصد جبل (ماشو) ويلتقي بالرجال العقارب:

" أخيرا وصلّ ألى جبل"ما شو" ذي القمّتين
"ماشو" الذي يحرس كل يوم شروق الشمس وغروبها
والذي تبلغ ذروتاهما قمة السماء
وفي الأسفل ينزل صدره الى العالم الأسفل
يحرس الرجل العقرب وزوجته العقربة شروق الشمس وغروبها
يبعثان الرعب ،ووميضهما الموت
سناء تلألئهما يقلق راحة الجبال"

ما الذي يفعله الشاعر في المقطع أعلاه؟ أوّلاً جاء بجبل ولا كالجبال، وجاء ببشر ولا كالبشر، أي أنه هزَّ أعماق حاسة البصر. مع ذلك فغرابة هذه المشاهد، لا يجب أن توحي بشجاعة ?ل?امش، وإنما بخوفه من الموت، أي ان خوفه من الموت لا يعدله شيء. الخوف شجاعة بصورة ما، في الظاهر. يدخل ?ل?امش الجبل وانما كان قد دخل أميالاً زمنية ومكانية من الظلام الدامس، و"لم يستطع ان يبصر ما أمامه وما خلفه". ويبدو أنه كان قد قطع أياماً من الظلام قبل أن ينفتح النور:

" وأبصر أمامه أشجاراً تحمل الأحجار الكريمة
ولما رآها اقترب منها ومرأها يسرُّ الناظر
ووجد الأشجار التي تحمل اللازورد فما أبهى مرآها
رأى الشوك والعوسج الذي يحمل الأحجار الكريمة واللؤلؤ البحري"

لا بدّ أن ?ل?امش بعد تلك الرحلة الظلامية الطويلة التي بطّّأها الشاعر بتعداد الساعات المتشابهة يُفاجأ على أشدّ ما تكون عليه المفاجأة، بمشهد الأشجار ذوات الثمار الياقوتية. غريبة. ثمينة. إلاّ أنه لم يطمع بها، لأن رحلته الآن، رحلة روحية لا تكون الماديات – والأحجار الكريمة من بينها- إلاّ رموزاً روحية، لا غايات بحدّ ذاتها.

اما تعبيرا: " ومرآها يسرُّ الناظر" و" فما أبهى مرآها" فلا تدلّ إلاّ على انخطاف راوية القصيدة، لا على بطلها ?ل?امش. في اللوح العاشر يصل ?ل?امش الى "سدوري" إلهة "الحانة الساكنة عند ساحل البحر". لنقل إن هذه الإلهة التي ظنّها بعض المترجمين انها صاحبة خمارة لا غير، كانت امرأة واقعية أبعد ما تكون عن الرومانسية والتبذل، إمرأة حكيمة عملية Pragmatic. ما من بشر في حانتها، وما من سكر أو عربدة أو هذيان من اي نوع. كيف وظفها شاعر الملحمة؟
1- قرّبها من البشر حين ادخل الهلع في نفسها عندما رأت ?ل?امش مقبلاً على حانتها:

" شاهدتْ ?ل?امش مقبلاً وكان لباسه من جلود الكلاب
ووجهه أشعث كمن سافر سفراً طويلاً ويبدو عليه العناء والتعب
ولكن جسمه من مادة إلهية
فنظرت صاحبة الحانة الى ?ل?امش وناجت نفسها بهذه الكلمات:
يبدو ان هذا الرجل قاتل فليت شعري الى أين يريد؟
فأوصدت بابها لما رأته يقترب وأحكمت إغلاقه بالمزلاج"

2- التقريب الثاني من البشرية هو ما ذكّرنا به طه باقر، بأن "المادة 109 من شريعة حمورابي فرضت عقوبة شديدة على صاحبات الحانات إذا هنّ آوين المتآمرين وقطاع الطرق ولم يبلغن السلطة عنهم. وفي النص البابلي يستعمل كلمة "سابيتم" لبائعة الخمر، من نفس المادة العربية "سبأ" و"سباء" أي بائع الخمر" (ص 133، ح: 136) بهذا الإنكار من ربة الحانة ل?ل?امش، هيأ شاعر الملحمة الجوّ له لتقديم نفسه لها ويسرد عليها مآثر أنكيدو. فتتساءل: إن كنت حقاً كما تقول فلماذا "ذبلت وجنتاك ولاح الغم على وجهك/ وعلام مَلَك الحزن قلبك وتبدلت هيئتك/ ولم صار وجهك أشعث كوجه من سافر سفراً طويلاً/ وكيف لفح وجهك الحر والقرّ/ وعلام تهيم على وجهك في الصحارى"
تبدأ الجمل الستّ أعلاه كلها بأسئلة مترادفة فإذا جمعنا الاسئلة هذه الى خوفها منه، ندرك ان سدوري كانت تطرح الاسئلة بلهاث سريع ينمّ عن الاستغراب الكامل. بهذه الأسئلة إنّما عجّل الشاعرإيقاع الأبيات لتتناسب مع اللهاث.
إذا نظرنا الى الاسئلة من زاوية أخرى، لعرفنا عِظَم نكبة ?ل?امش بفقد أنكيدو أولاً، وعِظَم رعبه هو من الموت. شاعر الملحمة هذا ورشة لتفريخ الصور. عند هذا الحدّ برر راوية الملحمة سرد مآسي ?ل?امش التي ألمت به وحيداً، ولتكون أكثر تأثيراً جعلها على لسانه. ثم يبدأ رثاءه لأنكيدو ميتاً ورثاءه لنفسه حياً. يبدو أن ?ل?امش مثلما كان ممتزجاً إلهاً وبشراً، فإنه الآن ممتزج ميتاً وحياً.

سرد ?ل?امش في هذا الرثاء المضني، أولاً مراحل موت أنكيدو كما سرد ردة فعله على كل مرحلة. ومما يجعل هذا الرثاء أعمق دلالة أنه يقع و?ل?امش لا يصدق ما يرى.
كان الرثاء الأول في الصفحات الأولى على لسان راوية الملحمة. اما هذا الرثاء فعلى لسان ?ل?امش:

" لقد انتهى الى ما يصير إليه البشر جميعاً
فبكيته ليل نهار
ندبته ستة أيام وسبع ليالٍ
معللاً نفسي بأنّه سيقوم من فرط نواحي
امتنعت عن دفنه
أبقيته ستة أيام وسبع ليالٍ
حتى تجمع الدود على وجهه
فأفزعني الموت حتى همت على وجهي في الصحارى
إن النازلة التي حلّت بصاحبي لا تحتمل
استحال صاحبي الذي احببت، تراباً
وأنا، سأضطجع مثله فلا أقوم أبد الآبدين"

كان أكبر ما يقضّ مضجع ?ل?امش بعد وفاة أنكيدو هو أن يموت ثلثه البشري الذي ألغى ثلثيه الإلهين. كانت رحلة ?ل?امش في ظلام الجبال تحسب بالساعات. الزمن هنا لا يقاس بالأيام المقسّمة الى ليل ونهار. ستة أيام وسبع ليالٍ، والجثّة امامه. وبعد ذلك انتهى التقويم الزمني. ما من أيام وما من ليالٍ. الظلام محا كلّ تقويم زمني. خدع ?ل?امش نفسه بأن كثرة البكاء والنواح سيعيد أنكيدو الى الحياة. فمن يلومه؟ إذا كان هذا معتقد ?ل?امش فعلاً، فما أقربه إذن الى مخلوق ضعيف. كما ان البكاء والنواح يقربان كلّ مخلوق من العواطف الأنثوية.
يعرف ?ل?امش ان أنكيدو وهو ممدد امامه، مات من اوّل يوم وما من شيء حي في الصورة المسجّاة إلاّ "الدود الذي تجمع على وجهه". بعد المغامرات الصحراوية التي اوصلته الى الجبال، ها هو ?ل?امش الآن مقبل على مغامرة بحرية لعبور "مياه الموت العميقة"، للوصول الى جده الانسان الخالد اوتو- نفشتم. ولكن حتى يتمكن من العبور لا بدّ له من الاستعانة بملاّحه "أور - شنابي". أعاد كلكامش على الملّاح تمجيده لأنكيدو ورثاء لنفسه، بنفس الكلمات تقريباً، إلاّ من تغيير طفيف ولكنه مهم وهو:
"أبقيته ستة أيّام وسبع ليالٍ
حتى تجمع الدود على وجهه"
إلى
"فبكيته ستة أيّام وسبع ليالٍ
حتى سقط الدود من أنفه"
توحي عبارة" تجمع الدود على وجهه" أنه كان في بداية موته، فالدود لم يجد بعدُ، المدخل الى جثة أنكيدو.
بالمقابل توحي عبارة "سقط الدود من انفه" على أن الدود سدَّ انبوب التنفس، وأنه كان من الكثرة بحيث بدأ يتساقط بدون نظام. وهو الدقيق المنظم في نقل مؤوناته. توحي كذلك عبارة "سقط الدود من انفه"، أن الجثة كفّت عن أية مقاومة وها هو الدود يدخل ويخرج كما يشاء. كأنّه يدخل ويخرج من صندوق قمامة. رحلة ?ل?امش الى ذلك الانسان الخالد "أوتو – نفشتم" أدق رحلاته وأخطرها. نتائجها حاسمة وختامية. وظّف شاعر الملحمة ثلاث وسائل لقطع أنفاس القارئ:

1- منذ بداية الرحلة يقول الملاح "أور- شنابي" ل?ل?امش:

"يا ?ل?امش يداك هما اللتان منعتاك من عبور البحر
لأنك حطمت صوى الطريق وأتلفتها
وإذا تحطمت الصوى فلا يمكننا العبور"

هذه هي العقبة الأولى التي وضعها شاعر الملحمة أمام ?ل?امش. رحلة بلا بوصلة، حتى الملاح المتمرس لا يعرف من أين الطريق. فإذا عرفنا ان هذه الرحلة دامت خمسة واربعين يوماً، تيقنا كم كان قلق ?ل?امش عميقاً، وكم كان قلق القارئ عظيما من جرّاء ذلك وهو يتابع مصير كلكامش لحظة لحظة.

2- من مخاطر هذه الرحلة، أن مياه الموت لو مسّت قطرة منها إنساناً، يموت. كم تلتزم هذه الرحلة إذن – بالإضافة إلى طولها- من يقظة وحذر وهلع. وللدلالة على هذا الفزع، فإن ?ل?امش استعمل مائة وعشرين مردياً – وهي كل ما صنع- ولم يصلْ بعد. ثم يقول راوية الملحمة:

"ثم نزع ?ل?امش ثيابه
ونشرها بيديه كالشراع"

حيلة للنجاة موفقة نسبياً ولكنها مضنية ذلك لأنها تقتضي أن تكون اليدان مرفوعتين بوضعية واحدة، واي تراخ فيهما يؤديان به الى الموت. مرة اخرى، يعيد ?ل?امش على مسمع "أوتو- نفشتم" قصة موت أنكيدو، إلاّ أننا نحس - ولو بصورة غامضة- ان تكرار الرثاء يفيد هذه المرة، أن ?ل?امش بعد هذه الأسفار والأهوال كان يرثي نفسه بالدرجة الاولى. إنه بطل هارب من الموت, كما قلنا. وبسبب خوفه من الموت يقتحم الأهوال. بجبنه لا بشجاعته يقتحم الأهوال. يعادل شاعر الملحمة بحصافة شعرية دقيقة بين هلع ?ل?امش المقبل على الفناء، وبين رزانة "أوتو- نفشتم" الانسان الخالد الذي راح يخاطب ?ل?امش ببرود:

"البشر مثل قصبة تقف هشّة
الشاب الجميل والشابه الجميلة يأخذهما الموت بعيداً
رغم أنّة ما من أحد رأى وجه الموت
ما من أحد سمع صوت الموت
هل بنينا بيتاً يقوم الى الأبد؟
وهل ختمنا عقداً يدوم الى الأبد؟
وهل يقتسم الأخوة ميراثهم ليبقى الى آخر الدهر؟
وهل تبقى البغضاء في القلوب الى الأبد؟
وهل يرتفع النهر ويفيض على ضفتيه دائماً؟
اليعسوب يخرج ويطير
وجهه في الشمس ولكن ليوم
كل ذلك إلى العدم مرّة واحدة
ويا ما أعظم الشبه بين النائم والميت
ألا تبدو عليهما مخايل الموت"

بهذه البديهيات الباردة التي يتعادل فيها الموت والنوم، يكون الرثاء في هذه الملحمة قد انتقل الى جغرافية أوسع. كان الرثاء يدور حول أنكيدو في المرحلة الاولى، وعلى لسان الراوية وكأنه موت تحقق وتوقف مفعوله، ولكن في المراحل التالية أصبح الرثاء على لسان ?ل?امش وفيه رثاء الى نفسه. أما في المقطع أعلاه فإنه رثاء للبشرية في كل عصورها السابقة واللاحقة. وفيه إشارات دقيقة للغاية، الى ما وقع من حوادث في عموم الملحمة. رأينا كم كان موت أنكيدو قاسياً على ?ل?امش، وأن العقد بينهما لم يدم الى الأبد. وأن اوروك لم تدم. وأن الفيضان لم يدم، حتى البغضاء لم تدمْ، وان الشبه بين أنكيدو نائماً وبينه حياً، شديد. ثم بعد ذلك يصل إحباط ?ل?امش أقصاه، حين يخاطب "أوتو- نفشتم" فيقول له:

" ها أنا أنظر أليك يا "أوتو- نفشتم"
أنت مثلي, لا أجدك تختلف عني
أنت مثلي ولست غريباً أبداً
تصوّرتك محارباّ قويّاً
تصوّرتكً كالبطل على أهبة القتال
فإذا بي أجدك ضعيفاً ممدداً على ظهرك"

هذه صوره بائسة تماماً للخلود لم تخطر ببال كلكامش قطّ. مع ذلك عاد ?ل?امش من "أوتو- نفشتم" بأمل في الخلود، بعدما كان يقول:

"أجل في مضجعي يقيم الموت
وحيثما أضع قدمي يربض الموت"

قال "أوتو- نفشتم" بتحريض من زوجته ل?ل?امش:

" لقد جئت يا ?ل?امش الى هنا وقاسيت التعب
فما عساني ان اعطيك حتى تعود الى بلادك
سأفتح لك، يا ?ل?امش، سرّاً خفياً
أجل سأكشف لك عن سرّ من أسرار الآلهة
يوجد نبات شائك ينبت في المياه
وشوكه يخز يديك مثل أشواك الورد
فإذا ما جنتْ يداك هذا النبات وجدت حياة جديد."

لم يكن الحصول على ذلك النبات سهلاً ولكن لا بدّ منه لأنه اكبر أمل في كل رحلاته السابقة. في المياه العميقة أبصر النبات. وخز يديه فعلاً. الأمل أصبح بحكم الواقع. أعطى النبات اسماً هو "يعود الشيخ الى صباه كالشباب"، قطف النبات، وصعد إلى سطح الماء، وجدّف اكثر من يومين:

"أبصر ?ل?امش بئراً باردة الماء
فورد فيها ليغتسل في مائها
شمّت الحية رائحة النبات
فتسلّلت واختطفته
ثم سلختْ جلدها".

يقول طه باقر (في الحاشية 196، ص 166): "إن الحية استطاعت بتأثير ذلك النبات السحري ان تجدد شبابها بنزع جلدها كل عام، ومن هذه الاسطورة نشأت عادة اتخاذ صورة الحية رمزاً للحياة والشفاء والطب، كما يجدر ربط هذه الحادثة الاسطورية بالعداء الذي استحكم بين الحية واولاد حواء من بعد الإغواء حيث أمر الله بذلك وكان من بين العقوبات التي فرضها على آدم وحواء وذريتهما من بعد أكلهما من شجرة الجنة المحرّمة" رأينا من قبل كيف كتب الدود خاتمة أنكيدو، وبالمثل فأن الأفعى هي الآن تكتب نهاية ?ل?امش. أراد ?ل?امش ان يزيل الشر من على الارض فأزاله الشّر، قتل الافعى المختبئة تحت شجرة الحلفاء وها هي تختطف نبات الخلود. قتل خمبابا والثور السماوي، ولكنه هو نفسه فقد الأمان والنوم. ما الذي يريد ان يقوله شاعر الملحمة؟ هل الشّر لا بدَّ منه وان الآلهة القديمة لم تخلقه عبثاً؟ قد يكون من المفيد أن نختم هذا الفصل برثاء مزدوج مبطن. في المقطع التالي،الذي اقتبسناه أعلاه, حينما اندهش ?ل?امش من هيئة أوتو- نفشتم:

"أنت مثلي، لا اجدك تختلف عنّي
أنت مثلي ولست غريبا... ألخ

في البداية كما قلنا أعلاه، رثى ?ل?امش صاحبه أنكيدو حياً. ثمّ رثاه ميتاً. ثمّ رثى نفسه. وها هو الآن يرثي اوتو- نفشتم الإنسان الخالد الذي لا يموت. لم يمرَّ ?ل?امش بإحباط حاسم ومرّ كهذا الاحباط من منظر هذه الصورة الميتة من الحياة. ما هذا الخلود العقيم؟ انسان منقطع عن البشر، لا يجوع ولا يعطش ولا يأكل ولا يشرب، ولا يحب ولا يكره ولا يطمح ولا يعمل، ولا يتناسل، ما هذا الخلود؟ أوتو- نفشتم ضعيف، بلا حراك مستلقٍ على ظهره. ما أهمية هذا الخلود، الجاف الأشبه بالتعضّي؟

أكثر من ذلك، فإن رثاء ?ل?امش لأوتو- نفشتم، إنما هو رثاء لنفسه هو. مأساة أوتو- نفشتم أنه يعيش بلا زمن، وملتصق بمكان منعزل كالشجرة الميتة. أما مأساة ?ل?امش فإنه أراد أن يعيش كالمجانين الذين يعيشون عادة فوق الزمان والمكان. يعود ?ل?امش من أوتو- نفشتم الى مسقط رأسه "أوروك" وهو مجهّز بكل تجهيزات الموت. الكل يعرفه. الكل لا يعرفه. كجندي مجهول.



"صلاح نيازي"

التعليقات