رواية عزمي بشارة؛ "حب في منطقة الظل".. سخرية بطعم الوجع/ إبراهيم عبد المجيد*

-

رواية عزمي بشارة؛
ماذا تفعل؟ تقرأ الراوية أكثر من مرة مثلاً، أو تقرأها في ظروف نفسية أفضل؟ لكن في كل الأحوال رواية عزمي بشارة “حب في منطقة الظل” لا تفلت من شراك السياسة ولا مناقشة واقع الحال، الحاضر والماضي والمستقبل، للفلسطينيين، وللعرب إن شئت، إنها أولاً رواية مكان، وثانياً رواية زمان، والشخصيات فيها هدف ثالث أو بعيد، ثم إنها تقوم على التسلسل المنطقي للزمن أو الحدث، وفي أغلب الأحيان مثل الرحلة في الشعاب الفلسطينية وهي على هذا النحو، وبشكل ظاهري، لا تطمح لحفر شكل خاص أو تشكيل مميز، أي أنها رواية خالية من ألاعيب الحداثة أو اكتشافاتها، ولا يترك فيها الكاتب الحبل على الغارب للتشكيل، لكن في الحقيقة أيضا يستطيع أن يتخذ أسلوباً روائياً، أي مشعاً بشحنات انفعالية أحياناً، وتتناثر حوله دلالات قادمة من بناء الجملة، يذكرك عزمي بشارة مباشرة بإميل حبيبي وهو يستنفد إمكانات السخرية من الأسلوب، وهنا على شكل أكثر حدة، لذلك تقل مساحة السخرية، وبمعنى أدق سخرية عزمي بشارة القافزة إلينا من الأسلوب تخاطب العقل أكثر من العاطفة، إنها الوجه الآخر للسخرية، والفرق بينها وبين سخرية إميل حبيبي أنك في حالة عزمي بشارة تصدق، وفي حالة إميل حبيبي لا تصدق، وفي الحالتين أنت لا تصل إلى هدف الكاتب بشكل مباشر، وأتصور أن عزمي بشارة بذل مجهوداً كبيراً جداً ليدخل بهذه السخرية إلى منطقة الفن، وخصوصاً أن الرواية كبيرة تتجاوز صفحاتها أربعمائة وخمسين صفحة، انظر إلى طريقة عزمي بشارة في السرد:

“وهكذا دواليك مما خبره السيد الشاب النبيه عمر علي الجنابي الذي ضل الطريق إلى “المهن الحرة” التي يختارها أبناء الأقليات باعتبارها حرة عن الدولة، معتقدا أنه ثوري محترف، فما احترف شيئاً إلا وعافته نفسه بعد حين، ولم يبق من الثورة غير أعصاب تثور وتخمد بعد حين تباعا”.

أو:

“لكن أكثر ما يثيرهم بغض النظر عن أشكال التعبير عن الانزعاج هو وجود الباقين الموجودين في المكان، فهم لا يؤممون، وبالرغم من رغبة بعضهم أن يؤمم بفتح الميم لا يرغب أحد بتأميمهم، يمكن تحويل كل شيء إلى قومي أو إلى جزء من الأمة إلا الناس الباقين في المكان الذين يذكرون بتاريخ آخر، كما يذكرون بالواقع في بلاد الحواجز الواقعة وراء الحواجز، إنهم يذكرون بزمان آخر لهذا المكان وبمكان آخر في هذا الزمان”. وهكذا وعلى هذا النحو في كثير من “كليات السرد” أي المعنى الكامل، لكن يمكن أن تكتشف في كثير من الأحيان أن المقصود هو مقلوب المعنى، الذي يشير إلى أن المعنى الذي أمامك هو مأساة رغم ملهاة الأسلوب.

على هذا النحو يمضي السرد كما قلت، لكن سرعان ما تكتشف أن قدرة الكاتب على اقتناص المعاني المتواترة، التي تشي بها اللغة، والإحساس بإيقاعها، يجعلانه يصل إلى غايته من طرق قصيرة رغم ما يبدو على عكس ذلك في مناطق أخرى، فمثلا في أحد الحوارات بين دنيا وعمر بطلي الرواية الأساسية، اللذين في الحقيقة يتوازيان جدا وراء بانوراما الحياة العربية في فلسطين والفلسطينيين في بلاد العرب و”إسرائيل”، على طريق الكاتب وإن لم يقل ذلك في أحد الحوارات، يقول عمر:

“أيوا، كل شيء يجب أن يكون طبيعياً، طبعاً طبيعي، خاصة في الطبيعة، طبيعي أن يحاولوا التصرف بشكل طبيعي، وهذا ليس طبعا بالطبع، بل هذا موقف يعني تطبعا..”.

كم مرة جاءت كلمة طبيعي وطبع هنا، لا شك أنك كدت تتضايق، لكن عندما تصل إلى “تطبع” ثم تقول دنيا:

“ومن هون أجت كلمة تطبيع حبيبي”.

تعرف أننا في موقع الجد وإن شابهه الهزل حتى ولو قال عمر لدنيا بعد ذلك “ما بعرف، يمكن ما بعرف” ليس مهما أن يعرف هنا أو لا يعرف حقاً، وربما يكون الكاتب خجلان من أن يصرح، لكننا عرفنا وتقبلنا العبارة الطويلة المليئة بالجناس والطباق البلاغي ولو بدا أن الحوار بالعامية!

إذن ينتقل سرد الكاتب في بعض الأحيان إلى شخصية عمر، ولا أحب النقد الذي يماهي بين السارد والبطل، فهو نقد كسول وسهل رغم ما يغري به من نتائج أحياناً، وفضائح أخرى، ليس في هذه الرواية مجال لها ولا أحب المناهج التي تحاول أن تجد شيئاً من حياة الكاتب في شخوصه!

انظر إلى عمر مرة أخرى في حوار آخر مع دنيا، في منتصف الفقرة الطويلة يقول:

“وجاء عصر الديمقراطية الكذابة، الديمقراطية المنزوعة الديموس، وتنوع الحديث بالديمقراطية حسب اللهجات ففي القرية المجاورة على بعد كيلومترين تلفظ ديمؤراطية، وفي القرية التي تليها ديموجراطية، ولكن الأطرف هو لفظها بسرعة فائقة عندما يحتد النقاش دمقرطية من دون أحرف صوتية تقريبا، هاي دمرطية هاي؟ هاي دمغية هاي؟ هيك الدمطية؟ هيك؟ هيك الدمراطية هيك، هاي ديمقراطية”.

هذا هو حوار صعب، أصعب من النموذج الذي سقته من قبل، كلمة ديمقراطية نفسها صعبة التكرار، لكن النهاية كاشفة، إذن تحمل الحوار من أجل النهاية ممكن، لكن هذا طبعاً سيختلف من قارئ إلى آخر خصوصاً أن الحوار في بعض الأحيان يصل الكلام فيه إلى صفحة كاملة لشخص واحد، ليس هذا كثيراً لكنه يحدث، وهنا يجد النقاد إغراء سريعاً أن الكاتب سرعان ما يحمل الشخصية على كتفه ويجعلها تعلن رأيه، خصوصاً أن حياة عزمي بشارة ونشاطه السياسي يغريان بذلك، لكنني هنا أيضا أحب أن أؤكد العكس، فالشخصية تنطق كلامها، فعمر مثقف، رغم أنه استقر يعمل في النجارة، وعمر سافر إلى الخارج ودرس الحاسوب، ويعيش وسط شعب وقضية مطروحة في الحياة كل لحظة، وفي الفضائيات القضية الفلسطينية أحياناً تبدو كلاماً في كلام بالنسبة لأشخاص مثلي ولدوا وعاشوا يسمعون بها ويكتوون بنارها ويئسوا من حل في القريب العاجل أو الآجل لها، فما بالك بالفلسطينيين، أو قطاع منهم، أو لحظة تأمل يشوبها شيء من العبث القادم من فرط التضحيات.

“الحب في زمن الكوليرا” هو عنوان رواية شهيرة لماركيز، وربما كان هذا العنوان في ذاكرة عزمي بشارة، لكن طبعاً مع اختلاف الموضوع، ورغم أن ماركيز سمى الأشياء بأسمائها دون سخرية، فقصة الحب التي تمتد لأزمان طويلة لا تتحقق نهايتها في أمريكا اللاتينية المصابة بوباء الديكتاتوريات، وقصة الحب هنا أسهل، والعنوان رغم انه نافذ، إلا انه يحمل ظلاً كبيراً من السخرية والحقيقة معا، فالحب يجري في فلسطين المحتلة منذ ،1948 وراء الحاجز، أو في دولة الحاجز الذي يلخصه بشارة في مفتتح الرواية “حتى على بلاد الحواجز تشرق الشمس كل صباح، وفي كل صباح تلقي الشمس بأشعتها على الحاجز من جهة الشرق فيسقط ظل الحاجز على الأشياء في الغرب”. وبالطبع على الناس.

والحاجز هو القضية الفلسطينية بامتياز، والأشياء والناس في الغرب، هم عرب “إسرائيل”، ومن البداية نعرف أننا في رواية عن المكان رغم زمنية الوقائع والأحداث، لذلك ففصول الرواية كلها هي عن الأماكن المختلفة بشكل أو بآخر، وأحيانا يبدو ذلك في عنوان مباشر ودال مثل “مكان”، “بلدة” عموم الناس في الحيز العام، “بلدية” “تمثال ونصب وما بينهما من أصدقاء”، “رينوار في الأنوار”، “كيف فارق عمر ظله”، “ظل الظل”، “في الطريق إلى بلاد الطيور”، “في بلاد الطيور”، وأحيانا بشكل غير مباشر كما في “صحافة”، “بطن عمر”، “حياة من دون تشات”.

في هذه الرواية شيء من الصعوبة يأتي من وفرة المناقشات أو الاستطرادات وفيها كثير من الفتنة يأتي من قدرة الكاتب على السيطرة على هذا الكم الوافر من المعلومات، بدءا من السياسة، حتى “الشات”، مروراً بأشياء كثيرة جدا، تشكل عناصر المكان/ الأماكن في الحقيقة، كالطبيعة والنبات والمهن والأعمال والعلوم والتعليم.. إلخ إلخ، حتى الأزياء ودقائقها وتطورها المرتبط بالتطور الحضاري، الذي يعده البعض أقداراً، والآخرون تطوراً، وهذه السيطرة قيمتها في أننا نتقبل ذلك كله ليس باعتباره آراء مباشرة ولكن باعتباره تجليات زمانية في مكان في الظل، كان على الكاتب فقط أن يقتصد في الحوارات الطويلة، التي تصل كما قلت في بعض الأحيان إلى صفحة كاملة على لسان الشخصية، لأنه في هذه الحالة قد يفقد القارئ اليقظ انتباهه، ويحدث التماهي الخطر، وفي النهاية بعيدا عن دراسة الرواية كشخصيات وموضوع محدد، عزمي بشارة رغم كونه سياسيا ومناضلا يعرف آليات السرد الأدبي لكن لا يمكن بسهولة تبرئته من وطأة الفكري عليه ويشفع له بقوة طريقته في السرد وتهميشه للأفكار والرؤى إلى تفاصيل التفاصيل بحيث ننسى أن الكاتب في الأصل سياسي ومفكر.




* روائي مصري



التعليقات