روح الإلهة اللسانية الميّتة يتجلى في بناتها الحيّة/د.سمير خلايلة

-

روح الإلهة اللسانية الميّتة يتجلى في بناتها الحيّة/د.سمير خلايلة
يتكرر مشهد محاكمة أنبياء الثقافة الجديدة في كل تحوّل حقبوي عظيم في تاريخ الفكر والثقافة. يبدو أنّ أيّ ميلاد لرؤية ثقافية جديدية أساسية تقترن عادة بمحاكمة نبيّها المركزي: محاكمة وإعدام سقراط بميلاد العقل الإغريقي الكلاسيكي, محاكمة وإعدام النبي عيسى بميلاد العقل المسيحي, ومحاكمة غاليليو بميلاد العقل العلمي الجديد, ومحاكمة النبي محمد بميلاد العقل العربي الإسلامي, ومحاكمة وإعدام الحلاج بميلاد العقل الصوفي المتنوّر (إبن عربي يتحدث مثلا عن دين الحبّ الكلي الشامل).(انظري Richard Tarnas 1991: 395, The Passion of Western Mind).

إنّ إعلان الفيلسوف فريدريك نيتشه عن خبر موت الإله (المسيحي) في "العلم المرح" على يد الأخرق كان فاتحة إغتيال المطلق ببُعده الفلسفي والعلمي والديني العقائدي والأيديولوجي والميتافيزيقي وتنصيب "مطلق" إنساني جديد يزيّن جمهورية عقل مابعد الحداثة بالنسبية والتعددية والمنظورية وحتى العدميّة. (وحدهم المبدعون قادرون على التدمير!) الموت الرمزي للإله كان يمثل تجاوز اليقين العقائدي والمعرفة الفلسفية والعلمية وتوكيد إحتفال الحياة المتغيرة العرضية النهائية. لقد بشّر إستشهاد نيتشه و"جنونه" بعقل مابعد الحداثة.
أتصوّر أنّ بداية إحتضار اللغة العربية الكلاسيكية كخطاب سياسي-ديني-فلسفي-علمي تمثلت بأفول شمس الإمبراطورية الإسلامية وإنتهاء العصر الذهبي للعربي-المسلم وبزوغ الإنحطاط وتقطيع أوصالها. مثلما إنبثقت لغات الرومانس( Romance, خاصة الفرنسية, الإيطالية,والإسبانية) عن اللغة اللاتينية وضمنت خلودها في "بناتها" أو ظلالها, إنبثقت كذلك اللغات العربية (مثل العربية الفلسطينية, العربية المصرية, العربية العراقية, والعربية المغربية) عن اللغة العربية السامية القديمة وتخلّدت روح الأخيرة عبر الحياة الديناميكية لهذه اللغات خاصة على مستوى المُعجم وأبنية الإشتقاق. لم تعد اللاتينية والعربية الكلاسيكية موجودة إلا في الكتب والمعاجم وحاضرة في بيوت الله (الكنائس والمساجد) لأنّه لا يوجد أي أنسانة أو إنسان تتكلم أيا من اللغة اللاتينية أو العربية الكلاسيكية كلغة الأم. لا يُستغرب اذا أنّ أصحاب النزعة المحافظة والسلطة الدينية الأصولية تتمسك بحبال الإيمان اليقينية لتظل ساكنة في روح السكينة والطمأنينة الفردوسية على الرغم من عقلانية الموقف الذي يبرهن على موت هذه الآلهة لانها تدرّ عليهم بالرأسمال المادي, الروحي والرمزي السلطوي.

لا أستطيع أن أخفي أنّ الفضول البشري للحفر والتنقيب في بطون الماضي (خاصة إذا كان عريقا وذهبيا) متأصل في الطبيعة البشرية ويعرض هذا الماضي موادا خاما هامة في مختبرات الفكر. فوجود المتاحف التي تحافظ وترعى إنجازات الحضارات القديمة يشكل دليلا حيا على الأهمية الكبرى التى تنسب الإنسانة العصرية للتراث السلفي الإنساني (العالمي) والمعنى الجوهري الذي تشتقه لفهم الذات والهوية الإنسانية. فالوقوف والتأمل النظري في إنجازات الحضارات الماضية أنتج رؤى فكرية خلاقة عند ماركس و فرويد ويونجYung) ) وآخرين.

كل هذه الرؤى كانت ممكنة ومثرية فقط بسبب المنظور البنيوي الآني (synchronic) وليس التاريخي ((diachronic وإختيار المنهجية العلمية (scientific paradigm) ذات الصلة في إلقاء الضوء وقذف النور في صدر الطبيعة البشرية الغامضة والمركبة.

إنّ كون عالمات وعلماء اللسانيات لا يتحلون بقدرة إلهية في إحياء الميت (حتى لو كان هذا الميت إلها) يُجهض أي محاولة لمثلنة (idealization) الموروث السلفي ولغته إذا أتخذ موقفا بحثيا خاطئا ولا محال من إنتاج الرماد وإعادة تكرار وإجترار الأفكار والرؤى التي كانت في التراث. أن نقرأ مثلا كتاب سبويه بعيون الماضي مضيعة لطاقة العقل وخصي للخيال العلمي المبتكر.

باعتقادي لا يمكن حتى فهم الرؤى اللسانية فيه تماما إذا لم يقرأ من منظور علم اللسانيات الحديث. (عدم الفهم هذا كان من نصيب الكثيرين من المستشرقين لنصوص النحاة العرب القدامى لأنهم قرؤوها بعقل معتقل .) فالجانب المهم والمثير لهذا العلم هو فتح نافذة جديدة لإلقاء الضوء على العقل والطبيعة البشرية, لانّ اللغة تكوّن بعض ذرّات هذا الكون الفيزيائي-البيولوجي واللغة لها تمثيل مجرد في الدماغ/العقل البشري ويمكن إعتبارها جزءا منه وأيّ تنظير لساني في لغة طبيعية ما يكشف المبادىء البنيوية التي تقوّم كل لغة طبيعية (نوعم تشومسكي).

السؤال المركزي الذي يجب أن يُطرح في هذا السياق هو كيف يمكن إعادة إحياء اللغة العربية الكلاسيكية بعد أن شبعت موتا وسوّست عظامها؟ لا يمكن الرد على هكذا سؤال إلا إذا كنا حداثيين وعلميين كفاية في التوجّه. عملية إنعاش وضخّ دم جديد في اللغة العربية الكلاسيكية يكون حقا ناجعا فقط إذا وظّفت حقائقها في نَمذَجّنة (modeling) النحو الكلي/الشامل (Universal Grammar) وتركيز البحث أكثر على بناتها اللغات العربية الحديثة التي تفيض بمياه الحياة . إنّ تهميش البحث اللساني للغات العربية الحديثة والتركيز على اللغة الكلاسيكية يعكس بامتياز هشاشة النموذج البحثي. فقد تُصدم العالمة اللسانية لو سمعت أنّ مجمع اللغة العربية في البلاد لا يزال يعشق مضاجعة عظام اللغة الميته ويشارك في اورجيا ماراتونية لا تلج إلا أجسادا وأرواحا لسانية تُمرئي فساد الذوق الجمالي في إختيار مواضيع البحث اللساني. وستصدم حقا عندما تتعرف على التركيب الداخلي لهذا المجمع وفقر ثقافته العلمية لعلم اللغات الحديث. حقا ستبقى الإلهة اللسانية الميتة الأميرة الجميلة المغرية التي لا تقاوم في نظر هواة الذوق الجمالي الفكري لأنهم يتساكنون والإلهة في مقابر أبطالها. لقد حان زمن حضارة الأحياء هنا والآن.

التعليقات