عن المسرح الفلسطيني في الداخل والشتات/ أحمد الخليل

عن المسرح الفلسطيني في الداخل والشتات/ أحمد الخليل
في تجربته الإخراجية الجديدة (الوصية) يحاول الفنان زيناتي قدسية الخروج من الشكل المسرحي التقليدي باتجاه المسرح التعبيري المعتمد على الرقص والأغاني والموسيقا بإطار درامي.
يحكي العرض قصة رجل فلسطيني وابنته يعيشان في الشتات يتلقيان رسالة من الابن الذي عاد إلى الأرض المحتلة بعد اتفاقية أوسلو (1994) تدعوهما الرسالة للعودة إلى الأرض (المستقلة)، الرسالة توقظ لدى الأب الذكريات والحياة التي عاشها في حيفا، فيسرد لابنته حكايات يافا والمجازر التي ارتكبها المحتلون الصهاينة في فلسطين لتهجير أبنائها إلى الدول المجاورة، وكيف قالت الدول العربية لهم: إن غيابهم عن فلسطين لن يستغرق إلا أياماً معدودة ولكن هذه الأيام المعدودة تحولت لعقود ولم تنتهِ..

في عودته يصر الأب على نقل رفات ابنه الشهيد معه إلى فلسطين، فيحمل معه التابوت الملفوف بالعلم الفلسطيني، لكن الحاجز الإسرائيلي على مدخل (الأراضي المستلقة) يمنعهم من الدخول لكونهم يحملون تابوت الشهيد، (فهم كما قال أحد الجنود لم يعرفوا كيف تخلصوا منه)، معهم فيسأل الأب ابنه ما هذا الاستقلال الذي حصلنا عليه؟، فيحاول الابن توضيح أن الاستقلال غير كامل لكنه خطوة أولى بعد التسوية، تثور ثائرة الأب ويشتم التسوية، وعندما يحاول الدخول عنوة مع تابوت ابنه الشهيد يفتح جنود الاحتلال النار عليه.. فيوصي وهو يحتضر بدفن جثته وجثة ابنه في يافا، هذه القصة الممسرحة التي كتبها محمد صوان ربما سمعناها وشاهدناها آلاف المرات في المسرح والفنون الأخرى، فهي مكررة بشخوصها ورموزها ودلالاتها الواضحة لدرجة السطحية، فالرجل الذي لا يتحدث إلا عن القضية ودائماً مشغول بالذكريات التي يرويها لابنته المندهشة لهذا الماضي الجميل، تحول إلى رجل (ايديولوجيا) ليس في حياته إلا حلم العودة إلى الديار.
ذكريات تتجلى مشاهد راقصة على الخشبة ، حيث نرى الخفافيش السوداء التي ترمز للاحتلال، ونرى الشعب الفلسطيني بألوان أخرى في صراع يتخذ شكل الرقص والغناء، في حين تقف شجرتين في عمق المسرح واحدة خضراء وارفة تدل على شجرة زيتون وأخرى تورق الكوفية الفلسطينية وأمامها يتأجج صراع راقص يرتدي فيه الراقصون الزي الشعبي الفلسطيني ويتبدل الزي مع المشاهد حسب مضمونها، ورغم وجود شخصيتين أساسيتين في العرض إلا أن الرقص والغناء طغى على الجانب الدرامي، فكنا أمام عرض شبيه بحفلة لفرقة العاشقين سابقاً، وما زاد الطين بلة في العرض تركيب صوت زيناتي قدسية على شخصية الأب (شوكت ماضي) من خلال عملية دوبلاج مع تقنية (البلي باك)، وكأننا في مشاهد من مسلسل تركي مدبلج، والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا (الدوبلاج والبلي باك) وليس الحي (لايف) رغم استمتاعنا بالتلوين الصوتي والدرامي لأداء زيناتي قدسية وقدرته الكبيرة على التأثير بصوته، لكن هذا الأمر حوّل المسرحية (لسكتش) غنائي لا يمت للمسرح بصلة، وغير جدير بأن يقدم هدية لاحتفالية القدس عاصمة للثقافة العربية العرض ينتمي لزمن غابر ولأفكار (تنظيمات حزبية) حولت القضية الفلسطينية لقضية فلكلور ولمجموعة أهازيج يتم اجترارها مع كل احتفال بمناسبة انطلاقة الجبهات في أمكنة الشتات، في حين يتقدم المسرح الفلسطيني (في الداخل) مقترحاً أفكاراً جمالية وفنية مدهشة ترتقي بالقضية لمستوى الإنسان الفلسطيني ولمستوى الإنسانية عامة، ومن تابع عروض مسرح القصبة (قصص تحت الاحتلال) وتجربة عامر حليحل وبعض العروض الأخرى (الجدارية مثلاً)، يرى كم هو ساذج مسرح فلسطينيي الشتات إن كان هناك مسرحٌ للشتات مقارنة بالتطور المسرحي الذي صنعه فنانو الداخل متجاوزين كل الصيغ الأيديولوجية الجبهوية والتعبوية التي اكتفت من القضية بالشعار!! عرض الوصية كما أطلقت عليه الزميلة فاديا أبو زيد جدير بأن يسمى (سهرة مع العسكر).

وقد حاول المسرحي التونسي محمد العوني مدير ندوة المسرحية الفلسطينية (قصة ساحة الورد) تقديم مفاتيح لفهم العرض الذي كان فاتحة المهرجان حيث شبه العوني الفلسطينيين بالعصافير التي تبني عشها من قش وعيدان، بينما الوقواق (الإسرائيلي) لا يبني عشا له إنما يسطو على عش موجود، فيكون قدر العصافير مقاومة الوقواق بمناقيرها وريشها وحناجرها، هنا المقاومة في العرض حسب العوني تكون بالخناجر وبالأجساد وبالإضاءة واللعب والرقص والحكايا والغناء…

وكأن العصافير (الفلسطينيين) يقولون للوقواق (الإسرائيلي) إن الذي تصهين عليه ليس عشا من عود وقش انه مدار من مدارات الرعب.

المسرحية تكثف من وجهة نظر العوني لعبة الحياة والموت، إن نساء ساحة الورد لسن كالأخريات هن قطاع طرق من سلالة الشنفرى وعروة والسليك يبيتون على الطوى ويصارعون الجوع، كان سكان ساحة الورد يعيشون حياة هادئة عادية قبل دخول الوقواق إلى حياتهم فحملوا صلبانهم من بلد إلى بلد مستنهضين الهمم صارخين في أهل الصحراء (هل الصحراء حولكم أم فيكم )؟!

ويرى العوني أن العرض اتخذ خطين خط السرد وخط الفعل مع استخدام لغات متداخلة مرمزة لتقديم صورة مركبة للمسرح الشامل الذي يمتزج فيه التمثيل بالموسيقى بالغناء بالرقص…

نحن أمام محاكاة متعددة المستويات أفكار للإيحاء وعواطف لاستثارة الأحاسيس وإشراك المتفرج فيها، السلالم والحبال قد تشي بإمكانية استنهاض فعل الصعود إلى المستقبل وربما ترمز إلى ربط الواقع بالمجهول ..

ان مسرحية ساحة الورد تتكئ على الرموز والإشارات، والخطاب في العرض ليس مرسلا إلى أجهزة الوعي المنطقي فحسب بل يتعداها كما يرى محمد العوني إلى ما تحت هذا الوعي أي إلى مخزن الرموز…

بعض المهتمين في المسرح من الحاضرين خالف العوني فيما ذهب إليه، فرغم الجهد والحماس لدى شباب الفرقة والرقص والتمثيل المتقن إلا أن الكثيرين ربما لا يستطيع فهم هذا العمل، فمحمد غباش يعتقد بأن المتفرج لا يستطيع فك شيفرة العرض ورموزه إلا إذا كان مطلعا على الميثالوجيا الفلسطينية، من ناحية ثانية وقع العرض في الرتابة (المونوتون) رغم الأداء الجيد.

ولا تبتعد كاميليا بطرس عن رأي غباش كثيرا فهي ترى أن العرض فيه غموض ورمزية شديدة وتتساءل بطرس كيف سيفهم الجمهور هذا العرض؟

من ناحية ثانية أثنت بطرس على الإخراج وقدرة المخرج على الإمساك بجميع خيوط العرض ليصل إلى هذا التماسك والفرجة الجميلة، لكنها طالبت المسرح بأن يكون سلسا وبحاجة لإراحة المتلقي، لا إلى إملاله وتضجيره.

المسرحي التونسي المقيم في ايطاليا حافظ خليفة وصف العرض بالهاوي وليس المحترف وأحيانا يقدم الهواة عروضا أفضل من المحترفين، وأثنى خليفة بدوره على العرض معتبرا أن من الضروري خروج المسرح من السجن السياسي، والمشكلة أن السياسة دخلت في تركيبة الناس…واعتبر خليفة أن العرض هو من المسرح الجديد الذي يقدم القضية الفلسطينية بأسلوب جديد..

المسرحي السوري رفيق سمعان ركز على موسيقا العرض واعتبرها ضابطا لإيقاعه كونه عرض راقص وعبر عن استمتاعه بالعرض واصفا إياه بالجميل…ومعبرا عن غبطته بالعرض قال سالم من ليبيا: انه عمل رائع وكأن المسرحية تقول: نحن في فلسطين نرقص، نقاتل، نغني…

مخرج العرض عامر حليحل استمع إلى كل المداخلات ثم قدم رؤيته ورده على بعض الآراء…اعترف المخرج في بداية حديثه أنه واجه بعض الصعوبات التقنية لكن هذا الأمر لا يهم الجمهور وغير معني به، ثم تساءل: ألا يحق للفلسطيني ما يحق لغيره؟ يجيب حليحل دوري كفلسطيني ليس تقديم تقرير عن الأحداث أو عن تاريخ فلسطين، وكفنان لا أقدم ريبورتاج سياسي عن الأحداث اليومية في فلسطين هذا لا يخدم الفن إطلاقا، فالفن أولا ثم القضية، ويضرب مثالا لتدعيم وجهة نظره (محمود درويش تحول من شاعر مباشر إلى شاعر إنساني فنجح أضعاف ما نجح في العقود الأولى من حياته..فالفلسطيني إنسان أولا وأخيرا رغم أنه يعيش في ظروف قاهرة.

ويضيف حليحل: علي كفنان تجريب أدواتي من خلال السؤال التالي ما هي هوية الفن الفلسطيني؟! وباعتقاد عامر المسرح والسينما الفلسطينية حتى الآن ليس لهما هوية، هناك تجارب فردية مهمة على هذا الصعيد بحثت عن الفن، والمسرح الفلسطيني إذا بقي يعيش على القضية سيفشل، المهم الآن البحث عن الأدوات الفنية التي تطور المسرح الفلسطيني.

واعتبر حليحل أن عرضه ربما هو صعب على المشاهد البريء فالرمزية هي لشد الجمهور إلى الأعلى ومد الحدود بين المسرح والجمهور سعيا لتقدم المسرح وتطويره فنيا، وأبدى حليحل استغرابه من ربط النجاح بعدد الذين فهموا العرض مشددا على الارتقاء بالجمهور من خلال الرمز وعدم المباشرة بالطرح، وبالنسبة للموسيقا قال المخرج أنها شخصية أساسية من شخصيات العرض والتوتر الذي في الموسيقا هو مقصود بحسب مشاهد العرض، أما بخصوص المشهد الأخير (مشهد العرس): هو مأخوذ كما أراد الكاتب من الطقس الفرعوني، فالعروس كأنها قربان ستلقى في النهر والقصد من المشهد شم رائحة الموت فيه، وردا على اتهام البعض بالرمزية شرح المخرج ارتباطه بالنص والمحاولات العديدة الفاشلة التي جرت لإعداده أو تطويعه لكنه فضل بالنهاية (الإبقاء عليه كما هو بكل رمزيته وجمالياته وإشكالاته).

والمسرحية من تأليف الراحل حسين البرغوثي.


(عن صحيفة "البعث" السورية")


التعليقات