قراءة فى تاريخ الشعر الصيني / - د. عماد الدين الجبوري*:

قراءة فى تاريخ الشعر الصيني /  - د. عماد الدين الجبوري*:
على الرغم من أن الشعر الصينى تمتد جذوره إلى أعماق التاريخ، إلا أن النسق العام الذى ظل مسيطراً لعصور وأزمنة طويلة على محور القصيدة الصينية هى "الطبيعة".

وهذا الأمر يعود إلى صلة الأدب بفلسفة الصين الأولى فى الطاوية، والتى تعنى "المنهج" أو "الطريقة" فى نشوء وتكوين الوجود بأسره. فالطاو هو الخالق، وكل أشياء الطبيعة هى "أرواح". ولذلك يطلق الصينيون على الملك لقب "ابن السماء".

وإذا كانت هذه المبادئ تتعلق بالجانب الماورائي. فإن الجانب الطبيعى ونظراً لجغرافية الصين الشاسعة والمتنوعة التضاريس من جبال وثلوج وسهول ومروج وصحارى، برارى ومياه نهرية وبحرية، كل ذلك جعل من التفكير الصينى أدباً وفلسفة أن ترتكز حكمته على الطبيعة بما فيها من مكونات وظواهر.

وهذه الخاصية فى القصيدة الصينية تجابهها فى القصيدة العربية خاصية "الحب" التى بقت مستمرة على نسقها حتى يومنا هذا.

حيث يبسط الحب نفوذه على قالب الشعر وأدب العرب. فالشاعر يستطيع دائماً وفق روعة فائقة أن يوظف كل تفنن فى وصف جمال المرأة ومحاسنها ورقتها وسطوتها على قلب الرجل، وذلك عبر سبك فى التعبير والبلاغة والمبالغة.

وهذا طبعاً يعود إلى أن الشخصية العربية كونها عاطفية بشكل عام. وهذا ما يجعل الفرد العربى بالقدر الذى يغضب بالقدر الذى يتسامح.

عموماً سوف نستعرض مراحل تطور الشعر الصينى وفقاً للمراحل الزمنية وليس حسب السلالات التى حَكمت، لكى تكون لنا صورة شمولية مختصرة. كما وأن جميع مصادرتنا منقولة من الترجمة الإنكليزية، منها: "مئة وسبعون قصيدة صينية" لآرثر واليي، وكتاب "الأدب الصيني" لوانغ وينغ، وغيرها.

ما قبل التاريخ
يعد تشو يوان "332-290 ق.م" من أبرز الشعراء الكبار فى الأدب الصينى القديم. ولقد اخترنا منه قصيدة "دعوة عظيمة". حيث يتناول فيها "دعوة الروح" بأن لا تتجه نحو الجهات الأربع من الأرض، لأسباب كثيرة يسردها فى قصيدته التى يقول فى مطلعها:

خضارُ الربيع يُرحب
بالأرض المهجورة
ضياء الشمس الأصفر
وريح الربيع يُثيران
بروز التزهر
فى كل برعم وزهرة.
الثلج القاتم ذاب وتحرك، ولا يخفى روحي!
أيها الروح، أرجع ثانية، أوه لا تتيه!

أما الأميرة هسى – تشون ففى عام "110 ق.م" تم إرسالها، لأسباب سياسية، إلى مملكة وو – سون البعيدة لكى تتزوج الملك كون مو، لكنها عندما التقت به وجدته عجوزاً مقعداً.

بل ولم يرها غير مرة أو مرتين خلال سنة واحدة، وذلك عندما شربا معاً قدحاً من الراح، دونما أن تكون بينهما محادثة الأزواج الخاصة، حيث أن لغتهما مختلفة.

علاوة على فارق السن، فاشتد على الأميرة الشابة الحزن والألم بسبب هذا الزواج التى هى ضحيته لا أكثر، فأنشدت قصيدتها "نواح هسي-تشون" حيث تقول:

إن شعبى زوجني
فى زاوية بعيدة من الأرض:
أرسلونى بعيداً نحو أرض غريبة،
إلى ملك الوو – سون،
الخيمة هى بيتي،
اللباد هو جداري،
اللحم النيء طعامي
عصير الثجير شرابي.
أفكر دوماً بوطني
والشجن يسكن قلبي.
أود أن أكون لقلقاً أصفر
أطير إلى بيتى القديم!

من القرن الأول إلى السابع الميلادي
فى هذه الفترة كان الشعر الصينى ينساب بشكل رتيبى وفقاً للطراز القديم، مع مراعاة التغييرات فى التقدم الزمني، ولذلك تجد تشانغ هينغ "78-139" فى قصيدته "راقصات هواى – نان" يصف مدى إعجابه وإنجذابه للراقصات الجميلات فى الملهى الليلي، نورد منها هذا المقطع:

آلات الموسيقى متأهبة
وفى أقداحنا خمرة قوية:
أغانى الناى تُهيج وجلبة الطبول الساحرة
الصوت ينتشر كالرغوة، تموجات حرة كالطوفان...
وعندما الشاربون صاروا سُكارى
والشمس نحو الغرب مالت
نهضن للرقص الجميلات.
متحليات متزينات.
برداء رقيق متحجبات
حللن الوشاحات.
رؤسهن بشرائط معصوبات
وللالتصاق قليلاً مطيعات.

ويقول الشاعر تشى كانغ "223-262" فى قصيدة "نشيد الطاوي" حيث يعبر فيها عن نفسه، كيف أنه كان من أتباع مذهب الطاوية؛ لكنه قرر أن يتركها ويتبع طريقته الخاصة، غير أن سرد القصيدة توحى بأنه لم يخرج تماماً عن طريقة المذهب:

سأطرح الحكمة وأرفض التعليم،
أفكارى ستهيم فى الفضاء العظيم.
أكرر دوماً فعل الضيم
فلا تجلب لقلبى النوم.
فى النهر الوحيد ألقى صنارتي
كأنى املك المملكة وتلك هى متعتي.
يشارك إحجامى الرجال الذين معي،
هى ذى الغاية من نشيدي:
أفكاراً ستهيم فى الفضاء العظيم.

أما هسو لينغ "507-583" فقد نظم قصيدته "مياه لونغ – توو" وهى منطقة تقع فى الشمال الغربى من حدود الصين. حيث يصف طبيعتها قائلاً:

الطريق الذى اجتزته عبر الجبال الشاهقة:
النهر الذى عبرته بمنحدره الشديد.
العليقات الثخينة، فى الصيف لا أحداً يعبُرها،
قمم الثلوج، فى الشتاء لا أحداً يتسلقها!
الأغصان متشابكة
تجعل وادى لونغ معتماً:
نحو المنحدرات، صوت المرء يعلو متكرر الأصداء.
أدرت رأسي، كأنه يبدو حلماً
وصلت شوارع هسين – يانغ.

القرنان الثامن والتاسع الميلادي
يعد القرن الثامن أحد أهم ذروات الأدب الصينى أثناء فترة سلالة تانغ التى حكمت الصين. ومن أهم فطاحل هذا القرن هم الشعراء: لى باي، وينغ ويي، دو فو.

إذ هؤلاء الثلاثة من حيث مبدأ المقارنة أشبه بشعراء العصر العباسى الأول فى الرقى الأدبى المميز على مدى التاريخ. بالإضافة إلى المستوى الحضارى والاجتماعى عند الصينيين وعند العرب أيضاً فى تلك الحقبة من الزمن.

ففى ذلك الوقت كان اللغوى الخليل بن أحمد الفراهيدى "96-168ه/718-791م" واضع "علم العروض" للشعر العربي. كما وأنه أول من ألف قاموساً عربياً. وكذلك الشاعر الساخر أبو نواس "134-192/756-814" ورهط غيرهم.

على أية حال، سوف نأخذ مقطعاً واحداً من كل قصائد أولئك الشعراء الثلاثة. بالنسبة إلى لى باى "701-762" فإنه كتب قصيدته "الحسناء الجليلة يانغ" التى كانت من أجمل سيدات البلاط، ومن أفضل المحظيات عند الإمبراطور تانغ إكزيوان زونغ الذى حكم ما بين "725-768".

ولقد بالغ الشاعر فى رباعيته أيما مبالغة فى تعظيم جمالها حتى جعلها تضاهى الإلهة غوديز، إلاهة القمر:

وجهها فى الزهرة يُرى،
جمالٌ، بلوعة العناق، بنسيم الربيع،
هى ملكة الجمال،
هى إلاهة القمر، بلورة فى البلاط تُرى.

أما الشاعر وانغ ويى "701-761" فقد ذاع صيته فى أرجاء الصين واليابان وكافة أقطار شرقى آسيا.

وإذا امتاز شعر لى باى بالحب الصريح، فإن وانغ ويى امتاز بالعاطفة الدافئة. وقصيدته "نشيد إكزى شي" يكشف فيها هيامه ولوعته بهذه السيدة حسناء مملكة يوي، حيث يقول:

كسائر العالم الذى يفكر فى الجمال،
أيمكن إكزى شى أن تحيا بلا شأن؟
فتاة نهر رويى صباحاً؛
وخليلة قصر وو ليلاً.
أيختلف الواحد عن الآخرين إن بقى واهناً؟

وعن دو فو "712-770" فإن شعره امتاز بالتعبيرية الحديثة وقتذاك، حيث لم يحصر نفسه بعالم الشعر المتقد بالوجدان والهيام ولظى اللوعة، يقول فى قصيدة "نشيد السيدات الجميلات" ما يلي:

فى آذار الهواء منعشا،
على الضفاف تتكوكب سيدات تشانغان جمالاً ومرحا.
نظراتهن بهيجة وسامقة، مهذبة وهادئة،
متزنات القوام لحماً وعظاما، وناعمات البشرة.

فى القرن التاسع استمرت فترة ازدهار الأدب الصيني، وهى نفس الفترة أيضاً بالنسبة للأدب العربي، فقد كان هناك أبو العتاهية "126-204ه/748-826م" الذى اتصف شعره بالنزعة الزهدية.

وكذلك أبو تمام "-223ه/-845م" الذى تميز شعره بالمعانى الجديدة، وآخرون غيرهم. عموماً كان هناك بضعة شعراء لهم الباع الطويل منهم: لو لون، لى بي، مينغ جياو، كوان دييو، خان يو، باى جويى وسواهم.

ويعتبر يو تشو – ى "772-846" من كبار الشعراء البارزين. ولقد اخترنا منه قصيدة "مجنون يغنى فى الجبال" حيث يقول فى مطلعها:

لا أحداً بين الناس بلا مشاعر حميمة.
ومشاعرى تكمن فى نظم الأشعار.
هربتُ من عُقد الحياة:
ومازال هذا الضعف باقيا،
كل مرة أتطلع نحو المناظر الطبيعية الخلابة:
كل مرة التقى مُحباً،
أرفع صوتى وألقى مقطعاً شعرياً.

من القرن العاشر إلى التاسع عشر

وفى هذه القرون حكمت الصين عدة سلالات من أواخر فترة سلالة تانغ ثم أعقبتها سلالة سونغ التى استمرت إلى أوائل القرن الخامس عشر، بعدها جاءت سلالة مينغ حتى العقد الرابع من القرن العشرين التى اطاحتها الثورة الشيوعية.

أما الشعراء الذين برزوا فى فترات تلك السلالات الحاكمة فهم كثيرون، ولكن يتربع على رأسهم ويى زهوانغ، تساو سونغ، دو إكزونهي، لى يو، لى تشينغ وغيرهم.

وفى قصيدة "نقش للصورة" للشاعر تانغ يين "1470-1523" الذى راعه سقوط تويجات الأزهار بأول المطر. وعندما سألته خليلته عن أيهما الأجمل هى أو التويجات، أجابها:

سألتني: "أيهما الأجمل
التويجات أم بشرتي؟"
أجبت سؤالها:
"تفوز التويجات بالبراءة".
فى سماع هذا، خليلتي
كشفت عن غضب ساحر
رافضة تصديق ذلك،
فتت حفنة الأزهار
وفى وجهى رمتها –
قائلة: "هذه الليلة يا عزيزي
أرقد مع الزهور!".

ومن مشاهير الشعراء فى العصر الحديث هو يوان ميى "1716-1798". نذكر له هنا قصيدة "أجمتى لا تشيخ" ويقصد بها ينبوع شعره الذى لا ينضب:

نظم الشِعر مثل تزهر الزهور،
لو كان التزهر كثيراً، فالزهور عموماً صغيرة.
لكنها واحدة، لرجل قارب الثمانين،
مَن له قدرة سبر الذبول الطويل.
الناسُ يرومون الأشعار
مطالبهم طول اليوم مستمرة.
يعرفون دودة القز، حتى لحظة موتها،
لا تكف عن مد سيل خيوطها.

من شعراء القرن العشرين

مثلما كان بعض أباطرة الصين ينظمون الشعر أمثال: وو – تى من سلالة خان، وتشين وين – تى من سلالة ليانغن، ويانغ – تى من سلالة سوى وغيرهم. فإن زعيم الصين الكبير ماو تسي– تونغ "1893-1976" الذى قاد الشيوعية وأنهى عصور الإمبراطوريات من تاريخ الصين، كان ينظم الشعر أيضاً. اخترنا من بين قصائده العديدة قصيدة "الثلج" التى يقول فى بدايتها:

بلدُ الشمال،
ألفُ ميلٍ غطت بالثلج،
ألفُ ميلٍ من دوران الثلج؛
وعلى الجهة الأخرى من السور العظيم
صحراء مديدة وقفار؛
النهر العظيم من أعلاه إلى أسفله
ينعدم إن لم يستمر فى جريانه.

أما الشاعر الآخر فهو جيو جيو وقد مُنح هذا الاسم عن بنت ماتت فى سن الطفولة، وتعنى "باب – باب".

وأن اسمه الحقيقى هو لى شيزهينغ، ولد فى العاصمة بكين عام 1951. بدأ كتاباته الشعرية فى أوائل السبعينيات، كان له صيت ضد "الثورة الثقافية" فى عهد ماو. ويمتاز شعره بالحداثة والواقعية شأنه شأن بقية الشعراء الشباب فى العقدين السابع والثامن من القرن العشرين. فى قصيدة "أفكار وذكريات" التى كتبها فى عام 1972 يقول فيها:

صوت المدفع – مخففات دموية من رُعب الثورة.
شهر آب امتد كأنه قوس وحشي.
الرجلُ المُسمَ – طفلاً يمشى خارج زريبة الفلاح
يُدخن بلهاث جافة.
الماشية مضت بوحشيةٍ
والفضلات عالقة بشَعر أكفالها، كتكاثر المصفقين.
وحتى الآن الضحية وراء الخيزران محبوسة مخفية:
بعيداً عن اليابسة، الجنود يتوافدون من خلال الغيمة.

تقييم

إذا كان تطور الشعر الصينى جاء عبر مراحل وفترات زمنية شأنه شأن أى شعر بالعالم، إلا أن قمة ازدهاره قد تجلت أثناء حكم سلالة تانغ الممتدة ما بين "618-907". حيث أنها تشكل أهم وأعظم فترة فى تاريخ الصين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

وفى هذه الفترة أيضاً كانت الحضارة العربية الإسلامية فى أوج عظمتها وازدهارها. بينما كانت أوروبا تسبح فى ظلامها الدامس.

على كل حال، عندما يصف الشاعر لى باى جمال الحسناء يانغ، فإنه يستخدم هذه المفردات: "زهرة"، "عناق"، "نسيم"، إلاهة القمر". بينما وانغ ويى يقول فى أحد أبياته: "أيمكن إكزى شى أن تحيا بلا شأن".

فهذا سؤال حتمى تجاه امرأة فائقة الجمال، تسلب لب الرجال. أما قول دو فو فى وصف سيدات تشانغان، وبالأخص فى النتفة الأولى. فإذا تمعنا جيداً فى وصف أولئك الكبار الثلاثة حول جمال المرأة ومفاتنها وسحرها.

فإنهم لا يخرجون كثيراً عن نطاق الطبيعة، طبيعة الوصف البشرى داخل هذا العالم المادى من جهة. وما تعكسه فلسفة وعقلية وعقيدة أهل الصين فى حكمتهم بشكل عام من جهة أخرى.

وأمام كل تلك الأبيات نورد هنا بيتاً واحداً لأبى نواس يقول فيه:
وما على الله بمستكثر
أن يجمع العالم بواحد

فهنا التعبير لا ينحصر فقط فى البلاغة اللغوية، وإنما يتعداه حيث أن المسلم يؤمن بأن الكمال هو لله وحده.وعلى الرغم من أن أبا نواس يؤمن بذلك، بيد أنه يؤمن أيضاً بأن الله قادر على أن يجمع جمال البشر والطبيعة والكون فى امرأة واحدة تمتلك جمالاً خارقا لا مثيل له قط. وأبو نواس فى هذا الجانب إنما يُعبر عن المحور العاطفى المتصل بعقلية ونفسية الشخصية العربية تجاه المرأة والمجتمع والحياة.

هذا وإن الشعر المعاصر وفق النظم الحر قد أثر فى شعراء الصين أيضاً. رغم أن النظام الشيوعى حاول جاهداً أن يصد المد الغربى لاسيما فى الجوانب الفكرية والسياسية.

لذلك ما قدمه الزعيم ماو من أفكار وأشعار ونظريات، قد تعرض بعضها للإخفاق، خصوصاً فى الحقل الاقتصادى – الزراعي، وما أعقبه فى مرحلة "الثورة الثقافية" وردود فعل الشباب الصينى الرافض لها.

وكان بينهم جيو جيو وأقرانه من الشعراء، فى قصائد تتميز بالحداثة والواقعية تجاه وضعهم السياسى القاسي.

ولكن بعد أحداث الطلبة فى عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفيتى فى عام 1992، ثم عودة هونغ كونغ للصين فى عام 1997، والمرونة الاقتصادية التى تبنتها القيادة الصينية فيما بعد فى تغير منهجها الصارم. وكل ذلك جاءت نتيجته بشكل ايجابى للغاية فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين.

_________________________
* كاتب وأكاديمى عراقى مقيم فى لندن


.

التعليقات