قصص الأطفال السحري والتحليل النفسي: الخيال يفقد براءته

-

قصص الأطفال السحري والتحليل النفسي: الخيال يفقد براءته
كثرت قصص الساحرات، وتعددت شخصياتها وتحولت أساليب انتشارها. ففي القرن السابع عشر، انتقلت أطر سردها من المستوى الشفهي الى القصة المكتوبة. وتمت صياغتها من قبل عدة مؤلفين كالاخوة غريم (Les Frres Grimm) وبيرو (Perault). أما في القرن العشرين، فقد انتقلت قصص الساحرات الى الشاشة الكبيرة عبر اعمال ديزني الرائعة.

تجذب قصص الساحرات الاطفال لأنها تتناسب مع بساطة خيالهم، كما انها تعرض تناقضات وإشكاليات الحياة في عالم مطمئن تنتهي فيه المشاكل بطريقة ايجابية. وتجدر الاشارة الى ان هذه القصص كانت تتوجه للراشدين حتى القرن الثامن عشر حين باتت تتلى على مسامع الاولاد. فهي إذا بأصلها ليست موجهة للاطفال، بل تحمل في طياتها معاني عميقة تتعلق بالحالات النفسية الإنسانية. لذلك، تمكن برونو بيتلهيم Bruno Bettelheim من دراسة هذه القصص على ضوء علم النفس والمصطلحات الفرويدية، كما فعل في كتابه <<التحليل النفسي لقصص الساحرات>> Psychanalyse des Contes de fŽes.

تتشابه مجمل قصص الساحرات بالمنطق الذي تتعاطى من خلاله الشخصيات مع بعضها البعض وبسهولة امكانية حدوث ما هو غير طبيعي. والشخصية الاساسية تتمتع بمواصفات كاملة، فهي إما اميرة رائعة الجمال او فتاة مدللة او ولد صغير فائق الذكاء، فيضع الطفل المستمع الى القصة نفسه في موقع هذه الشخصية بسهولة.

تبدأ القصة الخيالية بوضع اساسي تخيّم عليه الطمأنينة ونوع من البراءة. ثم تبدأ التعقيدات التي تتجلى بالممنوعات وبعملية تجاوز هذه الممنوعات مما يؤدي الى الاشكال. يستوجب اذا استدعاء النجدة لمحاولة اصلاح الوضع، وتنتهي القصة بالانتصار الحتمي. تلك هي المراحل التي وضعها فلاديمير بروب اثناء دراسته لقصص الساحرات. هذا التحوّل على صعيد الحبكة هو بمثابة صورة لديناميكية معنوية على الصعيد النفسي.

فبالنسبة للولد الذي تسرد على مسامعه الاقصوصة، تتجسد اشكاليات الحياة عبر صور جميلة تفتح آفاق الحلم والخيال.
في هذا السياق، عرض برونو بيتلهيم Bruno Bettelheim دراسته حول قصص الساحرات ووقعها على مخيلة وأفكار الاولاد. فقد عرض، في كتابه <<تحليل نفسي لقصص الساحرات>> Psychanalyse des Contes de fŽes، نظرته التحليلية المتعلقة بمجمل هذه القصص رابطاً إياها بالمفاهيم الفرويدية، خاصة عقدة أوديب.

تحليل القصة السحرية

بحسب نظريته، هذه فإن قصة <<الفتاة ذات الرداء الأحمر>> Le Petit chaperon Rouge هي صورة رمزية تعكس المراحل التي تعرفها البنات في بدايات المراهقة. فالشخصية الاساسية هي تلك الفتاة الساذجة التي تعصي أوامر أمها لأنها تستجيب لمبادرة الذئب. فهي بذلك تستسلم لغرائزها رافضة التعليمات الاخلاقية والاجتماعية. فالذئب يرمز الى الرجل الجذاب الذي يحاول ايقاع الفتيات اليافعات في فخ الغواية. وقد يكون ايضا رمزاً للوالد الذي تريد الفتاة التودد إليه بالرغم من ارادة أمها، فتقع الفتاة ضحية عقدة الأوديب. ولكن الوالد لا يتركها في هذا المأزق، بل انه يظهر في نهاية القصة بشخصية الصياد لينقذ الفتاة وجدتها اللتين التهمهما الذئب.

ولكن القصة لا توحي بأن الفتاة ذات الرداء الأحمر هي حتما بريئة، فلون رداء ما يدل على رغباتها الجنسية. فهي تخرج من بيتها سعياً وراء الغواية، ولا تبدي تذمراً فعلياً حين تلتقي بالذئب، فهي الفتاة الساذجة التي لا تعرف كيف تدير رغباتها وغرائزها، فينتهي بها الأمر في المأزق. هذه القصة لا تهدف الى منع الفتيات الصغيرات من التعبير عن غرائزهن وانما هي امثولة توصي بالحكمة والحذر.

أما قصة <<الجميلة النائمة>> La Belle au Bois- Dormant فهي تجسد حالة متناقضة مع التي صورتها <<الفتاة ذات الرداء الأحمر>>. فإذا كانت هذه الاخيرة تعبر باندفاع كبير عن شهواتها ويتهددها الخطر بسبب ذلك، فالجميلة النائمة لا تظهر غرائزها الدفينة بل تغطس في ثبات عميق حتى يقبلها الامير، فتستفيق. تلك الاميرة لا تخرج من قصرها سعيا وراء الملذات، بل تختبئ في كنفه حتى يحين وقت اللقاء بالحبيب.

تصوّر قصة الاميرة النائمة حالة الهدوء في المراهقة، وهي تعد باللقاء العاطفي الذي لا بد ان يحصل بعد فترات الانتظار. ولكل من عناصر القصة دلالاته على المستوى الغرائزي والجنسي.

فالاميرة تدخل احدى غرف القصر وتجد فيها امرأة تغزل على آلتها. هي تكتشف هذه الغرفة للمرة الاولى وكأنها تعرفت بذلك الى اول اشارات الحياة الجنسية. وآلة الغزل تلك هي صورة من العضو الذكري، تجرح الاميرة اصبع يدها بالإبرة، فتنزف. قطرات الدماء هذه ترمز الى دخول مرحلة اكتمال جسد المرأة. فالاميرة لم تعد فتاة، بل اصبحت امرأة ناضجة. إنما ذلك النضوج لا تنتج عنه لقاءات مع الرجال، بل يتحول الى ندم عميق. وما ان تغلق عينها حتى ينبت حول القصر حائط من النباتات البرية ذات الإبر اللاذعة، وذلك يمنع تسلل الراغبين من الاقتراب من جسدها قبل حلول الموعد المناسب.

الغرق في النوم يرمز الى حالة الانعزال النرجسي والانطواء على النفس، وقبلة الامير تأتي لتحرير الاميرة النائمة من عزلتها. ونلحظ ان لحظة استيقاظها تترافق مع عودة الحياة الى القصر الذي غرق في النوم مع الاميرة. فالعالم بأسره يغفو بالنسبة لها حين تنام، ويستفيق معها حين تفتح عينيها إثر قبلة الامير الذي بلغ شفتيها.

سندريللا

أما <<سندريلا>>، وهي اكثر قصص الساحرات شهرة وشعبية، فتعالج إشكالية التنافس بين الاخوة وآثار عقدة أوديب. قد تناولت التوراة في هذا السياق موضوع النزاع بين قايين وهابيل، وهي القصة الاصلية للتنافس الابدي بين الاخوة. وفي قصة يوسف، الواردة في الكتاب المقدس، نجد ذلك النفس العدائي بين يوسف وأخوته الذين يحاولون التخلص منه. إذاً، قصص الساحرات هي امتداد للخيال البشري الذي يعبّر عن نفسه من خلال صور متعددة.

عبر شخصية سندريلا، يعبّر الولد عن الشعور بالظلم ازاء موقعه بين أخوته. وهو يتفوق على هذا الوضع عبر بلوغ بطلة القصة هدفها وتحولها من خادمة الى اميرة. هي تساعده لرؤية الناحية المشرقة من إشكالية التنافس لأنها تتوصل الى تحقيق حلمها الدفين. منذ بداية القصة، تختبئ سندريلا وراء شخصيتها شعوراً بالتفوق على الآخر. فهي تدرك انها فتاة جميلة وجذابة رغم مظاهر البؤس والفقر التي تحيط بها.

يستنتج الولد المستمع الى هذه القصة ان القدرة على التحول كامنة في اعماق ذاته، وهو يستطيع تخطي المراحل الصعبة من تلقاء نفسه. فمساعدة الساحرة ليست سوى نوع من الاندفاع المعنوي الذي يسمح لسندريلا بإظهار جمالها وقدراتها الكامنة في ذاتها.

تبرز في <<سندريلا>> عقدة اوديب التي نجدها كذلك في <<بيضاء الثلج>>. في كلتي القصتين، تظهر زوجة الأب البغيضة كتهديد لنمو شخصية الابنة. بذلك، تتجلى نزعة التنافس بين الأم والفتاة، فتتحول الامومة الى صورة مرعبة من اجل تبرير فكرة التخلص منها في نهاية القصة، حين يتم الزواج بين البطلة والامير.

تظهر بعض التفاصيل ان لأقصوصة سندريلا اصول صينية. وبالفعل، تدل القدم الصغيرة في ثقافات الشرق الاقصى على الرقي والتميّز والجمال الخارق. اذاً، قصص الساحرات هي نتاج للعديد من الثقافات لذلك هي تلقى شعبية على امتداد واسع.

ولكن نظرة بيتلهيم التحليلية تجرد قصص الساحرات من سذاجتها وبراءتها. للوهلة الاولى، تكتسي تلك القصص بحلة السحر والروعة وتبدو شخصياتها مدرعة بنوع من الحماية، فلا ينتظر الولد إلا النهاية السعيدة رغم كل المشاكل. والشخصيات الشريرة ليست سوى جزء من محنة البطل ولا تهدف فعلياً الى تحطيمه، بل هي موجودة كي تضعه على المحك وتمتحن قدراته.

ونلحظ في قصص الساحرات تكرار نفس العناصر. فالمكان غالبا ما يكون القصر او الغابة او البيت، وداخل البيت، هناك دائما السرير الذي تنام فيه بيضاء الثلج او الاميرة النائمة، فيشعر الولد ان هذه الشخصيات تتجول دائما في نفس المكان، وهذا المكان هو مخيلته. اما الوقت فلا يمر بشكل طبيعي على هذه الامكنة وهذه الشخصيات، بل يشعر الولد ان الفتاة ذات الرداء الأحمر ذاهبة الى الأبد نحو منزل جدتها، حاملة سلة الزوادة. إذاً، هناك نوع من ثبات في حركة متشابهة في نفس الاماكن تقوم بها الشخصيات ذاتها. وفي كل حالة، يطرح موضوع جديد.
تجدر الملاحظة ان معظم شخصيات هذه القصص نسائية، وذلك لا يعني ان إشكالياتها لا تخص المراهق. إلا ان رسائل الحذر من الانجراف وراء الشغف الجنسي توجه اجمالا بشكل مكثف وصارم الى الفتيات. اما القصص التي تتمحور حول مغامرات فتى او ولد صغير، فهي تحث على المثابرة والعزم ولا تشدد كثيرا على اتقاء المخاطر وأخذ التدابير الوقائية، بل على اخذ المبادرة وتجاوز المصاعب كما يظهر في قصة <<الصبي الصغير>> Le Petit Poucet.

عرضنا إذا مجمل نواحي التحليل النفسي الذي نتج عن دراسة بيتلهيم. وتجدر الاشارة الى ان ردة فعل القارئ الراشد على هذه الدراسة غالبا ما تكون مليئة بالتعجب والاستنكار احيانا. فحتى الكبار لا يريدون اكتشاف هذه الناحية من قصص الساحرات بل يودون لو تطير الجنيات حول القصور ملوحة بالعصي السحرية محاطة بالأنوار التي تنطفئ في سواد الليل.



"منيرة أبو زيد"
السفير

التعليقات