قضايا لغويّة (1) / د. إلياس عطاالله

-

قضايا لغويّة (1) / د. إلياس عطاالله

- أ-


تندرج موضوعة " الجنس اللغويّ" - ولا أقصد إلاّ ما جاء في  العنوان، أي الجنس في اللّغة " gender"، ولا علاقة لهذا المصطلح بالأنماط اللّغويّة وعائلاتها وسِماتها- أصلا، في بنية اللّغات وخصائصها الصّرفيّة الدّلاليّة، وما ترتّب عنهما من إسقاطات على موضوعة النَّظم اللّغويّ/ النّحو، والأسلوبيّة.


إنّ ظاهرة التّذكير والتّأنيث، والأجناس الأخرى التي تُرَدُّ إليهما، أو إلى تصنيفات أخرى، قديمة المنشإ كاللّغات ذاتها، ولا تعنينا، في هذا السّياق، نظريّات النّشوء اللّغويّ من حيث توقيفيّة اللّغة أو وضعها، ففي الحالتين كلتيهما، تعاملت اللّغات مع المذكّر والمؤنّث بميزات وسمات لغويّة تخلو من أيّ غاية تصنيفيّة استعلائيّة أو استفاليّة، هي قضيّة حياديّة اللّغة، وصدق مفرداتها وخطابها، أي أنّ وجود مفردات مذكَّرة، وما يلحق بها من ضمائر خاصّة بها، وأسماء إشارة، وكنايات، وصِيَغ صرفيّة تليق بها، ووجود المقابل المؤنّث باستحقاقاته الضّميريّة والإشاريّة والصّرفيّة، لم تتعدّ يوما التّعبير عن أصحاب اللّغات المنقسمين إلى هذين الجنسين، وبكلمات أخرى لم تُوَظَّفْ إلا في قضيّة صدق الخطاب، ومن ثمّ اندرجت في معياريّة اللّغة، بعد أن تقعّدت اللّغات. أمّا الانتقال من الحياديّة لكلمة Gender بمعنى الجنس، إلى اللاحياديّة، فهو من صنيع مؤثّرات اجتماعيّة تتّسِم بالهيمنة لأحد الجِنْدَرَين، وردّة الفعل التي قامت بعد تشكُّل الفكر والحركات النّسويّة، التي رفدت الدّرس المجتمعيّ واللّغويّ بمصطلحات ما كانت مسكوكة من قبل، فوقع التّمييزُ بين الجنس sex  والـ gender، فصارت الثانية، والتي كانت مرادفة للأولى، تعني الحالة الاجتماعيّة أو الوضع الاجتماعيّ المترتّب على الانتماء إلى sex معيّن، ولعلّ المجتمع الذّكوريّ المهيمن، لأسباب عدّة، بما سكّه من مصطلحات انضافت إلى خطاياه، وراء هذا التّركيز المفرِط على قضيّة الجندرة أو الجَنْسَنَة على صعيد اللّغة، حيث بدا التّمييز بين الجنسين فادحًا فاضحا، وبدأت العناية، بعد كلّ مؤتمر نسويّ، تنصبّ على اللّغات، والغربيّة منها بشكل خاصّ، في محاولة للتّغيير وإزالة ما يدلّ عى الجنس أو الحالة الاجتماعيّة، واجتُهِد في تحويل اللّغات، من حيث بنيتها وأسلوبيّتها، من لغات مُجَنْسِنَة sexist languages إلى لغات غير مجنسنة non-sexist languages.


قد نعبّر عن اللاجنسنة بـ " تخنيث اللّغة"، والكلمة مشتقّة من " الخُنْثَى"، والخُنثى: صفةُ أو اسمُ ما ليس خاصّا في الذّكورة أو الإناثة؛ وعلى الصّعيد العضويّ، هو مَن له ما للذّكر وما للأنثى، والأصل فيه التّكسّر والتّثنّي واللِّين. وعلى الغالب، ورغم " شموليّته" الجنسيّة العضويّة، لا يقال إلا في وصف الذَّكَر، وبإسقاطات دلاليّة غير محايدة، لا تخفي ميلَهُ أو تصرّفه الإناثيّ، ولعلّ ما يقف وراء هذا، إضافة إلى عوامل لا علاقة لها باللّغة، الدّلالة الأصليّة للجذر " خنث" الحامل لمعاني اللّين والسّير الغَنِج المتثنّي.


إن كانت عمليّة نزع الجنس أو اللا جنسنة "degenderization"، قد قطعت شوطا على صعيد الإنجليزيّة، فما هو حظّ نجاحها في العربيّة، وهل من حاجة إلى الأمر أصلا؟ عن تساؤلات كهذه أحاول الإجابة لاحقا.


 


- ب-


لا تختلف العربيّة، ومعها أخواتها السّاميّات، عن بقيّة العوائل اللّغويّة   المعروفة، فالتّذكير والتّأنيث واردان فيها جميعا، مع اختلافات طفيفة تتمثّل بـ:


1- تَمَيُّز السّاميّات بوجود هذين الجنسين فقط، والأصل في تحديدهما هو الذّكورة والإناثة الفسيولوجيّة، وهو ما تعرفه العربيّة بالمذكّر الحقيقيّ والمؤنّث الحقيقيّ؛ أي من له عضو الذّكورة، ومن لها عضو الإناثة، أو ما له فَرْجٌ بمصطلحات القدماء، ثم ألحِقَت بقيّة أسماء الأشياء بهذين الصّنفين مجازا، وهو ما يعرف بالمذكَّر والمؤنَّث غير الحقيقيّين، وذلك وفقا لمفاهيم الشّعوب نفسها، أو وفقا للتّقديرات القواعديّة، وأعني بمفاهيم الشعوب أن يُعدَّ " الباب"، مثلا، مذكّرا في العربيّة، مؤنّثا في العبريّة ، وأن يكون " الجدار" في العربيّة مذكّرا، ومقابله العبريّ المشتقّ من الجذر نفسه مؤنّثا، إلى ما هنالك من أمثلة لهذا القبيل، ولنقيضه.


2- أن يصحّ تذكير وتأنيث المفردة الواحدة، كما هي الحال مع " حال" و "طريق"، " إنسان"، "طفل"، " ألِف"، " قافٌ"... وما إلى هذا، وسنأتي على ذكرها جميعًا مفصّلة في ما بعد.


3- تذكيرها في لهجة عربيّة، وتأنيثها في أخرى، وهو ممّا تحفظه لغة القرآن الكريم، والكتب المختصّة، والمعجمات، نحو: أسماء الجنس الجمعيّة نحو النّاس، والنّخل، وأسماء الجمع، نحو قوم، وجموع التكسير، وإن غلب التأنيث على هذه الأخيرة.


4- تضيف بعض اللّغات الهندوأوروبيّة جنسا ثالثا هو " المحايد"، كما هي الحال في الألمانيّة، ومرَدّ الأمر إلى مفاهيم أصحاب هذه اللّغة، وما يندرج في خانة      " الحياديّة" قد يكون من المؤنّثات والمذكّرات غير الحقيقيّة، وقد يكون ممّا هو منتمٍ إلى أحد الجنسين حقيقة في عائلة اللّغات السّاميّة، نحو كلمة "طفل" والتي أعني بها هنا وليد الإنسان، فإنّها لا تخرج عن الانتماء الحقيقيّ للذّكورة أو الإناثة، ولكنها في الألمانيّة " Kind" محايدة " "Neutrum، أمّا كلمة "Magd" بمعنى أمَة، أو عبدة، فمؤنّثة، في حين أدرِجَتْ "Maedchen" التي تعني صبيّة أو فتاة أو بنت في الجنس المحايد، ومن هذا القبيل جعلهم "Frau" - وتعني سيّدة أو امرأة- مؤنّثة، في الحين الذي اعتبروا فيه "Fraeulein" - وتعني الآنسة، الفتاة- من الجنس المحايد. وكذا أدرجوا بعض أسماء الحيوانات في المحايد، كالحصان والتّمساح، أمّا الكلب فحافظ على ذكورته، كما حافظت الأفعى على إناثيّتها. وكذا الشّأن في توزّع أسماء البلدان على الأجناس الثّلاثة، وأسماء الأنهار تتوزّع بين التّذكير والتّأنيث، وتميّز الألمانيّة بين أنهار في ألمانيا ذاتها، وأنهار في دول أخرى! فالأنهار غير الألمانيّة كلّها مذكّرة، أمّا ما كان منها ألمانيّا فمؤنّث، ولا ينسحب هذا على نهر الرّاين، الذي حافظ بقدرة قادر على ذكورته der Rhein. من العسير علينا، نحن الذين عرفنا التّوزيعة الذّكوريّة والإناثيّة في العربيّة وغيرها من السّاميّات، أن نعقل الفلسفة الواقفة وراء هذه التّوزيعة الجنسيّة في الألمانيّة، ولا يعني هذا أنّ الأمر متروك بلا دراسات وتعليلات، ولكنّه بعيد عن " قناعاتنا" وبنية لغتنا. لعلّه من الأصوب ونحن أمام إشكاليّة تحديد الجنس أن نستعمل مصطلح الجنس الصّرفيّ أو الجنس القواعديّ، وتحديد هذا الجنس هامّ على صعيد سلامة اللّغة وبنية جُمَلها وأفعالها وحتّى أدواتها وفق الوظائف النّحويّة التي تؤدّيها الأسماء، والألمانيّة لا تختلف عن العربيّة في هذا الشّأن، بل هي أكثر صعوبة، وإن كنّا " لا نعقِل" التّوزيعة الجنسيّة الممثّل لها سابقا، فدارسو الألمانيّة يعتمدون، على الغالب على اللواحق " suffixes" التي تنتهي بها الأسماء، ونحن، على صعيد العربيّة، محظوظون لقلّة هذه المؤشّرات، والتي لا تخرج على الغالب عن: " واو الجماعة" الدّالّة على المذكّر في جمع المذكّر السّالم- مع الإشارة إلى أنّ هذه الصيغة " ــ ون، ــ ين" تشمل أسماءً مؤنّثة-، وتاءَي التّأنيث؛ المربوطة- ولا تعطي دلالة التّأنيث دائما-، والمبسوطة، كما في جمع المؤنّث السّالم- مع الإشارة إلى أنّ هذه الصّيغة هي لجمع المذكّر أيضا، بل قد يكون المذكّر المجموع على هذه الصّيغة " ــ ات"، أكثر من المؤنّث-،إضافة إلى علامات تأنيثيّة في بعض الأسماء في صِيَغٍ معيّنة، كالألف اللّيّنة( ى) في نحو " كُبرى"، "صُغرى"... واللاحقة " اء" في نحو " حَسناء" و " شَيماء" و " بَيضاء" ...، ولا أتحدّث في هذا السّياق عن علامات قليلة أخرى تلحق بالضمائر والأفعال، أمّا الألمانيّة ففيها عشرات اللّواحق التي تُعِينُ في تحديد الجنس القواعديّ للكلمة، فثمّة أربعَ عشرةَ لاحقةً للمذكّر، وزهاء خمسٍ وعشرين للمؤنّث، وتسعٍ للمحايد، والتّوزيعة هذه ليست أمرا مقدّسا، إذ قد تختلط الأمور، فتجد علامة أو لاحقة خاصّة بهذا الجنس، دالّةً على جنس آخر في بعض الكلمات، أو في بعض الحالات النّحويّة. وللمحايد "الألمانيّ" هذا، معاملة مغايرة عن معاملة ما اعتبروه مذكّرا أو مؤنّثا، فله، مثلا، أداة تعريفه الخاصّة das، مقابلة لـ der مع المذكّر، و die مع المؤنّث. (والحديث عن المفرد في حالة الرّفع- Nominativ).


ولئلا ينحصر تفكيرنا في السّاميّة والهندوأوروبيّة المعتمدة على الذّكورة  والإناثة قاعدةً لتوزيعة الأسماء إلى جنسين أو أكثر، نشير إلى أنّ الأمر لا ينسحب على كلّ لغات العالم، فلغات بعض القبائل الأفريقيّة تبني توزيعتها وفقا لميزات أخرى، عقيديّة أو مكانيّة أو تراتبيّة هرميّة اجتماعيّة، دون التفات إلى قضيّة        " الجنس" أو قضيّة " الجندر". 


 


 


 


- يتبع-.


 

التعليقات