قضايا لغويّة (3)/ د.إلياس عطا الله

-

قضايا لغويّة (3)/ د.إلياس عطا الله

تَخْنِيثُ اللّغة، بين التّذكير والتّأنيث -3-


 


 


-       هـ -


قدّمنا صورة مختصرة لحال اللّغة الإنجليزيّة في قضيّة الجنس، فما الذي أثار حفيظةَ الحركات النّسويّة في البلاد المتحدّثة بالإنجليزيّة؟ وما هي المُنَغِّصات التي أرَدْنَ محوَها، أو إعادة صياغتها؟ وما هي رؤيتهنّ؟


نكتفي لهذه العُجالة بالتّأكيد على النّقاط الأساسيّة في المطلب النّسويّ:


1- بعض الألفاظ والأساليب، تهمّش المرأةَ، بل وتُسقط عليها بعضَ الدّونيّة في الدّلالات التي تحملها بعض الصّيَغ المؤنّثة، إضافة إلى اقتحامات هذه الصّيغ لعالم المرأة الخاصّ، وحالتها الاجتماعيّة، في الوقت الذي لا تحمل الصّيَغ الذّكوريّة المقابلةُ هذه الشّحنات والاقتحامات، الأمر الذي يشير إلى، أو يعكس، هيمنة الذّكورة المَشُوبة بالاستعلاء في المجتمع أيضا، ولعلّ أكثر المُنَغِّصات، من باب المثال، هي: Mr.- Mrs.+ Miss و mister- mistress و man، وأكتفي بهذا القدر الآن، مشيرا إلى أنّ كلمة Mr. يُخاطَب بها الذّكر منذ سنّ البلوغ، ولا تشي بأيّ دلالة خارج التّوجّه الذّكوريّ، أمّا صيغتا المؤنّث المقابلتان لصيغة المذكّر، ففيهما إقحام للحالة الاجتماعيّة للأنثى( عَزَبَةٌ أو متزوّجة)... وكذا الأمر في Mister- سيّد، والتي تحمل هذا المعنى فحسب، في الوقت الذي حمل فيه مقابلُه المؤنّث Mistress دلالة السّيّدة، مع إضافة مُهينة، إذ إنّ الكلمة تعني أيضا: المَحْظِيَّة، أمّا Master و man ففيهما – برأيهنّ- هيمنة رجوليّة مرفوضة جملة وتفصيلا،- وتوضيح هذا في الحلقة القادمة-.


لا تختلف العربيّة عن الإنجليزيّة في مسألة إقحام الحالة الاجتماعيّة في خطاب   المؤنّث، وفي حياديّة حالة المذكّر، فـ " سيّد" تقابل Mr. دلالة واستعمالا، أمّا     " آنسة"- حديثة الاستعمال نسبيّا- -1- و " سيّدة"، فتقابلان Mrs.+ Miss، وتختلف المفردة العربيّة " سيِّدة" عن الإنجليزيّة في أنّها خِلوٌ من الانحطاط الدّلاليّ الذي تحمله Mistress، فالعربيّة تجعل السيّدة سيّدة، أمّا ذات الحظوة من النّساء عند هذا الرّجل أو ذاك، فهي محظيّة، وهي مفردة تستعمل من باب لطف العبارة، ولن تجد في المعجم العربيّ أو الاستعمال اللغويّ العربيّ شيئا من دلالاتها في كلمة " سيّدة". 


2- في خطاب الجماعة، حيث للنّساء وللرّجال حضور بيّن، يُلجأ إلى تغليب صِيَغ التّذكير، في الخطاب نفسه، وفي بعض المصطلحات المركّبة، وقد تكون كلمة man أكثر هذه المركّبات إغاظة، ناهيك عن دوران ضمائر الذّكورة he- his- him في الكلام.


3- تعكس اللّغة بلا حياديّتها هذه، ما يحدث حقيقة في مجالات الحياة المختلفة، تلك المجالات التي اقتحمتها الأنثى، ولكنّ اللّغة بثروتها المفرداتيّة وبأسلوبيّتها بقيت على ما هي عليه بِسِماتها الذّكوريّة، الأمر الذي يكرّس أو يؤسّس للاستعلاء الذّكوريّ، أو على الأقلّ، لا يواكب المتغيّرات عمدا.


 


- و -


كان لا بدّ، جرّاء هذا، وتحقيقا للمساواة، من إقحام الحكومات، والأكاديميا، وأقسام المناهج، والمجامع اللّغويّة، لرسم أساليب تعبير جديدة، من شأنِها- كما يُظنُّ- الابتعاد عن السّمة الذّكوريّة، والإنصاف في الخطاب والتّسميات، بإعادة صياغة بعض المصطلحات " الفُحوليّة" الشّائعة.


عُنِيَتِ الحكومات أو بعضها بهذا الشّأن، بل إنّ بعضها شرّع إدراج التّوجّه إلى الجنسين كتابة، وخاصّة في الأوراق الرّسميّة أو العطاءات، أو الإعلانات عن الوظائف، وما إلى هذا، ومن هذا:


أ-


ما لجأت إسرائيل إلى استعماله بأسلوبين رسميّين، يتمثّل الأول بتوظيف الخطّ المائل ( / ) وإضافة علامة التّأنيث، أو المفردة المؤنّثة، والثّاني باعتماد الصّياغة أو الخطاب الذّكوريّ المعتاد، متبوعًا بملاحظةٍ " بلهاء": " كلّ ما كتِبَ بلغة المذكّر يشمل المؤنّث أيضًا"، ولم أجد انفراجا ولا مساواة في هذا الاختراع الغبيّ، فاللّغات السّاميّة، والعبريّة منها، تعتمد أسلوب التّغليب الجنسيّ الذكوريّ، والأمر ليس وقفا على الذّكورة الحقيقيّة والإناثة الحقيقيّة، إذ إنّه يشمل المذكّرات والمؤنّثات بمفهومهما المجازيّ، وهي أكثر من الحقيقيّ عددا، ولم أجد في هذه الملاحظة المستحدثة خروجا عن التّغليب المعمول به عربيّا، بل إنّ التّغليب الكلاسيكيّ كان مفهوما ضمنا، وميزة " مستورة" من ميزات اللّغة، وما جدّ هو أنّ التّغليب المُعَصْرَن والمُشَرْعَن صار فضيحيّا؛ نكتب بأسلوب ذكوريّ، وفي الذّيل تأتي هذه الإشارة المذدنبة، تضجّ بالمهانة والإهانة... إنْ هذا إلا ضربٌ من الجهل باللّغة، قواعدها، وأسلوبيّتها، وليس الجهل هو ما يغيظ هنا فحسب، إنّه الرّضا النّسويّ- ولا أعمّمُ- ، أو الإحساس بأنّ مكسبا مساواتيّا ما قد تحقّق.


ب-


استعمال الصّيغ العامّة الصّالحة لخطاب الجنسين، أو الاستعمال الموازي القاضي بذكر المؤنّث والمذكرّ، وإن كانت الدّماثة هنا قد أتاحت لي تقديم كلمة مؤنّث على كلمة مذكّر، فإن الأمر غيرُ هذا في القضيّة الكتابيّة المعتمِدة على الحلّ غير السّحريّ للخطّ المائل( / ) المتبوع بعلامة التأنيث، لأنّ المؤنّثات مأخوذة/ مشتقّة من المذكّرات، وأسلوب الخطّ المائل لا يصلح إلا كتابة، أمّا خطابة فإنّه ضربٌ من المهازل، وحتّى في هذة الحالة "المائلة" يظلّ المذكّر مقدَّما على صعيد الأسماء لأنّ المؤنّثات بالعلامة مأخوذة على الغالب من مذكّرات، خاصّة تلك التي تكون علامة التأنيث فيها هي التّاء، أمّا في الضّمائر المتّصلة بالأفعال أو بالحروف، فقد جرت العادة على تقديم ضمير التّذكير: كتابُه/ ا، عملكم/ نّ... ولا أرى غضاضة في التقديم والتأخير في بعض هذه المواضع، كما في ميم الذّكور ونون الإناث، أمّا في حالة الغَيبة كتابها/ه فقد يُرى الأمر مضحكا. كون الأمر مضحكا لا يعني أنّه ما مورس في العبريّة مثلا في ما تكتبه المِثْليّات( السّحاقيّات) في بعض رسائلهنّ أو أدبيّاتهن، كما يظهر في موضوعة لا جنسنة اللّغة في الحديث المثليّاتيّ المشارك في النّقاش العامّ الأكاديميّ وغير الأكاديميّ، وكي لا يُظنّ أنّني أختلق الأشياء أقول إنّ المهتمّين بالشّأن اللّغويّ، يتابعون سلوكيّات اللّغة في أوساط أهلها جميعا، وكي أكون في دائرة الصّدق أنقل نصّا مبتورًا عمدا من هذا القبيل، منسولا من موقعٍ لهنّ، أسقطن فيه الخطّ المائل، ثمّ سأكتب بالعربيّة" الفصحى" الكلمات التي أبرزتها:


שלום לכולןם, (السّلامُ  لجميعكُنَّمْ)
 אני יותר מאישה ויותר מגבר... לא אני ולא אף אחד
מהחברימות (الأصدقاءات/الأصدقاءالصديقات)שלי.
זה מושג שכולל את
כולכןם (كلَّكُنَّمْ)- הומואים לסביות בי וטרנס. כולכןם מאיימימות (كلّكُنَّمْ مهدّدونات/ تهدِّدونَنْ)...
כולןם משחקימות ( كلّهُنَّمْ يلعبُْونَنَ)...  על פי הכללים שמצפים ממכןם (منكُنَّمْ)...


 


لا حاجة للتّعقيب على صعيد العربيّة وبنِيتها، فالقبيح لا يُشار إلى قبحه، ولا يحتاج إلى براهين حتى يُعرف، أمّا في العبريّة فليفعلنوا ما يشأناؤوا.
 


أمّا استعمال الصّيغ الملائمة للجنسين، فأمر لا يجيده إلا متمكّن من اللّغة، موسوم بالقدرة على التّعبير، وإن كان تطبيق الأمر كتابة فيه الكثير من الصّعوبة، فإنّ تطبيقه محادثة يشارف الاستحالة، لأنّ اللّسان سيمارس بشكل تلقائيّ ما اعتاده من أساليب ومفردات مخزونة في الذّاكرة، حتّى لو حاول المتكلّم متعمّدا التوجّه الأخلاقيّ المهذّب البادئ بكليشيه " سيّداتي آنساتي سادتي"، إذ إنّه سرعان ما سيقع في الخطيئة إن أراد أن يتابع بإضافة وصف أو فعل، حيث سيجنح إلى التّّذكير: الأعزاء... المحترمين... طاب مساؤكم جميعا... أسعد الله مساءكم... أهلا وسهلا بكم... وتصبح " ميم الذّكور" سيّدة الخطاب، وكأنّ البدء بـ " سيّداتي آنساتي" كفى المؤمنين القتال! ناهيكَِ عن أنّ المتكلّم بدماثة ما بدأ به، كان قد فعل فِعلَتَهُ في الخوض في الحالة الاجتماعيّة للأنثى مميّزا بين كونها متزوّجة أو غير متزوّجة، وموضوع النّدوة أو اللّقاء لا شأن له بحالة المخاطبة الاجتماعيّة، ولنضِف إلى هذا شيئا من الخيال المفضي إلى قضيّة الكذب والصّدق، فهو لا يعرف أصلا- حين أعدّ كلمته، أو وضع خطوطها الأولى في ذاكرته، أو ارتجلها- إن كان الجمهور يشمل هذه التّوزيعة كاملة، ولا أظنّه قد أجرى مسحا إحصائيّا للحضور قبل اعتلائه المنصّة، والأنكى من هذا أنّ الخطاب الذّكوريّ هذا ليس وقفا على المتكلّم الذّكَر، بل تمارسه المتكلّمة الأنثى، ولو كانت من الحركات النّسويّة المطالبة بتحييد الجندر، أمّا ثالثة الأثافي فتتمثّل في هذا الخطاب المثلّث المهذّب، في حالة كون الجمهور غير مثلّث.


لعلّه من المجدي أن نؤكّد على صعوبة هذا الأسلوب، خاصّة على صعيد العربيّة، ولا حاجة لتكرار الحديث عن أنّ علامات الذّكورة والإناثة تتجاوز الأسماء والضّمائر إلى الأفعال، وحتى لو جهد المتكلّم/ ة في التزام الحياد في مركّب ما، فإنه "سيقع" في مركّب آخر، وكي يخلص من هذا " الهمّ"، عليه أن يصوغ خطابه مرّتين أو ثلاثًا، بحيث تذكر المؤنّثات مقابل المذكّرات، على صعيد الأسماء والأفعال والضمائر، وفي مثل هذه الحالة يكون عدم الحديث أفضل، لأنّ الأسلوبيّة ستسقط، والجماليّة ستصير قبحا، والثّرثرة ستسود، وسيمتدّ خطاب الدّقائق الخمس إلى أضعافها، وسيكثر اللّحنُ في الكلام القافز بين اللّحظة وأختها بين متغيّرات تطابقيّة، ومتغيّرات حركيّة وسكونيّة في الأفعال والضّمائر والأسماء.


أمّا الأكاديميا فقد عمدت إلى الأسلوبيّة مطلقا، وإلى بعض المسكوكات اللّغويّة، بحيث سعت إلى التخلّص من العلامات الفارقة، بهدف " تحقيق المساواة" من ناحية، وتدريب الطّلبة والمتحدّثين عامّة على الأساليب الحياديّة المرادة... وهذا ما سنقف عليه لاحقا.


-1- عنَتِ الآنسةُ، أصلا، الجاريةَ التي تأنس إليها لطيبِ نفَسِها ونفْسِها أو لطيبِ حديثِها، أو تأنسُ إلى قربها ومحادثتها. وهي كالأنيس دلالة، ولا أعرف، بعد أن انتهى عهد الجواري، ظاهريّا، لِمَ خصّوا غير المتزوّجة بهذا الشّوق إلى حبّك أن تكون قريبا إليها، تحبّ حديثها ونفَسها، أو لِمَ أخرجوا المتزوّجة من هذا الحكم؟ كلّ النّساء أوانسُ وآنسات، أو هكذا يردن، إن لم يكن عند " السّادة أو الأسياد" اعتراض.


 


- يتبع-

التعليقات