كلما مضى عليه الزمن .... أحببناه أكثر / مهند عبد الحميد

كلما مضى عليه الزمن .... أحببناه أكثر / مهند عبد الحميد
غسان كنفاني - انتزعوه طفلاً من أحضان يافا، المدينة التي هدهدته في مساءاتها الصاخبة، ولما تكتمل طفولته بين ربوعها وداخل أزقتها التي ما فتئت توثق خطو الغزاة. مضى في رحلة العذاب الطويلة القصيرة يشب في حب وطن قسا عليه وترك بصماته العابثة في قلبه وعقله، لكنه، ومن فرط حبه له، جمع في علاقته به بين تفاؤل الإرادة وتفاؤل العقل.

جاء الى منفى يبحث عن موطئ قدم يلملم فيه أحلامه، كان بحاجة إلى كوخ يمارس داخله حريته، ونار تبدد عتمة الهزيمة ، وقلم يكتب به على صفحة الماء نشيداً لفلسطين، ويبوح بأسراره، ويعلن تمرده على الانكسار والانتظار والخوف.عكف غسان يؤلف قاموس الرفض الفلسطيني، رفض الثروة، ورفض مجالس السلطان، ورفض الحدود، ورفض اللجوء الطويل، ورفض الصمت. فتحول إلى فارس لذلك الزمان ..وما زال . كان يشبه الرجال العاديين رقة وحزناً، فانفتحت له الأبواب ودخل المناطق الدافئة في أعماق الفقراء والمتمردين، متفاعلاً مع نبضهم وهمومهم، فوجدهم يمتلكون من الحساسية والتذوق والخبرة أضعاف ما يمتلكه الخطباء الثرثارون وأدعياء الثقافة . استمع إلى الحكاية من أهل الحكاية، وأنصت إلى مئات القصص من أفواه أبطالها ممن لا يعرفون أنهم أبطال لتلك الاحداث .

أعجب بامرأة لا تقرأ ولا تكتب فقال عنها "علمتني أم سعد كثيراً وأكاد أقول أن كل حرف في السطور التالية – رواية أم سعد – إنما هو مقتنص من شفتيها اللتين ظلتا فلسطينيتين رغم كل شيء". هكذا، فإن مسار الكتابة عند غسان يبدأ بالحوار المباشر وغير المباشر مع الناس الذين يصنعون الحدث والتاريخ، ويتحسس مشاعرهم وانطباعاتهم وآلامهم وآمالهم، وعندما يبلغ تفاعله معهم حد الذروة "التوحد " يبدأ بصياغة عمله الأدبي وكأنهم يصيغون حكاياتهم عبره.

ذهب في التاريخ منقباً وباحثاً، فوجد الفلاحين المعدمين ضحية مزدوجة للأفندية والغزاة، وأراد أن لا يقع فقراء اليوم – المخيمات – الذين يملكون القدرة على التمرد والرفض والتغيير أسرى لأفندية اليوم. وبمعنى آخر، رفض تكرار معادلة – أفندية وفلاحين – بأفندية وأبناء مخيمات. إنه حس ووعي غسان الطبقي الذي حدد مساره دون مواربة، والذي انتج ثقافة المقاومة لأجيال ما بعد النكبة.
يقول عماد في "مسرحية الباب": لا أريد الطاعة ولا أريد الماء، وهذا يعني أن الموت عطشاً أفضل من التوسل إلى مستبد، إنها فلسفة الموت التي تنتج المقاومة التي يشرحها ويتعمق بها فيصل دراج، تلك الفلسفة التي تنطوي على مبدأ المفاضلة بين الحياة والموت، فطالما أنت لا تستطيع اختيار الحياة لأنها معطاة لك أصلاً، والمعطى لا اختيار فيه، إذاً فإن اختيار الموت هو الاختيار الحقيقي، وبخاصة إذا تم اختياره في الوقت المناسب، وقبل أن يفرض على المرء في الوقت غير المناسب. والوقت المناسب الذي عناه غسان هو الوقت الذي يتحدى فيه الإنسان الظلم والاستبداد ويرفضهما إلى المستوى الذي يجعل الموت محتملاً، أو مقبولاً كثمن لتلك المفاضلة.

الموت وجه للحياة والحياة وجه للموت. اللاعمل هو موت، كل ما يحد الحركة موت، كل ما يحاصر الفكر موت، كل ما يكبل الحرية موت. ولا معنى للحياة إذا أضحت ذلاً وارتزاقاً، أو امتثالاً مهينا لأمر، أو حبلاً من الأكاذيب والنفاق.

كان موت الرجال الثلاثة في الخزان محتوماً لأنهم رضوا بالهوان ولم يقرعوا جدران الخزان، إنه نموذج موت فلسطيني قاده وهمه وعجزه إلى موت لا كرامة فيه. وثمة نموذج آخر في "ما تبقى لكم" حين يخرج "حامد" من غرفته البائسة ليقاتل في عرض الصحراء متحدياً كل شيء. ونموذج "أم سعد" التي تقاتل فقرها وتصنع من قتالها كرامتها.

والموت هنا ليس هدفاً ولا هروباً، بل هو السلاح الذي يستخدم طلباً أو بحثاً عن حياة شريفة وكريمة، وهو الرفض الصارم للظلم والقهر والإذلال، ولأنه كذلك، أوصى غسان الفلسطيني بأن لا يموت قبل أن يكون نداً.لا يبدأ غسان بالأرض والوطن والبيارة كما ذهب الكثيرون، بل يبدأ بالإنسان، والإنسان المقاوم الذي يبدأ بتحطيم قيوده وتحرير ذاته وإعادة بناء حياته الجديدة الحرة كشرط لا غنى عنه لتحرير الوطن. فبدون الإنسان الحر المسلح بالوعي والمعرفة والإرادة، يظل الوطن صورة من صور الذاكرة أو خارطة على جدار، أو خطاباً مجلجلاً في أحد الصالونات. إن البحث عن وطن، يبدأ بالبحث عن إنسان جديد، إنسان يدرك أن وطنه يبدأ بحريته، وبمقاومته وثورته. ويقدم غسان جدلية الإنسان – الأرض في رائعته التي لم تكتمل "رواية العاشق" يقدم المقاتل الذي يأخذ شكل الأسطورة الإنسان الذي يأتي من الأرض وإليها ينتهي، فهي جزء منه وهو جزء منها، يعرف لغتها وأسرارها، تحاوره ويحاورها، يدافع عنها وتحميه، إنه العاشق الذي يطأ النار بقدميه ولا يشعر بلسعتها من شدة انشغاله بناره الداخلية.هكذا يتوحد الإنسان مع الأرض- الوطن- من خلال المقاومة، وتنبثق من تلك العلاقة الحميمة المتقدة حرية مزدوجة، حرية الوطن والإنسان في آن.

كان الشكل الفني غنياً في أعمال غسان، فقد استخدم الرموز والموحيات التي جعلته قادراً على إيصال المعاني والأحاسيس بصورة جمالية قادرة على الجذب والتأثير. ومأثرة أدب غسان، أنه ملأ جعب مقاومين جدد بقيم الحرية والعدالة والإنسانية والندية، وصنع منهم مقاومين متفوقين على خصمهم أخلاقياً وإنسانياً ومعنوياً، خلافاً للصورة النمطية للمقاتل الذي يأتي ليثأر وينتقم ويموت. ولأنه كذلك، قطعوا عليه صيرورته الإبداعية الثورية الجمالية، وقدموا نموذجاً دائماً لوحشيتهم بقتله.

بعد 31 عاماً من ترجل الفارس المقاوم، أصبحنا أكثر حاجة له، وأكثر اشتياقاً وحباً. إنه كالروائع الموسيقية الخالدة، كلما مضى عليه الزمن، وكلما قرأناه، اكتسب معاني أكثر عمقاً وشفافية ..وأحببناه أكثر.
في الذكرى الـ 31 لرحيل غسان قال المفكر اللبناني سماح إدريس: "كان كنفاني يكتب على امتداد رواياته عملاً واحداً ويتجه تحديداً إلى كتابة ملحمة فلسطينية. وكانت معظم رواياته بدءاً من "رجال في الشمس" وانتهاءً بـ "عائد إلى حيفا" مقدمة طويلة لكتابة "العاشق" التي لم ينهها، وكان سيقدر لها أن تكون أبرز وأنضج وأكمل عمل لكنفاني بل ولتاريخ الرواية الفلسطينية لو قيض لغسان أن يعود إليها فيكملها قبل استشهاده. إن عملاً ناقصاً كالعاشق حرام أن يبقى ناقصاً وفيه ما فيه من أنضج بذور ملحمة فلسطينية. وأعلن إدريس أن مجلة الآداب التي يرأس تحريرها، على استعداد لتبني تشكيل لجنة من كبار النقاد العرب لدراسة المخطوطات التي يكتبها روائيون فلسطينيون وعرب أيّاً كانت أعمارهم يكملون فيها روايات كنفاني الناقصة: "العاشق"، "الأعمى والأطرش"، "برقوق نيسان". ونحن على استعداد لنشر هذا العمل ومكافأته مادياً. إن إكمالا كهذا أو تسابقاً عليه سيفجران اجتهادات فنية ويعيدان الاهتمام بروايات غسان وبأفكاره النبيلة، فهل نأمل بإحياء غير تقليدي لواحد من أبرز رموزنا الثقافية؟ وهل تكتب الصحف في 8 تموز 2004 أو 2005 مثلاً "صدر كتاب جديد من تأليف الشهيد غسان كنفاني و..."؟

______________________________________________

( رام الله )

التعليقات