محمد علوش : وجع الايديولوجيا ... سجايا اللحظة وانهمار النص قراءة في ديوانه : ( سترون في الطريق خطايّ ) بقلم : د. خليل حسونة *

محمد علوش : وجع الايديولوجيا ... سجايا اللحظة وانهمار النص 
قراءة في ديوانه : ( سترون في الطريق خطايّ )

بقلم : د. خليل حسونة *
يرى البعض في الشعر انه محرض غير بريء وان عدم براءته تتأتى من علاقته السّرية التي تربطه بشبكة علامات واسعة تمتد من المتلقي باتجاهات الاستحضارات النفسية والأيديولوجية والمعرفية والإنسانية ، مرورا بالاستنهاضات الذهنية التي تتجسد في تمثيل أغراض الشعر ، والفعل المصادم في القصيدة وجوهره – في الحالة الوطنية الفلسطينية – الهم ( العوليسي ) ، فلقد باتت النصوص التي تنطوي على رؤية تقدمية متماسكة للعالم ، ويمارس المبدع فيها ذاتيته وفرديته ، باتت هذه النصوص أكثر وفرة واستواء في أدبنا العربي الحديث .
إن توفر النصوص على تلك الرؤية هو الذي ساعدها على أن تكون تصويرا موّارا ومتمايزا للبشر في دخائلهم وأوضاعهم ، وليس حديث الرؤية في النص حديث جدل الذاتي والموضوعي لدى المبدع ، حيث يتجلى الالتزام الأعمق والأصدق والأكثر فاعلية ، فإذا كان المبدع غير الأيديولوجي وغير السياسي ، وإذا كان خطابه في جوهره فنيا تعبيريا ، فان هذا لا يعني تفريغ الإبداع من دلالاته الأيديولوجية ودوره الموضوعي الذي يمكن أن يمارسه في المجتمع ( 1 ) فالمبدع يتكون ويحيا كانسان والشعر ممارسة ثقافية في حقل تاريخي معين يخاطب التاريخ كله ، ويطرح تقييمات للتقييمات من خلال إثارة الانفعالات التي تخلق حالات الإشباع العاطفي ( 2 ) عبر تساؤلات جذرية وجدّية غير مزورّة الوعي وهو ما تقترحه عليها قصائد ( سترون في الطريق خطايّ ) ( 3 ) للشاعر الفلسطيني محمد علوش الذي يقول عنه الناقد د. فاروق مواسي في تقديمه للديوان بأنه ( يغمد جذره في رحم الأرض ، ويتوزع قلبه كلمات صادقة يقرأها الفلسطيني فيعرف أنها عنه ، لا طلاسم ومباهم ، يقرأها المتلقي أنى كان فيكتشف رنات الأسى ونبرات الألم فيصوغها له شجنا مضافا إلى أشجان الإنسانية المسحوقة المعذبة ومعاناتها في هذا العصر الأغبر المشتط ) ( 4 ) فعلى مدى ما يقارب الثلاثين قصيدة متماوجة بين النص القصير والقصيدة المكونة من عدة لوحات يرسم الشاعر ملحمة مطولة من جملة نسيج القصائد / النصوص في مشاهد وحالات وأحوال العشق والرعب والخديعة ومقاربة الانتحار ، تسرد مشاعر لحظات الفجيعة والتأزم والانكسار ، كما تكشف في صورة حسية شديدة القدرة على التعبير عن مشاعر القوة والمقاومة المغلفة بسخرية مريرة ، هكذا حملت قصيدة ( عيون الفجر ) طقوس الوطن فرفضت الرحيل ، فكيف يرحل الشاعر والنصر يلوح وعيون الفجر الجميلة تنظر إليه :
وبحرك غزة يمخر قلبي المثقل
والنصر يلوح
وعيون الفجر هي الأجمل . ( ص5 )
شهوة الانطلاق حالات اشتعال يطلق بها الشاعر استمرارية صموده وبقائه على الأرض التي أحب ، لهذا ترد المدن الفلسطينية شامخة غنية في قصائده ، غزة / اللد / القدس / حيفا / يافا ، ليؤكد هذا الإيراد أن الأدب ليس فضحا للعالم ( فقط ) ، بل هو تبشير بالعالم الجديد ، عالم الشاعر المفترض ( الذي لا يعلن عما سيقع وحسب ، بل ويساهم في صنع ما سيقع صاهرا الناس في ذاته ، منصهرا مع القدر ) ( 5 ) ليظهر بتفرد غني حالات من إجراءات النبذ ومصادماته والتصدي له ، فثمة قدسية الموضوع وطقوس المقام ، وحق الأولوية والتفرد فيها أنظمة من التضاد من اجلها يقع الصراع ، ففي إحدى رحلاته الجريحة الطازجة دما ولغة يأخذنا الشاعر إلى حالات النزف الجارح ، في حين يظل هو ذاته في حالة نزف حاد للداخل / الذات الأنوية الخاصة التي يمزج بها بينه وبين العوليس أحمد دحبور المهداة إليه القصيدة :
وأنادي من عمق جراحك / وحنيني يحملني / أن عروس المتوسط / تغسل قدميها عند البحر / تنتظر البحار العائد . ( ص6 )
حين نربط هذا النص ( حيفاي ّ ) الذي يفتح به الشاعر حالات الوحشة القاتلة ، نكشف عن مفتاح تغلب عليه صورة الضياع والصراع النفسي بين البقاء والرحيل / الوجود والغياب / الصمود والتلاشي ، فأحابيل الطغمة والموت بأمر الشاعر / الإنسان / هنا الوجود العربي برمته / ورغم كل ذلك ، ما من منجد – كما يقولون ، لكنه رغم ذلك يستمر بالثبات وضرب جذوره العصيّة فهو ليس سوى مشروع حيات تتكون ( ! )
فأنا مشروع حياة تتكون ../ لكني مرجوم بأحابيل الطغمة / وأنا لا أدري / هل أقدر أن أبقى ؟ / أم ماذا ؟! / والموت يحاصرنا / والموت يداهمنا / ويباغتنا الذعر / وتخيب الآمال / لكني لن أخرج مذموما مدحورا .. ( ص15 )
اتكاء الشاعر في هذا النص على الموروث الديني / التكوين / الخلق / ليس الهدف منه إظهار معرفة الشاعر التاريخية أو تشريحه لمواد وثائقية للمتلقي ، بل الغاية منه إعطاء نفس مختلف للرمز التراثي والتقدير المتوازي له بين رؤيته ذاتيا وحقيقته موضوعيا في رحم التاريخ ، فالشاعر وشعبه هو آدم / والآخر هو إبليس المذموم المدحور ، لذلك وعلى كامل جسد النص / القصيدة – يضع الشاعر في نصه هذا السواد / الكتابة على البياض / الورق حلما غنائيا لخطاب يولد مرة بعد مرة في كل نقطة من نقاطه جديدا بريئا ليعاود الظهور بكل نضارة ، ليؤكد لك أن هناك إمكانية مفتوحة للكلام ، وحلما من التكرار المقنع ، لكن دون تضييق مسبق فالنص يحيا ويتكون لجملة من العلاقات وللمبدع رؤيته وموقفه وأيديولوجيته ، وللنص أيضا كما نرى هنا :
لا تطفئوا فرحي ، رجاء / دعوني كما الأشياء / متروكا ومزويا / في الها هنا / ابحث عن سرمدية العشق / عن نشوة للوصول / كي أسرج أفراحي إن بقيت .. ( ص9 )
وكون الفنان يعي العالم على تنوع علاقاته المتشابكة وروابطه ويعكسه في صور مركبة ، يتم ذلك بناء على طبيعة موضوع الفن بالذات ، ( الموضوع الذي يشمل وجدان الإنسان ، الكائن الاجتماعي وكل عالمه الثقافي ، بكل ما ينطوي عليه من روابط عديدة متنوعة كما ويفرض ذلك أيضا ، والى حد بعيد طبيعة الفن ذاته ، إذ يستوعب أفكار عصره السياسية والأخلاقية والفلسفية .. الخ ولهذا السبب يجب أن يكون الفنان قادرا على التغلغل في جوهر عصره ) ( 6 ) لان هذا التغلغل حالة كشف وإثارة ، وسبر للأغوار ، وإلا لماذا يكرر محمد علوش إيراد أسماء المدن ؟
هل يحاصره الهاجس المكاني / الانتماء ، أم الطموح لتطويع المكان ، وغربلته ليترك مرارته وتنتفي أوجاعه التي هي أوجاع الشاعر ، وفي رأينا أن تكرار أسماء المدن عبر حالاتها :
أسوارك عكا منيعة / جبل النار قصفة زيتون / القدس امرأة ثكلى / اللد مقذوفة في تابوت الرب .. ( أتطلع للآتي ص18 )
بيروت تسقط في الصمت / بغداد يحاصرها الجوع وأمريكا / عمّان يصارعها القهر / الشام يقيدها الطوفان / النيل صبي محكوم عليه الإعدام / غزة شيخ مشلول / ومساكين نحن .. ( باق فيما أريد ص41 )
يمثل حالة الفزع المريع التي يعانيها الشاعر على المستوى المحلي / والقومي حيث انتكاس المشروع الوطني المتمثل في التنمية والاستقلال والتوحد والدمقرطة ، وحتى الالتزام السلطوي في تجليه الفج المسطح لان الشاعر يحذر من خطورة الموقف في الغد فلربما لن تقبلنا سفينة نوح ، فكيف لهم أن يحرسهم غول الغرب ؟!! الذي هو أفعى حاقدة على الأمة فمن يجيرها / يصادقها ويطبع علاقاته معها سيصاب بالفجيعة والغم :
يا شعبي العربي / جرحي ذاكرة الدم / والتاريخ يقرّر / آن مجير الأفعى يرقص في الغم .. ( ذاكرة الدم ص65 )
هذه الرؤية التحذيرية للشاعر تبين لنا انه يرى ما لا يرى ، وان النشاط في الفن لا يرتبط بشخصية سلبية عاكسة – بل بشخصية مبدعة يتحتم نشاطها بصيرورة الإدراك على مستوى المعرفة المتراكمة من جهة والقدرة الإنتاجية للمنال المبدع من جهة أخرى ( 7 ) هكذا هي العلاقة بين إيديولوجية النص وأيديولوجية المبدع ( فرغم انتحار المواعيد ، ووداع الذكرى ، تظل أحلام الشاعر – أي شاعر – غنية ، وهي حالة محمد علوش الذي يقول :
أنا لست صديقا للنسيان
أنا دوما أتطلع للآتي .. ( أتطلع للآتي ص16 )
ذات مرة كتب – مطاع صفدي – معولا على هيدجر وسارتر ومحددا ما يعني له الأدب الملتزم ( الأدب الملتزم هو زمن التفهم المنطقي لاعتبار قيمي موضوعي ينقل الكاتب إلى خارجه ، والأدب الملتزم مفاجأة لذلك ، وإعداد عفوي للمفاجأة ، وفيه ذاتية جدلية مع الواقعية الخارجية ) ( 8 ) لهذا يكتسب الفن الحقيقي أهمية أيديولوجية ، فالفن شأن الفلسفة ، يمسك بالعالم في نظام من المفاهيم العامة ، بل في صور الظواهر المحددة ، لهذا يستطيع الشاعر عبر قدرته على التخيل تحليل علاقاته بالعالم المحيط وتجاوز اللحظة الراهنة وتحويل الوضع التاريخي في مستوى المشاكل الكبرى الأساسية التي تنتج عن علاقة الإنسان بالآخرين وبالعالم ، وهذا لا يعني أن الرؤية الواحدة يمكن أن يكون لها في عصور مختلفة وظيفة مختلفة ، فما يعني صياغة الانصهار واستجلاب الدهشة كما يرى أرسطو في فن الشعر ( تطهر العواطف ) ( 9 ) والإطلال على اللامتناهي ورصد السياقات المضمونية لتأكيد العلاقة الجدلية بين الفعل وإستراتيجية التلقي .
يرى لو كانش ( أن الشكل – شكل القصيدة – بعد تكوينه وتطوره في اتجاه معين يأخذ طريقه ، وتتواصل حركته متخلصا من الحاجيات النفسية المرتبطة بالفترة التي أعطته قوته الأولى ) ( 10 ) هذا الأمر وضح عند محمد علوش في بعض القصائد التي لم تمتلك ناصية الإبداع الصارم ، فقصيدة ( الفلسطيني ) تأخذ بعدا تقريريا خطابيا ، اضعف رسالتها الفنية ، رغم أهمية الموضوع المطروق وجديته .
ما دامت أشعاري غضب الساعة / لا يمكن أن يتناسى الثورة ثائر / فالثوار بركان غضب / وعاصفة لا تهدأ / لا يمكن قذف الثوار إلى دمن التاريخ /حتى يرضى الجبناء ( الفلسطيني ص21 )
وقصيدة ( مقدسيات ) تعانق آفة التسطيح والشعاراتية رغم أنها تحاول تلبية الإبداع لحاجة التموضع لدى الإنسان في محاولة لإلغاء الحس الفجائعي لأحلام مدهشة ، محتشدة بالغيمات .
يا قدسنا في السر والعلانية / نحن أياديك / نحن بنوك حتى آخر الأنفاس / أقصانا متهم بالفتنة / متهم بالنار وبغايا العرب تقود الدول العربية / تبحث عن كرسي اخضر وممالك وهمية . ( مقدسيات ص55 )
هذا الحشد لكلمات مسطحة وعادية في القصائد التي اشرنا إليها يساعدنا على تلمس ملامح التيار العقيدي في جسد الأدلة الاشارية والرمزية المباشرة التي تجسد في المحصلة النهائية القاموس المفرداتي للشاعر ، التي تؤكد امتلاكه للكلام الخاص به بطريقة عاقلة ومحظوظة .
هذا ، وإذا كانت قصيدة ( لحن الوداع ) أكثر قصائد الديوان لقاء مع النفس واندغاما حتى الحميمية الصادقة مع موضوع القصيدة – الهم الفلسطيني – لما لها من توهج في نفس الشاعر الذي أعطاها عنوان ديوانه ، ونحن نعرف جيدا ما للعنوانات من اثر على النفس / المرسل والمتلقي فإننا بذلك نستطيع الادعاء بان غموض النص الواضح ووضوح الغامض استدرجنا للتطاحن التأويلي بيننا وبين الشاعر .
ليس فهم النص كما ( فهمه / أراده ) ( مؤلفه / مبدعه ) وإنما أحسن من ذلك ( 11 ) ، هكذا نشب التفاعل بين النص والمبدع فنتج عنه عملية تأويلية مقبولة كما نرى ، تقول القصيدة :
وداعا شمس الصباح / وشمس المغيب / وداعا أشاوس شعبي / وداعا حنيني / وداعا جسدي الضرير / وداعا وطني / أبي / أمي / رفيقي القريب / وداعا شقائي / وداعا حصاني / سترون في الطريق خطايّ !! ( لحن الوداع ص38 ) ، والقصيدة في محاولتها قتل السطو العوليسي أمام ذئبية العالم ، في محاولتها المبهرة تنفيس المأزومية الحادة التي يعاني منها الإنسان الفلسطيني تمتلك سلطة مستقلة عالية التأثير ، إنها هنا نشيد أخاذ ، رهبف وعميق حول المقاومة الإنسانية للظلم وليس العدم ، وحول الصعود إلى شرط الحرية ، بدل المراوحة والسقوط إلى درك التسليم ، فرغم مباشرتها وبساطة كلماتها إلا أن حرارة ما تطرحه جعلها فاعلة ومؤثرة ، فلقد جاء رصف الكلمات في سياقات معينة جعلها قادرة على توليد وعي تجاوري يشمل معنى المفردة المباشرة ، وساعد على ذلك استخدام لكلمة وداعا عدة مرات ، فالشهيد هو الذي سيودع ، كما جاءت شطرة ( وداعا حصاني ) وقفل القصيدة ب ( سترون في الطريق خطاي ) تعبيرا جليلا لطريق القارئ إلى الدلالة المرجوة ، الذهاب إلى الجلجلة / المقاومة أو الدعوة إليها ، والى توسع مساحة فلسطين لتشمل الكون بأسره ، لهذا يلغي البكاء ، وفي أحلك اللحظات يخلص لإنسانيته ، ( ويعرف كيف يخلق من حزمه أفقا ) كما يؤكد محمود درويش ، وتعتبر قصيدة ( معادلة ) من أفضل قصائد الديوان كونها موضوعيا اختصرت حلم الشارع وبلورة طموحه النضالي ، وفنيا حملت هم الحداثة الشعرية بأسلوب مبسط – لكنه يبتعد عن التسطح عكس بعض القصائد التي اشرنا إليها في هذا المضمار ، وهي حالة من التطهر بواسطة الفن ، تمثل حالة احتراف ذاتي فوري للتأثيرات النامية ، حالة ذهنية أكثر تعقيدا وثباتا ، يندغم فيها الإحساس بالخسارة الفادحة بإحساس مسبق باكتشاف قيم هائلة تتمثل في ( معادلة القوة / الحق – معادلة الضعف / الانهيار ) انه التيقن بهذا الاكتشاف القديم / الجديد ، قديم نظرا لحالته المعرفية لدى الجمهور الإنساني ، وجدل التاريخ ، وجديد لأنه يشكل وضعية دافعية لمعاناة ويأس جعلت منه أعظم حافز للإبداع ، تسمو بالإنسان ، وتجعله يتخلى عن ذاتيته ويعيش للمصالح الإنسانية / الاجتماعية السامية .
قالوا يندمل الجرح / اسمع بوح دماء تنساب على شرفات الجرح / جرحي يتسع كثيرا / وطني أتعبه الحزن / كانوا قبل رحيل العتمة في ملكوت الشمس / كانوا حول رغيف عزّ وطالت غربته / صعدوا شهداء إلى القدس .. / أنا لا ابكي / لا املك إلا الحقد / وسبحّة جدي / وحكايا البدويّ عن الثأر / ينبوع دمائي يتفجر / وعيون المارة / ترقب قتلى في الأخبار / عمالا ذهبوا / عادوا شهداء / عمالا ذهبوا ماتت كل الأحلام / مجنون يقتلنا عشوائيا ، قال الأمراء !!! / ومعادلة القوة أن نصغي / ومعادلة القوة أن نرضى / ومعادلة القوة / بالقوة نهدمها / والبادئ أظلم / وعظام القتلى ستطارد قاتلها / ستطارد حارمها النور . ( معادلة ص27/28 )
يطلق الشاعر هنا تساؤلات جذرية واضحة عن دور الطبقة العاملة ، غير مزورة الوعي ، كثافة معرفية تعادي الضمنية وأدب النبلاء الذي يتمحور حول الناس الفائضين عن الحاجة لإبراز دور هذه الطبقة العمالية المنوط بها في جدل الصراع ، لتجسيد معاناة وتطلعات شرائح المجتمع المعدم في سائر الميادين، وهذا يؤكد أن الطبقات الاجتماعية تكوّن نمطها الجمالي حسب شروطها الاقتصادية ( 12 ) من تلمسنا لجسد القصيدة ويأخذ صفة الحسي ( يندمل الجرح / بوح دماء / صعدوا شهداء / عمالا ذهبوا / مجنون يقتلنا عشوائيا / سبحة جدي / ينبوع دمائي يتفجر .. الخ ) ، ثم سرعان ما نجده يتصاعد في رؤاه كما وكأنه ليبعث في المعاني روحا جديدة ، ومن ثم يستنطقها ، ثم يتحول من المباشرة إلى الامباشرة بطريقة آلية اقرب ما تكون إلى البطيئة ، وهو ينبش في لؤلؤ الكلام ، ليستظهر منه ما يبهر ، على أساس أن الشعر لم يكن ولن يكن مهما وعظيما إذا لم يتجه هذا الاتجاه .
ومعادلة القوة أن نصغي
ومعادلة القوة أن نرضى
ومعادلة القوة بالقوة نهدمها
والبادئ أظلم ( معادلة ص28 )
إن تغطية المعاني بالتعمقات – وتركها مفتوحة على فضاء واسع يدفع المتلقي لتأويلها ، لكن الشاعر هنا رغم تحوله البطيء إلى اللامباشر مارس الإشارات المباشرة غير المزاوجة بين المعاني والألفاظ ليجعل منها قوة تدفع المذهل الذي يتجه بالشعر إلى الوجود . وإذا كان الشعر هو الذي يضخه الشاعر من قدرة مخيلة عظيمة قادرة على الإدهاش – هو ذاته الذي يخلق الشاعر ، ببعثه إلى الضوء – بمعنى أن الشاعر – ومنذ تعرفه على الانثيالات الشعرية يدفع ثمنه غاليا ، ثمنا ينتزع أعصابه لكي ينتزع القبس الإبداعي من منطقته المترامية ، ليوقد عتمة الكلمات ، ومن ثم يجعلها تضيء .
الموار في هذا النص بين ( الممكن والواقعي ) وبين ( المقترح والمعروف ) ( معادلة القوة أن نصغي / ومعادلة القوة أن نرضى / ومعادلة القوة بالقوة نهدمها / والبادئ أظلم – ص28 ) عملية اكتشافية / إبداعية تتراوح نحو الخاصية الأنوية ( الأنا / الذات ) اتجاه ( الأنا / الجمعية ) لتشكل وتصوغ الموقف العام عبر لغة لا تتلاقى مع سيلان الأفكار الفوضوي ، بل تنتظم عبر حالة جادة ملتزمة ، محاولة تحويل الغامض المشاكس والملغز إلى كينونة أخرى ترقد وادعة على سطح ابيض ، لكنها جاهزة لتقاتل ، على نمط ( معادلة ) تسير قصيدة ( مرحى للرايات ) التي يتغنى فيها الشاعر بعيد العمال العالمي ، فرغم تراجع الايدولوجيا الممثلة لهذا العيد وتقدم عصر جديد بفهم جديد ، يعتبره الشاعر عصر بطش وقهر ، إلا انه رغم جبروته لن يهنأ بما آلت إليه الظروف :
يا عصرا مغرورا في بطشك
لن تهنأ .. /
إنا ما زلنا نتذكر
أول أيار ما زال يلوح
يحتضن الذكرى / ويحث على الثورة
يدعونا أن نسخط .. ( مرحى للرايات ص45 )
الأشياء والحوادث هنا ، وهي تبسط سر ماهيتها فيها يضيع الخطاب بصورة غير محسوبة ، ليس الخطاب سوى خفقان ضوئي لحقيقة تتولد على مرأى منه ، وإذا تمكن الخطاب أن يقول عن نفسه إزاء كل شيء ، فلأن كل الأشياء بعدما تجلت وتبادلت معانيها نفذت إلى المحيط الجواني الصامت للوعي بالذات . ( 13 )
قصيدة ( حزن معتّق ) حالة من الطلوع المفاجئ تحاول أن تكسر رتابة الوجع الشرس ، إنها تدعو لصهر الذكريات والكوابيس والحكايا القديمة ، تشكيلها في ( ذاكرة للحزن المعتّق ) حتى لا يتم نسيانها ، كونها تمتلك الحلم الطالع من ساعات العسرة التي تدفع لإيقاظ الدم ، لهذا جاء قول الشاعر :
للدماء صهيلها / وللنجوم بريقها الأخاذ
للانتفاضات الصغيرة فلسفة .. ( حزن معتّق ص36 )
قيل قديما : أن الفن يطرح ( تقييمات للتقييمات ) من خلال إثارة الانفعالات ، إلا أنها انفعالات فنية خاصة ، سماها دوما ايجابية ، تضفي على العمل الفني قوة خاصة وسحرا فريدا ، ينم مضمونه عن نفسه ، ويتخذ شكلا هو عند ( هيجل ) قوة عاكسة ، لا يتحول إلى الخارج فحسب ، بل ويتحول إلى الداخل وينطوي على نفسه ، كونه في هذه الحالة مشبعا ومكتنزا .
ربما لا نستطيع اللقاء / ولكن / لا تستطيعين تركي لأني في مسامات جلدك / في طفولة عينيك / لأنك النهر وأنا الماء .. ( لأنك النهر وأنا الماء ص40 )
في قصيدة ( السماء نشيد اخضر ) ( ص44 ) تحريض مبطن يدعو الشاعر عبره للانقضاض وباستفهام استنكاري يستغرب انحباس المطر عن الأمة الحيّة التي يبدو أنها استمرئت السكوت ، يريد الشاعر رأسه على عقب ، لان فلسطين وحريتها أروع مما نحس ، فالمائدة السماوية التي هيأها الغياب والجدران والمتمثلة بفواكه النار توضح ذلك ، فالأندلسيون الجدد ، معتقلون ومشردون بين السجون والمستوطنات ، يشتاقون المدينة / الحرية وهي ديدن الشعر ، وهاجس الشعراء إن وجدوا ، إنها قدر بوشكين ، وناظم حكمت ، هي رؤية لوركا وتطلعات نيرودا ، وهي عشق شاندور باترخي ، فليس بمستغرب والحالة هذه أن نخيط وجع ( محمد علوش ) وتدفعه نحوها ، بمسلة الألم اللذيذ ، لأنه لا يراها إلا في الحلم .
لا اكشف سرا إن قلت / السجن جميل لو تركوا حلمي يحط على نافذتي / كل مساء موج هديل . ( وجه المدينة ص49 )
قصائد ( ليلة الأمس / أسير الحرية / رمادية العيد / تصريح ) رغم علاجها لموضوعات يعانيها الإنسان الفلسطيني – خاصة ذلك الذي يقبع خلف الخط الأخضر – في قضايا التداخل / التنافر مع الآخر – إلا أنها لم تأت بالجديد ، في حين حاولت قصيدة ( الرّوحة وسيمفونية الملحمة ) بكلماتها الخارجة من عصير القلب والغضب ، أن تنشر الأمل في النفوس ، وهي تتغنى هم الإنسان المصادرة أملاكه فتتذكر يوم الأرض ليظل محفورا في الوجدان .
هنا تقاطعان متضادان ( الأنا / الأرض ) و ( الآخر / سارق الأرض ) بكل ما يربط بهذا وذاك من صدامات ومداميك .
( أ ) حق الأرض / النهر / غيمة / أعشاب الأرض – رائحة الشهداء .
( ب) العفن الأسود / جيش الموت / الفرح المطمور – حشد الظلمة .
حالة الاكتشاف هذه تفترض قفزة من المضيء ( أ ) إلى المظلم ( ب ) ولدى التطلع إلى ( ب ) وتفرسه يجب أن يتوفر لدى المرء على اقل تقدير تصور له ، وإلا فمن المستحيل دخول تخوم المجهول ، ويتمثل جوهر الإدراك هنا ، في اختصار المراحل الذهنية لدى محاولة التوصل إلى الحقيقة ، إلغاء مختلف المراحل الوسطية ، لهذا كان الصدام / التتابع مباشرا ، فلا وسطية في الصراع والفعل الأنموذج .
في الرّوحة يتعانق حق الأرض / بأعشاب الأرض / ورائحة الشهداء / فالرّوحة نرسمها خيمة .. / إن شئتم نزرعها غيمة لدماء شهيد يروي الأرض / ويبشرنا بالفرح المطمور . ( الروحة وسيمفونية الملحمة ص54 )
استطيع الادعاء أن قصيدة ( هكذا ) المهداة إلى ( صباح القلازين ) الشاعرة البدوية ، تشكل حالة عشق صوفي ذاتي / وطني / إنساني ،ربط بين المعرفة الإبداعية ، والتدوير الاجتماعي ، ولقد حاول ( غيرفنش ) ذات مرة في هذا الإطار – التدليل عليه في مستوى المجتمعية ، أو المستوى ( الميكروسوسيولوجي ) وفي مستوى الجماعات المحلية ، والطبقات الاجتماعية ، وفي مستوى المجتمعات الشاملة ، وهو أهم المجتمعات حسب رأيه ، لأنه يسمح بمراجعة النتائج المتحصل عليها في المستويات الأخرى من جهة ، ولأنه يفضي إلى العلاقات الأساسية بين أنظمة المعرفة بصيغة عامة والبنى الاجتماعية في كليتها ( 14 ) .
إن العلاقة الأساسية بين الحياة الاجتماعية والخلق الأدبي لا تهم مضمون هذين القطاعين من الواقع البشري ، بل أن الطابع الاجتماعي للخلق الأدبي مأتاه أن بنى عالم الأثر تجانس البنى العقلية لمجموعات اجتماعية معينة ، أو هي في علاقة معها يمكن إدراكها وفهمها هنا .
مع انه في مستوى المضامين وفي مستوى خلق عوالم خيالية تتحكم فيها البنى العقلية ، تبقى حرية الكاتب كاملة ( 15 ) لهذا مثلت قصيدة ( هكذا ) حالة من الطلوع المفاجئ لنار الإبداع وشفافيته .
لن أقدم روحي وعصافيري / على طبق من ذهب / لجنود الطغاة / يقتلون الورد / يسرقون حقائب أطفالنا / وكتبهم وأقلام الرصاص / ليقتلوا الحلم / ليقتلعوا براعم الغد ..
أنا آت .. / وفي يديّ كل خيام العرب .( هكذا ص74 )
وعلى كل حال ، من إدراج نظرنا على شظايا نصوص الشاعر ، نجد أن قصائده سارت عبر مسارب وأبعاد تمثلت في :
البعد الوطني الصدامي :
والذي كان همه البقاء في الأرض والدفاع عنها ، والتمسك بتاريخها وأعشابها ، مدنها وقراها ، فرفضت النصوص خروج الشاعر / الإنسان الفلسطيني رغم كل المحاولات القهرية والحصار ، بما مثله هذا البعد من توقد النصوص مع الإحساس الطفولي / البدائي للشاعر .
البعد الإنساني :
لقد برز هذا البعد في العديد من النصوص التي اعتنت بهموم العمّال ، وحتمية انتصار حقيقة الثورة ، رغم مظهر تقدم المضاد الزائف ، كون الحقيقة تبقى حقيقة ونحن نرفع عنها الحجاب ، وكونها نوع من الخطأ لما يدحض بعد عمل النضج التاريخي على تثبيته .
البعد السيكولوجي :
ويظهر منه إنسانية الشاعر ، وانه يحتاج إلى من يبوح إليه بما يعتمل في وجدانه ، إن هواجسه الجوانية ، تسكب على الورق / النصوص ، ولكن الهم الجواني يحتاج إلى آذان تشارك ، لهذا كانت اهداءات بعض القصائد إلى توفيق زّياد وصباح القلازين لتعلن مدى ما للشعر من قوة نفسية لدى المرسل ، والمرسل إليه .
وأخيرا فان مؤشرات النصوص ، بدلالاتها المجندة وقفت حدا فاصلا بين نقيضين / حالين ، يمثلان ( إما ) و ( أو ) كفلسفة يتبعها الشاعر ، تؤكد استمرار الصراع والسير فيه بقوة كبيرة لأنها فلسفته وديدنه الذي لا يعرف أنصاف الحلول .
هي فلسفتي في العصر الوثني ّ
أن اصعد للقمة
أو اهبط للقاع . ( فلسفة ص32 )
من هذا التنافر والتضاد الكبيرين ، نسج الشاعر عالمه النفسي الذي تتقاسمه القمة والقاع / النور والظلمة / وفضلا عن تقنية التناقض ، نلحظ لجوء الشاعر إلى العملية التعاقبية في الصورة الشعرية التي تبلور معاناته ومكابداته الجمّة ، مما يجعلنا نتحول تدريجيا من لقطة إلى أخرى في القصيدة ، وبالتالي نحيا بكل كياننا في عالم هذا الشاعر الحالم ، ليصل بنا إلى إحساساته الحقيقية .
محمد علوش ، شاعر يبشر بالكثير ، لذا من المهم أن يقرأ .


هوامش :

1 – أسئلة الواقعية والالتزام ، نبيل سلمان ، دار ابن رشد ، عمّان 1986 – ص98
2 – البيولوجي والاجتماعي في الإبداع الفني ، ترجمة محمد سعيد مضيه ، عمّان 1986 – ص22
3 – سترون في الطريق خطايّ ، محمد علوش ، طولكرم ط2 ، 2002
4 – نفسه ( هتاف الروح العلوشية ) د. فاروق مواسي ص3
5 - جنيالوجيا المعرفة ، ميشيل فوكو ، دار توبقال للنشر ، ط1 ، 1988 – ص8
6 – البيولوجي والاجتماعي ، مصدر سابق – ص45
7 – نفسه ، ص136
8 – أسئلة الواقعية والالتزام ، المصدر السابق ، ص70
9 – انظر : فن الشعر ، أرسطو ، ترجمة د. إبراهيم حمادة ، مكتبة الانجلو المصرية
10 – سوسيولوجية الثقافة ، د. الطاهر لبيب ، دار ابن رشد ، عمّان 1986 – ص55
11 – التلقي والتأويل ، محمد مفتاح ، المركز الثقافي العربي ، 1994 – ص518
12 – أسئلة الواقعية والالتزام ، مصدر سابق ، ص32
13 – جينالوجيا المعرفة ، مصدر سابق ، ص20
14 – البيولوجي والاجتماعي ، مصدر سابق ، ص29
15 – سوسيولوجية الثقافة ، مصدر سابق ص23

روائي وكاتب وناقد فلسطيني – النرويج
.

التعليقات