محمود درويش في كلية بئر السبع- الاهلية

محمود درويش في كلية بئر السبع- الاهلية
احتفت كلية بئر السبع الأهلية مساء الأربعاء بشاعر الإبداع الإنساني محمود درويش، مع نهاية العام الدراسي الثاني للكلية، وعشية ذكرى العام الاول لرحيله.
افتتح الأمسية التي استمرت ما يقارب الساعتين، وأدارها الأستاذ خليل دهابشة الذي قال: تعقد هذه الأمسية ونحن على عتبة انقضاء العام الاول لرحيل عبقري الشعر العربي الحديث محمود درويش. درويش الذي ولد في قرية البروة عام 1941، واكب بمحطات حياته قضية شعبيه بمنعطفاتها وتقلباتها ومفارقاتها مرادفا لها تماما. ففي نكبة فلسطين خرج مع عائلته إلى لبنان, ثم عادت عائلته متسللة إلى الجديدة وهو معها. وبعدها في ريعان شبابه سافر إلى الاتحاد السوفيتي، ثم القاهرة ثم لبنان ثم تونس وباريس وبعدها رام الله وعمان. وحتى في صيرورة موته كان متنقلا ما بين هواء رام الله وعمان وهيوستن وعاد ليدفن وحيدا في قطعة الأرض التي خصصت له بجانب قصر الثقافة في رام الله قريبا بعيدا عن البروة.
كلمات هذا الشاعر أضحت وجودا قائما، قيل عنه شاعر المقاومة, شاعر الحرية, شاعر الجرح الفلسطيني, شاعر القضية, شاعر الاوديسيا الفلسطينية وغيرها من الألقاب وذلك لان شعره كان ينبوعا صافيا عذبا للقارئين, جاعلا من الشعر وطنا وجاعلا من الموت حياة في كل أماكن تواجده.
فالشاعر لم يمت لأننا نقرأ شعره ونبحر فيه. لهذا نحتفي اليوم بالشعر, نحتفي بالحياة وبشاعر الإبداع الإنساني الذي وضع بشعره الرزين أسس القيم الإنسانية في موضع الصدارة وهي الارض والمراة باعتبارهما مصدرا للحياة. مثله كمثل ادوارد سعيد بانتمائهم إلى فلسطين جعلا من قضيتها قضية عالمية وإنسانية.
ثم أورد دهابشة اقتباس عن درويش في وصف تجربته: " قليلون هم الشعراء الذين يولدون شعريا دفعة واحدة، أما أنا، فقد ولدت تدريجيا وعلى دفعات متباعدة". من الواضح أن تجربة الشاعر نضجت بنضوج ذهنه خاصة في العقدين الآخرين, وبتأثره من الشعر العالمي, متألقا في مخاطبة الموت والحياة, ولعل قصيدته الأخيرة "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي" توحي بذلك, فهي عمل كبير علاقة الشاعر بذاته وأرضه وحكاية موته.

بعدها قدم الدكتور عدنان سعيد كلمه ترحيبية بالمتحدثين وبالطلاب, مؤكدا بان كلية بئر السبع الأهلية مكان طبيعي لمثل هذه الأمسيات التي تعنى بالثقافة والأدب العربي, دون الحاجة إلى تصاريح من هذا أو ذاك. مبشرا الطلاب بان الكلية ستدرس 18 نقطة استحقاق أدب عربي وباللغة العربية في العام الدراسي الجديد بضمنها دواوين درويش الشعرية.

الشاعر المبدع سامي مهنا ضيف الأمسية ومتحدثها المركزي والذي أبدى اطلاعاً متعمقًا ، تناول في محاضرة شفهية مثيرة ومليئة بتفاصيل وحيثيات ومراحل حياة درويش وتأثيرها على شعره ونصوصه. بدءاً بالتهجير من بلدته البروة وانتقاله وعائلته إلى لبنان وعودتهم متسلّلين ليجد قريته مهدّمة،والتأثير الشديد لهذا الحدث الذي رافق الشاعر طوال حياته وبقي متجلّياً جليًا في أشعاره ونصوصه، حتى المتقدّمة منها، وهذا الأثر النفسي واضح في قصيدة الرائعة أبد الصبّار في مجموعة "لماذا تركت الحصان وحيدًا" تمثيلاً لا حصرًا.
ثم تطرق لمرحلة حيفا وسكن درويش في عشرينات عمره فيها، وانتسابه للحزب الشيوعي وعمله الصحافي وعن الإقامة شبه الجبرية التي فرضت عليه، وبداية بروزه وبعض زملائه محليًا وعربيًا، انتقل بعدها لعرض مرحلة الهجرة التي ابتدأت إلى الاتحاد السوفيتي ومن ثم إلى القاهرة، وعمله في جريدة الأهرام بجانب كبار أدباء وصحافيي مصر كنجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم ومحمد حسنين هيكل وآخرين، وهذه المرحلة مكنته من التعرف والانفتاح على الأدب العربي المعاصر، الذي لم يتمكن من الإطلاع عليه بعمق وتنوع وهو داخل إسرائيل التي منعت آنذاك إدخال الكتب إلى البلاد، وقد كانت الطريقة الوحيدة للحصول على الكتب عن طريق الحجاج المسيحيين الذين كانوا يزورون بيت لحم ويأتون بالكتب القليلة.
والقصيدة التي تمثل هذا الانفتاح الذي أتاح للشاعر التطور هي "سرحان يشرب القهوة في الكفيتيريا" ولا شك أن آراء مجلة "شعر" واضحة المعالم في هذه القصيدة وفي المرحلة برمتّها.
ثم جاءت مرحلة بيروت والتحاق درويش بمنظمة التحرير الفلسطينية، وقسّم فترة بيروت الى قسمين غير متكافئين من ناحية نفسية قصائد درويش، وهما مرحلة ما قبل وما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، ومديح الظل العالي وكتاب ذاكرة للنسيان يشكلان الذاكرة الفردية والجماعية وتأريخ لمرحلة من أشد مراحل الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير تعقيدًا وتركيبًا، ويتوضح هذا بأسلوبه الملحمي الحماسي الحزين ذي النبرة العالية في مديح الظل العالي، وذاكرته الشخصية العامة في ذاكرة للنسيان، ومرحلة ما بعد بيروت وهي مرحلة تونس/ باريس، وتأثير باريس، مدينة الشعر والحب والهدوء الجلي في أدب درويش، حيث ينتقل إلى مرحلة فنية جديدة متجلية في"ورد أقل" على وجه الخصوص.
رفض درويش فكرة اوسلو مستشرفًا تابعياتها السلبية على الشعب الفلسطيني وحقوقه, واستقلاله، وأفق إمكانية إقامة الدولة المنشودة، إلا أنه قرر (العودة) إلى رام الله ليعيش متنقلاً بينها وبين عمان. رام الله مكان اختيرت كمكان للنشاط السياسي، وعمان اختيرت للهدوء والقراءه والكتابه. فكان درويش يلتهم الكتب ويطوي صفحاتها لتوسيع ثقافته وتطوير ذاته،
في هذه المرحلة كتب مجموعاته الأخيرة، ويضيف مهنا أن يعتقد كما يعتقد معظم قراء ودرويش أن مرحلته الأخيرة التي بدأت تنعطف من مجموعة "لماذا تركت الحصان وحيدا، هي التي جعلت منه شاعرًا عربيًا وعالميًا هامًا وكبيرًا، وهنالك أعمال خرقت نهج درويش الذي أتبعه في هذه المرحلة "كالجدارية"، التي يخاطب فيها الموت بأسلوب قل مثيله منذ ملحمة جلجامش، وأيضًا مجموعة قصائد الحب "سرير الغريبة" وقصيدة "كاما سوترا" التي يراها أجمل قصائد الكتاب، ومرورًا بحالة حصار التي لا تشبه باقي مجموعاته نظرًا لتصوير الحالة، وكزهر اللوز أو أبعد، ولا تعتذر عما فعلت، وفي حضرة الغياب ومجموعة "أثر الفراشة" هي الأجمل والأكثر إبداعًا برأي مهنا، وانتهاءً في مجموعته التي صدرت بعد وفاته "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي" وجميعها خلاصة لتجربته الطويلة والعميقة والمدهشة والنادرة التي توثّق تاريخ وتطلعات وآلام وآمال شعب، وأحلام ورؤى وأحاسيس وفنية وآفاق شاعر، حوّل قضيته وقضية شعبه إلى قضية إنسانية، تتجاوز شروطها وظروفها، ومكانها وزمانها، بشعرية عالية لرفعت من مدماك الشعر والأدب العربي والعالمي.
تطرق مهنا أيضا إلى الأبعاد الجمالية في شعر ونثر، رافضا أن يُنظر اليه كشاعر محصور في قضية، رغم حضور فلسطين في شعره، متطلعا أن يقاس شعره في ميزان الشعر المحض الخالص، فالأدب والجمال قضية بحد ذاتها، تدعم القضية السياسية وترفعها إلى مصاف أعلى وأرقى، محمود درويش من كبار الشعراء العرب، في كل الأزمنة، يقف إلى جانب امرئ القيس وأبي تمام والمتنبي، وسيخلد مثلهم.
تخلل الأمسية قراءة قصائد مختارة من شعر درويش بأداء الفنانة والإعلامية سناء لهب، التي تألقت في الإلقاء، وأزهت الحضور بطلتها البهية، وأسلوبها المثير في التواصل والتفاعل مع الجمهور ومخاطبه بالفن. واعتبرت الندوة نشاطا مميزا هاما في إحياء الحياة الثقافية، وتطويرها مثنية على القائمين بهذا العمل ودور الكلية في الاهتمام بهذه بالجوانب المضيئة في الثقافة العربية الأصيلة.

وفي نهاية الأمسية شكر مديرها خليل الأستاذ دهابشه الشاعر سامي مهنا والفنانة سناء لهب على أدائهما المميز، وإسراعهم في تلبية الدعوة والقدوم إلى النقب, كما وأثنى على مجلس الطلاب ورئيسه الطالب موسى أبو زايد على جهدهم في تنظيم الأمسية وإنجاحها مؤكدا على أنها محطة أولى من مشروع تثقيفي أكاديمي يرمي إلى إثراء حياة الطلاب أدبيا وثقافيا في الكلية ومحيطها.

.

التعليقات